ظل الكثير يعتقدون أن حياة القصور في عهد الملك الراحل الحسن الثاني في شهر رمضان مطبوعة بمشاهد من ألف ليلة وليلة. كما شاعت في الأوساط الشعبية جملة من الاعتقادات، منها "التبارود"، وهي خليط قيل إنه يهيأ في إحدى ليالي رمضان ويدهن به الملك وجهه لبعث الهيبة. كما أن أهل القصر كانوا ينفرون من مصادفة عيد الفطر وعيد الأضحى يوم الجمعة، باعتباره إشارة لحدوث شؤم ما، وهذا أمر ارتبط بمعتقدات أخرى تلفها بعض الغرابة، مثل عدم الزامية قيام الملوك العلويين بالحج وعدم عبور واد ماسة، لذا كان الملك الراحل الحسن الثاني، في زياراته إلى الجنوب، حينما يصل موكبه إلى واد ماسة، جنوب أيت ملول، في الطريق المؤدية إلى تزنيت، يغادر السيارة أو الحافلة ويركب طائرة مروحية تنقله إلى الجانب الآخر لواد ماسة من جهة البحر تلافيا لعبوره. ومن التقاليد التي ظلت سارية المفعول بالبلاط، لاسيما في شهر رمضان، أن المكلفين باللباس السلطاني الرسمي دأبوا على احترام بعض القواعد، وهي بمثابة إشارات يفهمها أهل القصر.
كان الخدم القائمون على اللباس السلطاني يحترمون مقاييس مضبوطة للجزء الظاهر من "الشاشية" الحمراء تحت العمامة البيضاء، وقيل إن كبر أو صغر ذلك الجزء الظاهر منها يدل على مزاج الملك في ذلك اليوم، فكبر الحجم الظاهر يشير إلى أن السلطان غاضب، والعكس صحيح، ذلك أنه إذا لم تظهر الشاشية الحمراء من تحت العمامة البيضاء، فيعني ذلك أن الملك في حالة من الحبور ولا يمكن طلب أي شيء منه.
جولان الملك مختفيا
كثيرون هم الذين ظلوا يعتقدون أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يتجول متخفيا، لاسيما في شهر رمضان. وحسب أخبار متناثرة هنا وهناك، تمكن بعض المواطنين من كشف هوية الملك وهو يتجول متخفيا وسط الرعية، ومنهم من كانوا سريعي البديهة فانقضوا على الفرصة لطلب تحقيق بعض رغباتهم وتحقيق أمنياتهم. وفي هذا الصدد تناسلت أخبار، منها خبر بائعة الخبز الفقيرة التي تحولت إلى تاجرة ذات رأسمال شخصي بفضل هبة ملكية مهمة.. وخبر سائق طاكسي صغير أجير، فاز بمبلغ مالي مكنه من اقتناء طاكسي خاص يديره بنفسه.
ومن القصص التي راجت بين المغاربة في بداية العهد الحسني، أن الملك الراحل الحسن الثاني، كان يقوم بما كان يقوم به والده الراحل محمد الخامس في شهر رمضان، إذ كان يمتطي صهوة جواده قُبَيْل آذان المغرب ويقوم بجولة خارج المشور بجانب الأسوار القديمة، فيخرج من باب زعير ليحيط بالمشور ويدخل من باب السفراء، وغالبا ما كان بعض المواطنين يستقرون ببعض الأماكن ويتناولون وجبة الإفطار بها، سعيا لمقابلة الملك من أجل تلبية بعض طلباتهم، إلا أن هذه العادة الملكية انقطعت مع توقيف مراسيم صلاة الجمعة بعد منتصف ستينات القرن الماضي. وفي نظر الكثير من المغاربة، كان الملك الحسن الثاني يعرف دقائق أحوال رعيته من خلال التجول متخفيا أو عبر تكليف أشخاص لاستقصاء الأحوال عن قرب وبالمعاينة اللصيقة.
رؤية الهلال وتليفون المساجد
في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت بشرى رؤية الهلال تنطلق من القصر الملكي بالرباط، إذ كان يصعد إلى سطح القصر عازف "الغيطة" ذائع الصيت آنذاك في العدوتين (الرباط وسلا)، "الكمرة"، فينطلق بإنشاد مقطوعات مشهورة، وقد قيل عنه إنه كان "يكلم الغيطة كما يريد ويشاء" بفعل إتقان استعمالها، كيف لا وهو "غياط" القصر. وبعد ذلك دأبت التفلزة المغربية على بث صور "الكمرة" وهو يعزف على "الغيطة" قبل الإعلان عن بشرى ثبوت رؤية الهلال، وقد دام الحال على هذا المنوال لمدة سنوات عديدة، لدرجة أصبح ظهور "الكمرة" بتلفزة دار البريهي مرتبطا ببشرى قدوم شهر رمضان أو الإعلان عن نهايته وقدوم عيد الفطر.
وحدث في إحدى السنوات أن تم الإعلان عن ثبوت رؤية الهلال بعد طلوع شمس اليوم الموالي، إذ كان المغاربة ممسكين، معتقدين أن رمضان لم ينته بعد، وقد تم حلول عيد الفطر في الساعة العاشرة صباحا.و في السنة الموالية أمر الملك الراحل الحسن الثاني بتزويد كبريات المساجد بمختلف المدن بخطوط الهواتف حتى يتمكن مراقبو بروز الهلال من إخبار الوزارة فور رؤيته حتى لا يتكرر ما حدث في السنة الماضية. ومنذ ذلك الوقت، خلافا لباقي الوزارات التي تدخل مرحلة سبات في شهر رمضان، بدأت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف تعرف نشاطا ملحوظا مع اقتراب شهر رمضان وخلاله، أكثر من نشاطها باقي السنة، إذ أضحت تسهر بجدية على ترميم المساجد وتغيير أفرشتها والحرص على تزويد بعضها بخطوط الهواتف.
"حصيرة" مسجد أهل فاس
"تاحاصرت"، من المهن التقليدية التي كانت تزخر بها المدن العتيقة، وكان "الحصارة" (أصحاب هذه المهنة) ينتظرون بفارغ الصبر قرب قدوم شهر رمضان، إذ كانت الحركة تنشط عندهم بحلول شعبان بفعل طلبات "الحصير" (بساط مصنوع من نوع من الدوم) من طرف وزارة الأوقاف والزوايا والأضرحة لتغيير أفرشتها.و في أحد الأيام الرمضانية، حضر الملك الراحل الحسن الثاني على حين غرة إلى مسجد أهل فاس بالمشور لصلاة التراويح، وعند خروجه، يقول شاهد عيان، لاحظ الملك حصيرا من "البلاستيك" ملفوفا بالقرب من الباب، فأمر بتنحية كل "حصيرة بلاستيكية" بذلك المسجد وتعويضها بالحصير التقليدي المصنوع من الدوم، وقال للقائم على المسجد، بصوت تلفه علامات الغضب البين: "واش بغيتوا تَقْضِيوْ على تاحصارت".
عندما تزامنت مراسيم البيعة مع رمضان
في منتصف عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تزامن عيد العرش ومراسيم تقديم البيعة مع شهر رمضان، واقترح أحد المقربين تنظيمها بعد أذان المغرب، فواجهه الملك بدرس مستفيض بخصوص البيعة ومدلولها وميقات تقديمها منذ أن تولت الأسرة العلوية زمام الأمور بالمغرب، وتفاجأ صاحب الاقتراح من سرد المصادر وأمهات المخطوطات والكتب الغزيرة التي استقى منها الملك الراحل معلوماته، مع الوقوف على إشارات قوية دالة على استمرار نفس الطقوس وفي ذات الميقات دون تغيير على امتداد عقود، إذ لم يكن اختيار حفل تقديم البيعة اعتباطا، وإنما هي ديمومة مظاهر لبنات السلطة ولا يصح تغيير ميقاتها وأجواء أدائها ولو في شهر رمضان، وذلك باعتبارها رباطا بين الملك ورعيته، علاوة على أنها مظهر من مظاهر الهيبة والخضوع التي لا يمكن زعزعتها مهما كان الأمر، فمراسيم البيعة رهينة بفكر سياسي "سلطاني" (وهو التعبير الذي استعمله الملك الراحل)، غير مدون كله، لكنه ظل حاضرا باستمرار، ويمتد تاريخه على الأقل منذ عهد المرابطين وجوهر هذا الفكر يقوم على شخصية الحاكم السلطاني، وهو ما تكرس بقوة على امتداد عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
أجواء رمضان بالبلاط
خلال عهد الملك الراحل الحسن الثاني لم تكن أجواء الحياة اليومية بالبلاط تختلف كثيرا في شهر رمضان، إذ يظل الملك متفردا، من حيث طريقة اللباس والمأكل والإقامة والترفيه أيضا. ففي رمضان عرف عن الملك الراحل بقاؤه مدة أطول بجناحه الخاص محاطا بخواصه دون تخليه عن عادته في تفقد أحوال القصر خلال النهار والليل. ولم تكن المائدة الملكية خاصة في شهر رمضان، وإنما تظل مشابهة لباقي الأيام، وهي غالبا ما تحضر للتشريف وليس للشَّبَع، ونادرا جدا ما كان يحضر غريب عن أهل القصر ضيوفا حول مائدة الملك خلال شهر رمضان، وإذا حضر فلا ينبس بكلمة إلا إذا أذن له الملك، وإذا رفع الملك يده عن الطعام يكف الحاضرون عن الأكل، فيأمرهم الملك بالاستمرار إذا رغبوا في ذلك. وحسب العالمين بخبايا البلاط في العهد الحسني، كان يسود في شهر رمضان عدم القدرة على مكالمة الملك مباشرة، إلا في بعض المناسبات حيث يرفع فيها نسبيا هذا المنع وذلك بشروط دقيقة تنظمها طقوس صارمة، إذ، في شهر رمضان، كان أهل القصر يحرصون أكثر على ضرورة احترام المسافة الواجبة للملك.
قبل مرضه، كانت مجالس الملك لا تنتهي، وفي هذا الصدد يؤكد الصحفي الفرنسي "إريك لورون" (وهو الذي قضى وقتا طويلا رفقة الملك قبيل رحيله، عندما كان يعد لكتاب "ذاكرة ملك")، أن الراحل الحسن الثاني في آخر أيامه لم يعد يستقبل الكثير من الناس كما كان في الماضي، وكان يبدو متعبا ومرتخيا، كأنه يشعر بعزلة كبيرة في دواخله، فبصفته ملكا قويا وشديد البأس، كان ذكيا جدا وفطنا لدرجة لا تقوى وضاعة وتملق المحيطين به أن تخضعه، لكنه كان ملتصقا بالتقاليد والطقوس البروتوكولية، لذلك كان يقبل بالكثير من أنواع التملق. لكن الشهادات التي صدرت عن خصومه أجمعت على الإشادة بخصاله كرجل دولة كبير.و كان من عادة الملك الراحل الحسن الثاني، لاسيما في شهر رمضان، أن يبخر المكان الذي ينام فيه بالعود القماري، رغم تنبيه الأطباء بالتخلي عن هذه العادة المؤثرة على صحته، لكنه كان يعشق رائحته ويعتبره أحسن الهدايا التي تقدم إليه. وحسب بعض المقربين من جلالته، كان الراحل الحسن الثاني غالبا ما يبعث لإشاعة روح الدعابة في شهر رمضان، ولم يكن ينقطع عن سرد الكثير من النكت في بداية عهده، بل منذ كان وليا للعهد. في حين قال آخرون إن مزاج الملك الراحل كان قابلا للتغيير بسرعة ذلك أن شخصيته مركبة ومتداخلة الأبعاد. وفي رمضان سنتي 1971 و1972 انقطع كثيرا عن الظهور، واتضحت عدم ثقته بالمحيطين به والمقربين منه.
مجالس الملك
في شهر رمضان كان الراحل الحسن الثاني يحضر مجالس طرب ومسامرة بهدف الترويح عن النفس والتخلص من أعباء التدبير السياسي، وكذلك من أجل تتبع أوضاع الرعية. وقد عرف عنه، أنه كان يكلف جملة من الأشخاص في شهر رمضان، يتجولون بالمغرب لاستقصاء اهتمامات الناس ومعرفة أحوالهم، وكان الملك يجتمع بهم بانتظام للتعرف على ما جمعوه من معلومات ومعطيات. علما أن ظهور الملك في شهر الصيام كان يقل، ولا يظهر إلا مع بداية الدروس الحسنية التي يحضرها يوميا.
مؤنسو الملك
كان الملك الراحل الحسن الثاني لا يستقبل أشخاصا كثيرين في شهر رمضان، لكنه كان يكثر من مجالسة مؤنسيه، إلا الفقيه بين بين، الذي كان غالبا ما يجالسه رأسا لرأس في رمضان. ومن هؤلاء المؤنسين أحمد السنوسي وأحمد البيضاوي ومؤنس مصري شعبي وافته المنية بالمغرب وهو في خدمة الملك، حيث دفن بالرباط. وقد عرف على هذا الأخير أنه كان من عوام الناس كثير البسط والانشراح، وغالبا ما كان يقرأ "الأزلية" و"العنترية" على أسماع الراحل الحسن الثاني قبل أن يتوجه إلى فراشه، لاسيما في فصل الشتاء. كما كان هناك مؤنس يهودي متخصص في رواية الطرائف اليهودية لتسلية الملك، ووافته المنية وهو في خدمة القصر الملكي ودفن بالمغرب أيضا.
الفقيه بين بين أبرز مؤنسي الحسن الثاني
كان الفقيه بين بين آخر شخص سامر الملك الحسن الثاني قبل وفاته، وهو الذي ظل يؤنسه أكثر من ثلاثة عقود. ويعد الفقيه بين بين من أبرز ندماء الراحل الحسن الثاني، إذ كان لا يتركه إلا بعد أن ينام، وكان يطيل مجالسته خلال شهر رمضان، وهو الوحيد الذي كان يجلس بجانبه على متن السيارة. وقال بين بين، بعد وفاة الملك، لم يكن ينام إلا وقد رآه أمامه فيتذكر مجالسته بكل التفاصيل.كما دأب الفقيه بين بين على إضحاك الملك بحكي بعض النكت والطرائف، لكن غالبا ما كان يتحدث معه في شؤون الفكر والشعر والفقه والأدب والتاريخ، ويتبادلان معا القصائد الشعرية، علما أن الراحل الحسن الثاني كان يحب جميع أنواع الشعر ويحفظ المعلقات التي أعجب بها، خصوصا ما يتعلق بالغزل. وغالبا ما كان الفقيه بين بين يتعشى مع الملك قبل مؤانسته، وظل الملك الراحل يصر على حضوره كلما استقبل أو جالس أحد الشعراء المشهورين، وهذا ما حدث مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشاعر العراقي المهدي الجواهري.و كان بين بين لا يفارق الراحل الحسن الثاني ويلازمه في جميع أسفاره بالداخل والخارج.
ومن أصعب اللحظات التي قضاها رفقة الملك، لحظة الاحتجاز لمدة ثلاث ساعات كانت عصيبة إبان حدوث انقلاب الصخيرات الذي شارك فيه ابنه، وكذلك لحظة عزم الملك الراحل على تقديم استقالته وتخليه عن العرش في حالة فشل المسيرة الخضراء، بعد مصارحة المغاربة بأن عليهم أن يبحثوا عمن يقوم مقامه. وفي هذا الصدد يقول الفقيه بين بين في تصريحه لصحيفة "الجريدة الأخرى"، إن الراحل الحسن الثاني امتنع ثلاثة أيام متتالية عن تناول الطعام منهمكا في تفكير قدسي عميق بهذا الخصوص. وكان ذلك في سنة 1975، ولم يكن الملك الراحل الحسن الثاني غاضبا عندما كشف عن نية استقالته، لكن القلق كان باديا عليه، واختفى عن الأنظار ثلاثة أيام بأكادير لم يتحدث فيها مع أحد. كما كشف الفقيه بين بين عن حادثة طريفة، مفادها أن أحد الصحفيين الإسبان حضر إلى المغرب لتغطية المسيرة الخضراء، وأجر سيارة لاقتياده إلى الصحراء، وفي طريقهما سمع السائق المغربي، عبر الراديو، خطاب الملك الذي أمر فيه بإيقاف المسيرة الخضراء بعد أن حققت هدفها، فامتثل توا للأمر وانحاز إلى جانب الطريق ثم أوقف محرك السيارة، وعندما استفسره الصحفي مندهشا أجابه السائق قائلا: "لقد أمرنا الملك بالتوقف، ولا يمكن مخالفة أمره".و دأب الملك الراحل الحسن الثاني على وصف مؤنسه، الفقيه بين بين، بأكبر راوية لشاعر الحمراء، ابن إبراهيم، صاحب قصيدة المقهى البلدي.
في ليالي رمضان كان الراحل الحسن الثاني يحب سماع الشعر من إلقاء مؤنسه حتى يذهب إلى فراش نومه، إذ كان يقرأه عليه حتى يغفو، ولم يكن بين بين يغادر القصر إلا قبل أذان الصبح. وحسب الفقيه بين بين، إن غضب الملك غالبا ما كان مستطيرا، وإذا كان غاضبا لا يتكلم إلا بالإشارة، لكن حين يكون مسرورا يحب السماع للشعر والنكت والطرائف، وكان يسمع ويحكي كذلك، لكن في شهر رمضان لم يكن غضب الملك يطول كما هو الأمر في الأيام العادية.وقد التقى الملك الراحل الفقيه بين بين لأول مرة بفضل قصيدة ألقاها بمناسبة عيد العرش ووصل مضمونها إلى علم الملك، وكان مطلعها:
هل يرتديني العرش من شعرائه
وأنا حليف الشعر تحت لوائه
أفلا يغني الطائر الغريد
في روض أتى الروض حسن غنائه
فأنا ذلك الغريد...
بعث الراحل الحسن الثاني في طلب الفقيه بين بين ودام لقاؤهما أكثر من ثلاث ساعات في أحد أيام رمضان، ثم كلفه بجمع ديوان شاعر الحمراء، وبعد انجاز المهمة عينه كأحد مؤنسيه فامتثل الفقيه بين بين للأمر وظل بجانبه إلى أن وافته المنية سنة 1999.
مجالسة الفنانين
في بداية عهده كان الراحل الحسن الثاني يخصص بعض أيام شهر رمضان لمجالسة الفنانين المغاربة والعرب، من أمثال محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ووديع الصافي وأم كلثوم وصباح وغيرهم، وبعض الشعراء العرب، وهم الذين أقروا، قبل المغاربة، بأن الملك الراحل كان الفنان الأول. وقد عرف عن جلالته أنه كان يهتم بالمجال الموسيقي، وكان قد خصص له وقتا عندما كان يتابع دراسته بفرنسا قبل أن يخيره والده الراحل محمد الخامس بين الاهتمام بشؤون الملك أو التفرغ للموسيقى والفن، وقد عرف عنه أنه كان يخصص وقتا خاصا وحميميا للموسيقى، لاسيما في شهر رمضان. وهناك أغنيات وطنية كثيرة ولدت في شهر رمضان، في وقت كان هذا الصنف نوعا من التزلف للملك، بمناسبة أو غير مناسبة، الشيء الذي جعلها تتحول إلى أداة سياسية تستهدف امتلاك أحاسيس المغاربة وشعورهم، رغم أن تأثيرها على أغلب المغاربة كان عكس المنتظر منها بفعل تكرارها أكثر من اللازم في المناسبات الوطنية، إذ كانت تستحوذ على ساعات البث الإذاعي والتلفزي، كما شكلت نوعا من التكسب، إذ أن جميع الفنانين كانوا يتنافسون في هذا المجال أكثر من أي مجال فني آخر.
ليلة "شعبانة"
من طقوس رمضان بالقصر الملكي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني إحياء ليلة "شعبانة" المعروفة لدى الأوساط الشعبية المغربية، وقد حرص على إحيائها واستدعاء بعض المقربين إليها من الفنانين والفقهاء والشعراء.و كان الملك الراحل يستقبل اقتراب حلول رمضان بتنظيم "شعبانة"، وهي ظاهرة عرف بها الملوك العلويون، إذ تستدعى لها جميع الأهازيج الشعبية الممثلة للخريطة الفنية الشعبية المغربية.
لقد دأب الراحل الحسن الثاني على إحيائها، ولم تكن مجرد ليلة واحدة فقط كما هي العادة، وإنما ليالي "شعبانة"، إذ كانت تخصص ليلة للفولكلور وأخرى للغناء الشعبي وأخرى للغناء العصري وأخرى للفكاهة.. وكان الراحل الحسن الثاني يخصص مبالغ مالية هامة يقدمها للفنانين المشاركين والذين كانوا ينتظرون "شعبانة" الملكية بفارغ الصبر مع قرب حلول شهر رمضان، فكان الراحل يغدق فيها على الفنانين أموالا كثيرة من ماله الخاص، وكانت توزع بشكل اعتباطي (كلها وزهرو). وكانت ليالي شعبانة تحيا بالقصر الملكي وبحضور الملك، وأغلب طرائف الراحل الحسن الثاني مع الفنانين المغاربة والتي كشفت عنها الصحافة حدثت في ليالي "شعبانة".
للدروس الحسنية طرائفها وغرائبها
إن مراسيم حضور الملك للدروس الدينية الرمضانية لها أكثر من دلالة، وتحمل علامات تساهم في جعل سلطة الملك مرئية وبادية للعيان، وهذه من الأمور التي تدخل في نطاق شكليات الحكم الذي يضم جملة من الرموز والإشارات السلطوية. فمرة أوقف الملك الراحل الحسن الثاني أحد المقرئين في الدروس الحسنية المبثوثة مباشرة على الهواء، وقال له: "أريدك أن تقرأ بدون غنة وبدون سيكة ونهوان"، وهي مقامات موسيقية، أوقفه لأنه غضب للأمر، إذ كان من المعروف على الحسن الثاني أنه كان يستحسن القراءة على الطريقة المغربية كما تألق فيها المقرئ بنموسى، ذائع الصيت بالمغرب، والذي دأب قبل وفاته على الجلوس قبالة قبر الراحل محمد الخامس، بين قبري الشقيقين الراحلين الملك الحسن الثاني والأمير عبد الله.. كما عرف عنه أنه كان يتشبث بالبصمات والمقومات المغربية الصرفة، كما تأكد أن الراحل الحسن الثاني كان يتكلم اللغة العربية ببلاغة، وهذا ما أكده أكثر من مرة مؤنسه الفقيه بين بين، وكما تبين ذلك من خلال الدرس الديني الذي ألقاه الراحل خلال إحدى أمسيات رمضان المعروفة بالدروس الحسنية معتمدا لغة ونهج الفقهاء.
والدروس الحسنية تعتبر من العادات التي حرص الراحل الحسن الثاني على إعادة إحيائها، بعد أن توارت منذ وفاة المولى إسماعيل الذي بادر بإقرارها بالمغرب، وكذلك فعل المولى الحسن الأول، وكان الراحل الحسن الثاني يستدعي إليها أكبر العلماء والفقهاء في العالم الإسلامي والعالم الغربي، ويقيمون في أفخر الفنادق ويتناولون وجبات الإفطار الرمضانية بالقصر الملكي بالرابط، وفي سنة 1998 كانت آخر الدروس الحسنية في حياة الملك الحسن الثاني، حيث تم استدعاء مائة وعشرة من العلماء من مصر ولبنان وأوزباكستان والسنيغال والصين والولايات المتحدة الأمريكية... وكلهم أودعوا مواضيع محاضراتهم مسبقا بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف ليتم عرضها على القصر للمصادقة، كإجراء ضروري لإدماجها في البرنامج. وبعد وفاة الحسن الثاني لم يتغير أي شيء، إذ داوم الملك محمد السادس على تقليد الدروس الحسنية مع التقليل شيئا ما من البهرجة التي كانت ترافقها في عهد والده الراحل.
الملك نبذ الحديث عن الفقر في رمضان
سبق للأميرة لالة فاطمة الزهراء العزيزية، بنت السلطان عبد العزيز، قبل وفاتها، أن صرحت بأن الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن يستحسن إطلاقا الحديث عن الفقر والفقراء في شهر رمضان في حضرته، كما كان ينبذ أن يناقشه أحد من خواصه أو من المقربين منه في هذا الموضوع. وحين كلفها بقضية المرأة وعينها رئيسة للاتحاد النسوي وحثها على الاهتمام بإشكالية تحريرها، كانت الأميرة تجتهد، لدرجة الإرهاق لاختيار العبارات التي ستستخدمها في حضرته، حتى لا تتفوه بعبارات تدل على الفقر أو تشير لفقراء المغرب من قريب أو بعيد، وقالت إنها كانت تقوم بذلك عن مضض.
وجبات الملك
بخصوص الأكل وأنواع الطعام في شهر رمضان، ظل الملك الراحل الحسن الثاني هو المرجع الأول والأخير في كل كبيرة وصغيرة، إذ كان يولي اهتماما خاصا لمعرفة كل مجريات الحياة بدار المخزن والعاملين بها، بما فيهم طباخو البلاط.و كان الراحل الحسن الثاني يهتم بأمور المطبخ والقائمين عليه، وبفرقة الخدم والعبيد المكلفة بالمائدة الملكية. وبهذا الخصوص أُحْضر للملك الراحل يوما طبق من الكسكس، وبمجرد إلقاء نظرة أولى عليه سأل الخادم من أعده، ثم أمر بإحضاره، وحين مثل الطباخ أمامه بدأ الملك الراحل يسأله عن طريقة تصفيف اللحم والخضر التي اعتمدها في تقديم الطبق الموجود أمامه، وذكره بالطريقة التي كان يعتمدها قبل ذلك اليوم في إعداد أطباق الكسكس. وكان من عادة الملك الراحل وطقوسه أن يأكل لوحده بينما يجلس الآخرون أمامه، وغالبا ما كان أحد مهرجي البلاط يقص إحدى الروايات لفتح شهية الملك. وقد عرف عن الملك الراحل الحسن الثاني أنه كان يرسل إلى الطباخ ليعرف ماذا سيعد له. كما أن له ولع خاص بفنون الطبخ، وكان غالبا ما يدخل إلى مطابخ القصور لتفقد أحوالها ويناقش الطباخين في أساليب تحضير الوجبات، وكان معروفا عنه حمله مطبخا كاملا، إما على متن الطائرة أو الباخرة، أثناء سفره، لاسيما وأنه كان يفتخر بالمطبخ المغربي ويدعو ضيوفه، حتى وهو خارج المغرب، ويأمر بإعداد وجبات مغربية أصيلة لهم. كما كان الملك الراحل الحسن الثاني يتجنب الأكل المُحَضَّر خارج المغرب من طرف غير طباخيه لأسباب صحية وأمنية، إذ لم يكن يأكل إلا ما تم إعداده من طرف طباخيه. كما أن هناك قصصا تروي أن الراحل الحسن الثاني اخترع بعض الأكلات، إذ كان ذا ذوق راق ورفيع، رغم أنه لم يكن من المولعين بكثرة الطعام.
لباس الملك في رمضان
في شهر رمضان كان الملك الراحل الحسن الثاني يكثر من اللباس التقليدي (الجلباب الأبيض والبلغة البزيوية الصفراء فاقعة اللون وأحيانا الحذاء الأسود). وحسب العالمين بخبايا حياة البلاط يعتبر الراحل الحسن الثاني أول من ارتدى الجلباب المغربي الأصيل مصحوبا بالحذاء الأوروبي، ويمتاز هذا الجلباب المرافق للحذاء بقصر طوله مقارنة مع الجلباب المرافق للبلغة والتي تكاد أطرافه تلامس وجهها. كما عمد الراحل الحسن الثاني إلى إحلال "الشاشية" المخزنية الحمراء محل الطربوش، علما أن الأولى تحيل على الخنوع والثاني على الوطنية والحركة الوطنية، لقد فرض الملك الراحل على البرلمانيين في جلسة افتتاح البرلمان وعلى المشاركين في تقديم البيعة وضع الشاشية المخزنية الحمراء عوض الطربوش الوطني.
الحسن الثاني يفضل الإفطار وبجانبه الأميرة لالة سكنية
عُرف عن الملك الراحل الحسن الثاني، أنه كان في بعض أيام رمضان، يستدعي في آخر اللحظات، ابنة الأميرة لالة مريم، الأميرة لالة سكينة للإفطار معه. وكانت تعطى في بعض الأحيان تعليمات من الملك الراحل، في آخر لحظة لمصالح الدرك الملكي، لجلب الأميرة لالة سكينة من نواحي الدار البيضاء أو الرباط وإحضارها إلى القصر الملكي العامر بالرباط. ومن المعلوم أن الأميرة لالة سكينة، كانت تحظى بعناية كريمة من الملك الراحل الحسن الثاني بل إن الملك الراحل هو من منحها اسم لالة سكينة.
الرباط مدينة الحسن الثاني المفضلة خلال رمضان
رغم أن الملك الراحل الحسن الثاني، كان ينتقل بين قصوره المنتشرة في باقي الجهات والأقاليم، فإنه كان يفضل صيام شهر رمضان، متنقلا بين القصر العامر وسط تواركة بالرباط، وكذا قصر صخيرات الشاطئي. وكان في بعض أيام رمضان يفضل التنقل عبر سيارته، قرب شاطئ الصخيرات تمارة وبوزنيقة، ولا يعود إلى القصر العامر إلا مع اقتراب إعطاء الدروس الحسنية التي كانت في الغالب تقدم بشكل مباشر عبر شاشات التلفزة.
الحاج ثابت يجلس الملك أمام شاشة كبرى
علمنا أنه أثناء محاكمة العميد المركزي للاستعلامات العامة بالدار البيضاء، المسمى الحاج مصطفى ثابت، كان الملك الراحل الحسن الثاني يتابع شخصيا بثا مباشرا من إحدى محاكم الاستئناف بالدار البيضاء. بل إن الملك الحسن الثاني، كان لا يتعب من المرافعات الماراطونية التي جرت خلال شهر رمضان الذي صادف محاكمة العميد المذكور. وإذا كان الملك الراحل، قد غضب من تصرفات العميد الحاج ثابت، فإنه كان - حسب مصدرنا - يتابع بحياد تام هذه القضية عبر شاشة عملاقة وبشكل مباشر.
ملك لا يشاهد التلفاز
على عكس الناس في رمضان، فإن الحسن الثاني كان لا يفضل مشاهدة التلفاز، وغالبية ليالي رمضان وبعد صلاة العشاء، كان يجري اتصالات ومشاورات مع مستشاريه، وبدون استثناء، إلى درجة أن مقربين منه، يؤكدون أن الملك الراحل اتخذ قرارات مصيرية خلال شهر رمضان، بل إن مقربين من القصر، صرحوا لنا أن الملك الراحل في بعض الأوقات يظل ساهرا إلى حدود آذان صلاة الفجر
التعليقات (0)