يصنف الباحثون والنقاد العالميون رابندرانات طاغور الذي يحتفل العالم هذه الأيام بذكرى ميلاده المئة والخمسين كأعظم كاتب في الأدب الهندي الحديث لكونه جمع بين فنون الشعر والرواية والفلسفة والمسرح والموسيقى وساهم في وضع الكثير من أسس التربية الروحية التي أدهشت الناس وأسكنتهم في طمأنينة الحياة حتى فاقت شهرته حدود الهند.
وشكلت البيئة التي نشأ فيها رابندرانات طاغور المولود في مدينة كالكتا عام 1861 ملهمه الأساسي في الكثير من المبادئ التي طورها ونثرها أدباً وفكراً ولاسيما والده الذي كان أحد رواد حركة النهضة البنغالية من خلال سعيه للربط بين الثقافة الهندية التقليدية والأفكار والمفاهيم الغربية إضافة إلى أمه التي كانت تولي التعليم والموسيقى اهتماماً خاصاً وتناضل من أجل تحسين وضع المرأة في الهند فنشأ مع أخوته على درجة من التفوق العلمي والأدبي فاستطاعوا إغناء الثقافة والأدب والموسيقا البنغالية إلا أن نجم طاغور لمع واشتهر كأديب وإنسان لكونه الأميز والأكثر غزارة وتنوعاً وإنتاجاً.
ولم يكتف طاغور بدراسة الشعر والمسرح على يد مدرسه الخاص دفيجندرانات بل درس رياضة الجودو واللغة السنسكريتية وآدابها وعلم الفلك واللغة الإنكليزية وهكذا شكلت الفنون والآداب والعلوم جزءاً كبيراً من حياته.
بدأ طاغور نشر ابداعاته منذ عام 1890 حيث اصدر مجموعته الشعرية ماناسي "المثالي" التي دلت على نضج الشعر عنده وشكلت قفزة نوعية في عموم الشعر البنغالي.
ومنذ انتقاله إلى بنغلادش عام 1891 أمده القرويون البسطاء الذين عاش بينهم بالكثير من الإلهامات حول أوضاعهم المعيشية وعاداتهم الاجتماعية ومفاهيمهم الحياتية التي ظهرت روعتها في كتابات نثرية تميزت بمقدرته على رواية الأحاديث برهافة حس وأسلوب فكاهي انسحب على مجمل تجربته الأدبية.
أدرك طاغور جوهر السلوك الاجتماعي للمزارعين وهو الاعتماد على الذات والمبادرة المحلية في مجتمع القرية وهو ما شكل أساس إعادة تنظيم المجتمع في المناطق الريفية الهندية فعمل على إدخال رؤاه الفكرية التعليمية لتطوير الريف الهندي. وهنا ظهرت تجليات طاغور الفكرية من خلال تأسيسه مدرسة تجريبية في الهند عام 1891 سعى من خلالها لتطبيق نظرياته في التربية والتعليم عبر مزج التقاليد الهندية بما اكتسبه من الغرب فحقق نجاحاً جيداً في هذه المدرسة التي أصبحت فيما بعد الجامعة الهندية للتعليم العالي.
أدركت طاغور صدمات ومآس كثيرة بدءاً من انتحار شقيقته ووفاة والدته وزوجته وثلاثة من أولاده لكن إرادته ونظرته المستقبلية للحياة أنقذته من الانعتاق ووجهته نحو محبة الإنسانية جمعاء بدلاً من التمسك بالحب الفردي فأصبح وحيداً يلوذ بنافذته ويتأمل في الطبيعة ويرسم في مخيلته ما يترقرق في الكون من صور شتى فكانت الطبيعة رفيقه الدائم وهو الذي شبه نفسه بالثمرة التي تنتظر من يقطفها فاستطاع تحويل ألمه إلى فرح وتمكن من تحديد مكامن الجمال في الطبيعة والجسد والفكر والقول والفعل.
لا تخلو كتابات طاغور التي يتهافت عليها القراء حول العالم من القيم الفكرية والفلسفية والمبادئ الأخلاقية سواء في قصصه وأشعاره المتخيلة أو في رواياته الواقعية التي شكلت فيها الطبيعة ركناً أساسياً بمختلف صورها وتجلياتها حتى ليظن المرء وهو يطالع هذه الروائع أنه يسير في حديقة يشم فيها رحيق الأزهار ويصغي الى حفيف الشجر وخرير الماء وخفقة جناح الطير عبر توظيفه هذا الجمال في صياغة الحكم والأمثال.
وحفلت تجربة طاغور المميزة التي أثرت التراث الإنساني بأكثر من ألف قصيدة شعرية وحوالي 25 مسرحية وثمانية مجلدات قصصية وثماني روايات إضافة إلى عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات في الفلسفة والدين والتربية والسياسة والقضايا الاجتماعية.
وإلى جانب هذه الكتابات فقد اتجهت عبقرية طاغور إلى الرسم الذي احترفه في سن متأخرة نسبيا حيث أنتج آلاف اللوحات كما كانت له صولات إبداعية في الموسيقا فوضع أكثر من ألفي أغنية تم اختيار اثنتين منها لتصبحان النشيدين الوطنيين للهند وبنغلاديش.
ولم ينس طاغور قضية وطنه فقدم دروساً في التربية الوطنية كما حصل إبان ثورة البنجاب عام 1919 في وجه الاحتلال البريطاني حيث رد طاغور لقب سير إلى ملك انكلترا الذي منحه إياه من قبل إعجاباً بشعره واعترافاً بعبقريته ونسج مقالات تحيي الشعور الوطني وتحرض على مقاومة الاحتلال.
ظل طاغور متمكساً بمبادئه من نبذ للعنف وإشاعة المحبة وبساطة العيش حتى وفاته في الثامن من شهر آب عام 1941 وقد أدهش الكثيرين بأفكاره وطريقة التعبير عنها فاستحق لقب منارة الهند الذي وسمه به غاندي.
التعليقات (0)