تصادف أن جلس بجانبي .. رأيته منهكماً في إعداد وتجهيز أوراقه .. محام شاب في مقتبل حياته المهنية .. يمتلك ذهنا وقاداً .. وفكراً وثاباً .. يريد أن يثبت وجوده ..
كان يقف خلفه – متابعاً- رجل نحيف في نهاية العقد الخامس من عمره .. تبدو على جسده آثار المرض والوهن .. بينما الخوف والذعر يطلان من عينيه كأنه مقدم على حتفه .. سألني المحامي الشاب .. أرجو أن تنظر في هذه القضية وتقول رأيك فيها لهذا الرجل وتطمئنه حتى يكف عن الارتعاش .. فقلت له ..ولماذا لا تطمئنه أنت .. أولم تقرأها ؟!
قال بلى .. قرأتها مائة مرة ..وقلت له رأيي ألف مرة ولم يطمئن ..ولم يغادره الخوف حتى الآن وبقي على الجلسة دقائق .. قلت له .. طالما قرأتها مائة مرة . فقص عليَّ حكايته ..
قال لي .. موكلي هذا كما تراه .. رجل ضعيف مريض .. أصيب بتآكل في الفقرات العنقية .. ودائماً ما يرتدي (رقبة) ليثبت بها رقبته منعاً من تحريكها .. كما أنه مريض بحساسية الصدر .. ابتلاه القدر بسائق سيارة "نقل" عتيقة لا يحلو المزاج له سوى بأن يوقف سيارته يومياً للمبيت أمام منزل موكلي هذا ..ولك أن تتخيل مدى العذاب اليومي الذي يسببه له من عادم السيارة وضجيجها وغيره .. طلب منه موكلي أكثر من مرة أن يبعد سيارته عن منزله .. فكانت إجابة السائق دوماً بالرفض باعتبار أن هذا المكان هو الأنسب لإيقاف سيارته .. لم يجد موكلي مفراً سوى أن يتحامل على نفسه وذهب ليشكو السائق إلى الجهات المختصة ..وطبعاً لم يسأل فيه أحد ..
وحفظت الشكوى .. ولكن السائق أضمرها في نفسه .. فأراد أن يؤدب الرجل المريض .. فقام السائق بتحريض زوجته على التقدم ببلاغ ضد موكلي للسلطات قالت فيه أن ابن موكلي الطفل (الصغير) تعدى على أطفالها بالضرب وأنها حينما توجهت إلى موكلي لمعاتبته على ضرب ابنه الصغير لأطفالها .. فوجئت بموكلي يقوم بضربها لطمات على وجهها ..كما قام بضربها بعصا غليظة على ظهرها .. فحررت حضراً بذلك وتم الكشف عليها طبياً ..وقيدت القضية ضد موكلي بتهمة ضرب زوجة السائق ..وتحددت لها جلسة دون علم موكلي ودون إخطاره ..ودون التحقيق معه ..وصدر الحكم عليه (غيابيا) بالحبس ثلاثة أشهر مع الشغل .. كل ذلك وموكلي لا يعلم عما يدور له في الخفاء شيئاً .. إلى أن تفاجأ بصدور الحكم عليه بالحبس .. فحضر لي مهرولاً والفزع يكاد يقضي عليه ..
فسألت المحامي الشاب ..وماذا فعلت ؟! قال لي .. سألت موكلي عما جاء بأقوال زوجة السائق .. ففوجئت به يصيح أنه ليس لديه أطفال صغار .. بل لديه ولد واحد عمره يقترب من الثلاثين ومصاب بالغضروف في ظهره ومعتل صحياً .. وأحضر لي شهادة قيد عائلي تفيد ذلك .. كما أحضر لي الشكوى التي قدمها ضد السائق .. كما أنه تحامل على نفسه واستطاع أن يجلب صورة من وثيقة زواج السائق بزوجته صاحبة البلاغ ليؤكد أنه بلاغ كيدي ضده .. كما أحضر لي كافة الشهادات العلاجية له ولولده والتي تؤكد عدم قدرته على ضرب ذبابة ..
قلت للمحامي الشاب .. إن موكلك قد قام بالقضية عنك ولم يترك لك فيها شيئاً .. فقال لي ..ومع ذلك فهو كما ترى شديد الرعب لأنه تفاجأ بصدر حكم بحبسه دون ان يدري .. ولم تفلح كافة محاولاتي لإفهامه أنه حكم غيابي وأن القاضي دوماً ما يصدر الأحكام الغيابية دون قراءة القضية لعدم حضور المتهم أمامه . أما وقد حضرنا بعد الطعن على الحكم .. فإن القاضي بعد رؤية المستندات سوف يقضي بالبراءة حتماً مع حقك في ملاحقة تلك المرأة الكاذبة المفترية ..
إلا أن موكلي يتحدث كمن فقد الثقة في كل شيء ..ولا شئ يطمئنه ..
نادى الحاجب على الجلسة .. جلس القاضي على المنصة .. انتظرت حتى جاء دور هذه القضية .. فقام المحامي الشاب .. وترافع في تلك القضية مرافعة الواثق من نفسه ..والمطمئن لما بيده من مستندات .. علاوة على المفاجأة التي فجرها بأن الإصابات الواردة بالتقرير الطبي مخالفة تماماً للإصابات التي إدعتها زوجة السائق في شكواها بما يؤكد افتعالها إياها .. علاوة على أن شكواها كانت عارية مما يؤيدها من شهود أو أدلة أو حتى قرائن .. كان المحامي الشاب يرفع عقيرته بصوت الواثق أنه مع الحق يكشف البهتان ..ويدحض الزيف .. وقد أنهى مرافعته بتقدم جميع المستندات المؤكدة لبراءة ساحة موكله الواقف خلفه في خوف وعيناه تتضرع للقاضي تشكو له ظلم العباد للعباد ..
انتهى المحامي الشاب من مرافعته .. وبدأ يتلقى التهاني ونظرات الإعجاب من أعين الحضور ومن زملائه الذين بادروا على الاستباق بتهنئته بالبراءة الحتمية مؤكدين له أن القضية حسبما فهموها من خلال مرافعته شديدة السهولة ..
بعد أقل من ساعة ..و بعد أن قضيت بعض شئوني .. دخلت إلى القاعة .. تفاجأت بالمحامي الشاب و كل علامات الذهول والوجوم غطت وجهه .. وهو صامت مشدوه .. سألته ..ما بك .. أجابني بعض زملائه الجالسين بجانبه .. بأن القاضي حكم على موكله بالحبس شهراً مع الشغل بدلاً من ثلاثة أشهر .. والرجل أغمى عليه فور صدور الحكم . .
ضحكت فور سماعي الخبر .. نظر لي المحامي المكلوم .. كيف هذا؟! ألم يقرأ القضية ؟! ألم يطالع المستندات؟! ألم يسمع المرافعة؟! على ماذا استند في حكمه ؟! طب الراجل الغلبان يعمل له إيه تاني ؟! الراجل ليس لديه أطفال كما ادعت المرأة عليه .. أصابتها متناقضة .. ليس لديها شهود ..الرجل مريض ولا يمكنه الاعتداء عليها .. الكيدية واضحة ..و زوجة السائق ..الرجل قدم كل شيء للقاضي .. ألم يقرأ مذكرة الدفاع ؟! ما فائدة التعب والسهر ؟!..ما فائدة المراجعة والاجتهاد ؟!.. ما فائدة التثقف والاطلاع ؟! ..ما فائدة اقتناء المراجع والكتب ؟! ..
إذا كانت أقدار الناس ومصائرهم تخط بجرة قلم لا يدري إلا الله من أي مداد يخط أحكاماً تقصف رقاب الناس دون أن يدري ..
نظرت إليه.. ليس قلماً واحداً يا صديقي الصغير ..فهم كثر ..
وضحكت .. بينما قلبي كان يبكي وينزف حزناً وألماً !!...
التعليقات (0)