نعم هو سمير عائد من (الغيط) بجسده النحيل على ظهر البقرة التي تعتبر مطبخ البيت لا تطبخ سوى اللبن.....ولكن زهرة زوجة جده وليست جدته تحول اللبن إلى عشرة أنواع من الجبن والزبد....لم تكن زهرة تحب سمير لأنه كان يختلس الوقت ليقرأ في كتب المدرسة الابتدائية الجديدة ولا يهتم (بحش البرسيم) للبقرة.....كان ذلك في أعقاب ثورة 23 في العام الثاني والخمسين من القرن الماضي... كان الجد يحاول منع سمير من الاستمرار في الدراسة ليكون صبيا نافعا يجر البقرة صباحا إلى الحقل ويسحبها عند المغرب إلى الدار....وربما يستعين به الجد عندما يكون شابا يافعا لتولي مهام عمه صالح بعد دخوله العام الخمسين وظهور علامات الصفرة على وجهه الشاحب.....كان سمير يذهب كل ظهيرة (عندما يكون الجد في قيلولته نائما تحت التوته) إلى إبراهيم فتى أحلام بنات القرية....كلهن يحلمن بقدوم الجد ومعه إبراهيم ليخطب أي منهن...إبراهيم قد تخطى امتحان الثانوية بعد أن تحول إلى حضانة أمه في مدينة بني عامر في المرحلة الإعدادية ليلتحق بمدرستها بعد فقد والده في (الفرة) وهي وباء الكوليرا الذي ضرب مصر آنذاك...إبراهيم كان يخطط للزواج من أخت سمير فاتنة قرية الخلوة مركز بني عامر ...وفي المقابل يخطب ود سمير ويتقرب إليه بشرح الحساب فيما يتولى الشيخ محمد مؤذن المسجد تعليمه مبادئ القراءة ....لم يكن إبراهيم بالطبع يفصح عن نواياه لسمير خشية نقلها إلى الجد ويحدث ما لا يحمد عقباه غير أن هذا الحرص لم يمنع إبراهيم من السؤال عن نرجس كلما أتاح لنفسه فرصة مغلفة بعدم الاكتراث المصطنع....ولم يكن سمير يعي بعد أبعاد العلاقة إلا أنها رفق ومساعدة من إبراهيم لصبي مجتهد يتمنى أن يكون طبيبا مثل طبيب القرية ...ويأتي المساء وتبدأ مباراة سمير مع جده ...يا سمير....أيوه يا سيد ....نام ياسمير عشان تصحى بدري وتروح الغيط قبل الشمس ما تطلع....سمير يحدث نفسه قائلا في صوت خافت...تطلع روحك يا جد...كان يتمنى فعلا التخلص من جده القاسي الذي تولى تربيته بعد وفاة أبيه وزواج أمه من مأمون افندي ناظر عزبة الخواجه....الشعور بفقد الأب وزواج الأم ودخول سمير معتقل الجد جعل حياته جحيما لا يطاق...مصباح الكيروسين نمرة خمسة كان الصديق الصدوق لسمير يشعله له جده على أن ينام على ضوئه الخافت بسبب خوفه من الظلام ولا يتركه الجد حتى يغطي رأسه باللحاف مع التنبيه ألا يرفع ضوء المصباح بغرض توفير الكيروسين....ولا يلبث الجد أن يخرج من الغرفة حتى يطل سمير برأسه ويفتح الكتاب وهو على حذر أن يطب عليه الجد اللعين........ثم مرت الأعوام وتمكن سمير من اجتياز المراحل إلى أن وصل كلية الطب ...كل ذلك كان بمساعدة مالية من مأمون افندي الذي نقله عنوة من وصاية الجد إلى حضانته منذ السنة الثانية الإعدادية وكان ذلك بالطبع حبا في أم سمير الأرملة الجميلة فتحية....ما أسعد أن تنتهي عذابات سمير حين عاد من القاهرة حاملا خبر حصوله على بكالوريوس طب الأسنان ...وكم كانت فتحية شاكرة ممتنة لمأمون افندي وكم كانت سعادتها أن عاد ابنها الطبيب الشاب إلى صحبة إخوته من أمه ليعيد المعروف إلى مأمون افندي برعايته في شيخوخته ومساعدة إخوته من أمه في دراساتهم ....وفي هذه الأثناء كان الجد في آخر حياته دائم الكلام عن جهوده في تعليم الحفيد سمير حتى حصوله على أكبر الدرجات وأصبح (كما يقول) طبيبا قد الدنيا.....
التعليقات (0)