ـ هل دور القاضي في المجتمع يجعل منه مجرد فم ينطق بالقانون واجب التطبيق في الدعوى المعروضة عليه فقط؟.
ـ هل هو حيادي neutre ( أو كالملاك لا جنس له) وغير مطلوب منه التدخل, و إبداء الرأي أو قول كلمة القانون خارج قوس القضاء, أو حتى داخل المحكمة حين لا يكون جالسا للحكم أو للمداولة, وأن فعل ذلك خرج عن الحيادية والنزاهة, وأصبح متدخلا في شؤون لا تعنيه؟. هل هو الحياد السلبي؟
ـ هل سكوت القضاة على القوانين غير الدستورية, كقوانين الطوارئ التي لم تعد الأسباب الموجبة لإصدارها قائمة منذ عقود وعقود, و لم تعد تحمل صفة الطارئ, يدخل ضمن استقلال القضاء وفصله عن بقية السلطات, وبالتالي يمنعهم الاحتجاج على بقائها والطعن بدستوريها والمطالبة بإلغائها؟ أليس الطعن بعدم الدستورية من ضمن اختصاصات القضاء ؟
ـ أليس إقامة قضاء مواز لقضائهم, وصاحب اختصاص واسع و خطير, محاكم استثناء تصبح دائمة, ومحاكم عسكرية لمحاكمة مدنيين, وانتزاع اختصاص القضاء العادي والتعدي عليه, وتعطيل دور القضاء الإداري ــ في الدولة التي تأخذ بالنظامين القضائيين العادي والإداري ــ يتطلب منهم كلمة وموقفا علنيا صريحا ؟.
ـ وهل يمكنهم القبول, كقضاة, بوصف مرحلة تتجاوز الأربعين عاما في عمر الوطن بأنها مرحلة طارئة تتطلب قوانين طارئة وأحكاما عرفية؟ هل لهذه الحالة مثيل في دول العالم, و عبر التاريخ, وفي علم القانون والقضاء؟.
ـ هل يمنع القاضي, كونه موظف دولة, ممارسة حق الإضراب والتظاهر لإلغاء ما هو غير دستوري وغير قانوني, ولا يتماشى حتى مع الأخلاق والأعراف والمنطق السليم ؟. ألا يختلف بحكم وضعه القانوني المميز والهيئة التي ينتمي إليها, والمهام الموكولة إليه, عن بقية موظفي الدولة؟. ولمن إذن معقود حق الرقابة على دستورية القوانين؟ كيف يقيم العدالة لغيره من يفتقدها لنفسه؟
ـ وهل معنى فصل السلطات هو فصل القاضي عن واقع مجتمعه, في حين أن السلطة التنفيذية تتدخل يوميا, وبشكل سافر وغير محدود, في شؤون التشريع والقضاء, في الأنظمة الشمولية؟..
ـ أليس تشابك ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي, إلى درجة يصعب فيها الفصل بين العوامل المتشابكة في القضية الواحدة, يتطلب من القاضي الانفتاح على هذه الجوانب لمعرفتها بنفسه, دون الاعتماد فقط على طلب الخبرة التي قد لا يدرك مدى صحتها ــ لا يعني هذا الطلب أن يصبح خبيرا بكل شيء ــ ومعرفة أثرها على الدعاوى المعروضة عليها للحكم فيها. وهل يعتبر نشاطه في الوصول إلى هذه المعرفة في مصدرها, ومكان حدوثها, تدخل منه فيما لا يعنيه؟.
ـ أليست مصداقية القاضي, الناتجة عن تكوينه وطبيعة مهامه, أكبر بكثير من مصداقية رجل السياسة في نظر المواطنين؟. وان الحفاظ على هذه المصداقية يتطلب منه موقفا, صارما صرامة القضاء, من الجريمة التي ترتكب يوميا, بعلم القضاة, في المسائل السياسية و الاقتصادية, إضافة للاجتماعية, من نهب للثروات واستغلال للنفوذ والثراء بدون سبب, والفساد المعمم الذي يصل إلى كل أجهزة الدولة, ومن الرشاوى التي قد تصل إلى القضاة أنفسهم, و من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان و حقه في الحياة, ومن إلغاء مطلق للحريات الأساسية الفردية والعامة؟.
ـ أليس له الحق بالمطالبة بالإصلاح القضائي وان يكون الطرف الفاعل, بما يقدمه من آراء هو الأعلم بصوابها و صحتها, من خلال مهنته وتجربته, وان لا يقبل إقصاءه عن ذلك بحجة طبيعة مهنته ومجال اختصاصه والوظيفة الموكولة إليه؟ فهو في هذه الحالة لا يشرع وإنما يضع خبرته أمام المشرع لدى إصدار القوانين التي سيفسرها ويطبقها القاضي نفسه, عند النظر في القضايا المطرحة أمامه, بحرية تمنحها له مهنته .
ـ هل يرضى بقصر دوره على تطبيق أحكام القانون على البسطاء والفقراء ومن لا يملكون أي نوع من أنواع النفوذ أو الحماية, مع عدم إخضاع أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأية مقاضاة أو مساءلة؟ هل يرتاح ضميره وهو يرى كل هذا حوله و لا يستطيع قول شيء فيه كقاضي, و لا الحديث عنه أو نقده وفضحه كمواطن ؟.
ـ الم يحن الوقت بعد لان تعاد صياغة العلاقة بين القضاة ووزارة العدل, التي تنفذ منها بقوة, السلطة التنفيذية لفرض تدخلاتها وضغوطها السياسية, عن طريق النيابة العامة, على قضاء الحكم, و تقلص حق الدفاع إلى أدنى الحدود بغياب التوازن بين الدفاع والاتهام؟ وترهب القضاة؟
ـ أليس وقوف الدفاع أمامه مجرد من كل الوسائل الحقيقية للدفاع, المركزة بقوة وشدة في الاتهام, يجعله يحس بأن المحاكمة تبدأ غير نزيهة وغير متوازنة ـ لغياب بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء. وهو إخلال خطير بميزان العدالة ـ لتنتهي بأحكام وقرارات ظالمة؟
ـ وهل لا يعلم بان الوسائل الأساسية الحضارية في التحقيق بشتى مراحله المعتمدة على القانون والإجراءات القانونية, التي وضعت أصلا لحماية المشتبه به, والمتهم, وحماية المجتمع ومصالحه, غير مرعية ولا معمول بها. وان الوسيلة الرئيسية والمتبعة بشكل واسع في التحقيق العربي هي الإهانة والتعذيب النفسي والجسدي, ألا يصل هذا إلى مسامعه رغم وصول أصدائها إلى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية؟
ـ آلا يشعر بالمحاولات الدائمة لجعله موظفا بسيطا تابع للسلطة التنفيذية مصدر تعيينه وترقيته, أو تجميده, أو عزله تعسفيا, وحتى بالضغط عليه لان يصبح دوره كدور رجل الأمن, يخيف المواطن و لا يحمي حقوقه وابسط حرياته؟
ـ أليس على القاضي, وهو الشاغل لا خطر المهن وأنزهها, الترفع عن الانتماء للحزبية الضيقة, بمفهومها العربي على وجه الخصوص, أو قبول التعيين العشائري أو القبلي أو الطائفي أو القائم على الوساطات ودفع الرشاوى؟.
ـ أليس بعيدا عن هذا يمكنه الجلوس للقضاء بثقة المستقل مرتاح الضمير, غير مطلوب منه تقديم حساب لأحد. وحين يقول رأيه كمواطن عادي وخارج مهام القضاء, فان رأيه يكون الرأي النزيه, الجريء, الصادر عن تربية القاضي وثقافة القضاء؟. ( ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن من هنا يبدأ وينتهي الإصلاح القضائي وتقوم العدالة . فهذا غير ممكن و لا يستطيع احد أن يفكر فيه في غياب الدولة الديمقراطية, دولة القانون وسيادته. ومع ذلك فغياب مثل هذه الدولة لا يعفي القاضي من التحيز لقول الحق في كل الظروف والأحوال).
هل مواقف بعض قضاة مصر العديدة والعلنية, المطلبي منها المتعلق بشؤون القضاء كمهنة, وتلك التي عبروا عنها في شأن الإشراف على نزاهة الانتخابات النيابة, وأيدهم فيها محامون شرفاء( كانت لهم مواقف سابقة عرضتهم لما عرف بمجازر القضاة إشارة لتسريح وعزل المئات منهم). وان كان العديد منهم لا يعتبرونها اليوم كافية. ومواقف قضاة باكستان المدعومة بقوة من المحامين, أو مواقف المحامين مُؤيّدون بالقضاة ( جرح في لاهور 12 محام من قبل الشرطة الباكستانية خلال تظاهراتهم ضد ترشيح مشرف لخلافة نفسه. وبقي المحامون مؤيدون بالقضاة مدة 8 اشهر يحتجون على ذلك مما فاق من حيث المدة والشدة مواقف الأحزاب السياسة المعارضة مجتمعة. L’AFR. 29/11/2007 ). هو تدخل فيما لا يعنيهم؟.
ـ هل يخرج قضاة فرنسا, على سبيل المثال, عن قانون أدبيات القضاة, ويتدخلوا فيما لا يعنيهم عند لجوئهم للإضراب والتظاهر؟ و نذكر بهذا الصدد مثالين فقط من مئات الأمثلة في أوروبا وفرنسا:
تهديد نقابة اتحاد القضاة USM باللجوء للإضراب إذا قدمت الحكومة مشروع إصلاح يتعلق بمسؤولياتهم عن قرارات قضائية. مما جعل رئيس الجمهورية يعلن تأجيل فكرة الإصلاح الكامل, ويطلب من الحكومة اتخاذ إجراءات حول حقوق الدفاع ومسؤولية القضاة. (L’Express. 27/6/2006 ). وردا على ذلك أعلنوا أن في حالة مشروع إصلاح يسعى إلى مسؤولية تأديبية, ومدنية للقضاة عن أعمالهم القضائية, يمكن اللجوء إلى إضرابات واسعة. وفي حالة الضرورة إلى مظاهرات على المستوى الوطني تنظم في باريس. ( المرجع أعلاه).
وفي ديسمبر/ كانون أول 2006 اضرب القضاة, واضرب المحامون في كل مدن فرنسا لمدة 3 أسابيع (محامو باريس نفذوا إضرابا لأسبوع واحد) احتجاجا على انعدام الأمن في المحاكم, وعلى الإصلاحات غير المجدية المتعلقة بالأمور الجزائية والمدنية والتجارية .. والأمور المطلبية التي تخص وضع القضاة والمحامين.
ـ أسئلة مطروحة ليس فقط على القضاة كافرا د أو كهيئة قضائية ــ دون أن نقول سلطة قضائية فهذه كلمة كبيرة إن ادعاها أصحابها فان قلة محدودة جدا ومكابرة يمكن أن تصدقها ــ وإنما كذلك على رجال الفكر والقانون أينما كان موقعهم, في الجامعات, أو المنظمات الحقوقية, والإنسانية, وعلى المحامين أعوان القضاء.
محاولات عزل القاضي وحصر مهامه بالعملية القضائية بأضيق حدودها غير مقتصرة على القاضي العربي. هذه المسألة مطروحة منذ القدم. وباتت وكأنها مسلمة لا تقبل النقاش, حتى أصبح الكثير, بمن فيهم قضاة, مقتنعين بان فكرة تدخل القضاء في المناقشات السياسية, والاقتصادية, والاجتماعية تدخلية غير مقبولة من السلطة الثالثة في شؤون لا تعود لاختصاصها. مع جعل التدخلية, في تفسيراتها الواسعة والمتناقضة, أداة قمع فكري ومادي لرجال مفترض أنهم يملكون "سلطة " القضاء. ولكن في المقابل هناك, عكس ذلك, اتجاه حديث يطالب بالانفتاح , يتمثل في ضرورة الخروج عن دورهم التقليدي للقضاة ــ كمراقبين للتوازن, دون أن يستطيعوا الحفاظ عليه, وهذا ما يبنه الواقع يوميا ــ للمساهمة في رقابة قطاعات واسعة في الحياة العامة وفي رفع المعنويات وإعادة القيم للأخلاق المحول مسارها. غير أن العزل بالنسبة للقاضي العربي يختلف من حيث المفهوم , والدرجة, والنوعية, والوسائل, والأهداف, ليجعل منه مجرد, تابع غير محمي, للسلطة التنفيذية وأجهزتها.
لاشك إن في إبعاد القاضي, بصفته هذه, و بصفته مواطن, عن شؤون أمته وجعله مجرد متفرج ينتظر القضايا التي ستعرض عليه لتطبيق أحكام القانون, المُوصّى عليها, يشل فاعلية هذه الهيئة ـ أو السلطة تجاوزا ــ أو على اقل تقدير يجعلها على هامش حياة أمتها. دون صلاحيات كاملة في ممارسة اختصاصاتها لغياب الاستقلالية. ودون إعطائها حق التعبير عن أرائها بحرية.
لا يريد أحد من القاضي أن يتحول إلى رجل سياسية, أو أن يخلط القضاء بالسياسة, أو أن تُقام حكومة القضاة. وإن ما يطلب الجميع منه هو ملء الوظيفة التي جاء للاضطلاع بها. وان لا يكون شاهد زور على ما يرى في مجتمعه من انتهاك مستمر, ودون حدود, لحقوق الإنسان والموطن, و تعد على ابسط حرياته, وعن تعليق للدساتير و خرق فاضح للقوانين, وتفسيرها وتطبيقها لحماية المتحكمين بالدولة, الذي هو جزء منها, والتي أوكلته, بأمانة كاملة, مهمة خطيرة تجعل منه ضمير الآمة.
ولا يريد أحد لأمته أن يُكسف قضاؤها, كليا أو جزئيا, لتصبح امة دون ضمير.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)