حان موعد نشرة الاخبار , تحيط النساء بجهاز الراديو الصغير الاسود الذي عليه ان يدير انتانه الى جهة محددة في اعلى شرفة في الفندق لنسمع ما يقرأه المذيع في نشرته ..يعم الصمت الاطفال قبل النساء وهم يفكون رموز تعداد شوراعهم واحيائهم التي تتعرض للقصف واسماء الجرحى والقتلى في المستشفيات ..ثم تنتهي النشرة ويفرط عقد التجمع الاجباري على مدار الساعة امام جهاز الراديو الذي يعمل على البطارية في زمن الشمعة والقنديل ..ويبدأ مسلسل الضحك على المذيع البيروتي الذي لا يعرف كيف يلفظ اسماء الشوارع والعائلات الطرابلسية..
لا وسيلة اتصال مع عالم المدينة المحاصرة الا هذا الراديو وبعض النازحين الجدد الذي يصلون الى سير الضنية افرادا او جماعات هربا من قصف الميدنة وقتل شبابها..
قبل ايام قليلة
قرر جدي ان علينا نحن صغار العائلة ونساءها ان نرحل ان نحزم حقائبنا ونخرج من المدينة المحاصرة فورا...كانت المدينة تقصف ومنازلها تهدم وشبابها يقتلون ..منزل جدي الارضي تحول الى ملجأ للعائلة والجيران ورصت واجهته الزجاجية باكياس الرمل ..
سعر ربطة الخبز قارب سعر الذهب والبنزين لا يباع منه اكثر من تنكة واحدة للسيارة الواحدة وبعد واسطة مع صاحب محطة البنزين..
جمعنا جدي في سيارته واخرجنا من الحي سالمين بفضل دعوات جدتي, و اخترقنا حصار المدينة بفضل العناية الالهية التي اوصلتنا الى " سير الضنية " ملجأ ابناء طرابلس في حرب تدميرها..
لم تكن سير وحدها حاضنة للطرابلسيين فلقد نزح ابناء المدينة المنكوبة على حدود الوطن من جباله الى شواطىء بحاره..فتحت المدارس للعائلات والبيوت للاصدقاء والاقارب والفنادق للهاربين الاخرين ..نزحت المدينة من على بكرة ابيها ومن لم ينزح منها صمد كالكبيس في ملاجى غير مؤهلة الا للجرذان والفئران او تهدم منزله فوق راسه فدفن تحته..
وصلنا الى سير وعاد جدي الى طرابلس ..هو لا يترك منزله ..لم اكن افهم يومها كلام جدي .لماذالا يترك البيت ويأتي معنا, لماذا عليه ان يعود الى المدينة تحت الرصاص والقذائف .. لم يكن وحيدا فالحي حافظ على رجاله وارسل نساءه واولاده بعيدا عن ألم المدينة ..
عاد جدي الى طرابلس و تقاسمنا نحن اللاجئين في سير هم طرابلس, الفتيان يساعدون في تأمين المؤن والمساعدات للنازحين .. والنساء يتابعن نشرات الاخبار على الراديو الاسود الصغير الذي يلتقط اذاعة واحدة من اعلى شرفة في الفندق..
انتهت الحرب..فالحرب لا تدوم الى ما لا نهاية ..دمرت المدينة استبيحت شوارعها وقتل اهلها وعدنا الى طرابلس...مناطق مهدمة ,بنايات على الارض ,شوارع لا يمكن عبورها ..خطوط النار لم تترك حياة حتى للفئران ...نقترب بسيارة جدي من حينا ..الحي الذي وان ابتعد عن المعركة الا انه يقع في قلب المدينة وكل شوارع المدينة منهكة وكل منازلها منهارة وكل سرير فيها مغطى بالرصاص او الزجاج او التراب ...
ندخل البيت لتنهرنا جدتي لا تتحركوا الزجاج في كل مكان ..تبدأ حملة التنظيفات ورشة اعادة الاعمار ..يعود منزل جدي الى حياته تعود الحياة الى حينا الطرابلسي الى شوراع المدينة ..مات من مات قتل من قتل هدمت المنازل على رؤوس الناس و عادت الحياة الى المدينة..طرابلس لم تمت ..حمص لن تموت ...
التعليقات (0)