وقع المحظور الذي كان الكثيرون يخشونه. أفلت وحش الطائفية الشرس في مصر المرهقة التي تخوض مرحلة من الشدائد والمصاعب منذ الثامن والعشرين من يناير الماضي. قاتل مسلمون مسيحيون، سالت دماء ضحايا كثيرين، هدم مسلمون دار عبادة مسيحية في سابقة هي الأولى من نوعها في الأربعين سنة الماضية، واستمر تراجع الأحلام بمصر جديدة قادرة على حماية واحترام مواطنيها بمختلف انتماءاتهم. الصور والمقاطع التي نقلتها لنا مواقع الإنترنت جعلتنا نشعر بالأسف على مصر التي أصبحت تنتقل بخصوات متسارعة من السيء إلى الأسوأ بمباركة وربما مشاركة قوى معينة تريد السيطرة على مصر لتحقيق أجنداتها الخاصة.
ليست القضية هنا قصة الحب "المحرمة" التي وقعت بين شاب مسيحي وفتاة مسلمة، فما أكثر قصص الحب الصادقة والمزيفة التي تجمع بين شبان مسلمين وفتيات مسيحيات من دون أن يلجأ المسيحيون للاعتداء على دور عبادة المسلمين. القضية الحقيقية هي التطرف الأحمق الذي تنشره جماعات أصبحت قادرة على لي عنق مصر وخنقها وقيادتها المجهول الذي نخشاه لوطننا. القضية هي الرغبة في استئصال المسيحية ورموزها من المجتمع المصري. كانت هناك رغبة في التخلص من الكنيسة التي قال مسلمو قرية صول أنها بنيت قبل عشر سنوات من دون موافقتهم. الأمر كان مبيتاً بعد حالة الانهيار والفراغ الأمنيين اللذين صاحبا سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك.
جاءت جريمة صول الطائفية لتؤكد أن الأقباط لم يعودوا مواطنين لهم حقوق متساوية في مصر. لم تهدأ ليوم المضايقات الرسمية والشعبية التي ظلوا يتعرضون لها منذ مطلع السبعينيات فتعرضوا لعدد غير قليل من المذابح، وجرى تهميشهم من الحياة العامة وتم استبعادهم من الوظائف الكبرى، واحتملوا الضغوط ومحاولات الأسلمة الإجبارية، وواجهوا حملات شرسة ضد عقيدتهم في وسائل الإعلام الرسمية، وتصدوا لمحاولات لإجبارهم على مخالفة تعاليم دينهم كما حدث في محاولة القضاء المصري إجبار الكنيسة القبطية على تزويج المطلقين.
من جديد كان موقف الجيش من جريمة صول خاطئاً لأنه لم يتدخل لإعادة المسيحيين الذين تم تهجيرهم خلال الهجوم على الكنيسة، ولأنه لم يتدخل لمنع المجرمين من هدم الكنيسة، بل أنه انتظر نحو ثلاثة أيام لدخول القرية وكان المتطرفون عندها قد انتهوا تماماً من مهمتهم. ماطل الجيش طويلاً في التدخل ما أعطى انطباعاً بأنه ربما كان هناك ضوءاً أخضراً لهدم الكنيسة. فلو أن الأمر تعلق بمسجد فما كانت القوات المسلحة ستبقى من دون تدخل. المدهش أن الجيش رضخ للمتطرفين الذين رفضوا إخلاء موقع الكنيسة، ووقف الجيش يشاهد المئات من مسلمي القرية يقومون باداء صلواتهم على أنقاض الكنيسة.
أخطأت القوات المسلحة ثلاث مرات في معالجة أحداث صول. كانت المرة الأولى حين لم تتدخل لفرض القانون ولو بالقوة لأن الأمر ارتبط بسلامة الوطن ووحدته وبحقوق الألاف من المواطنين التي اهدرت على أيدي الجناة المتطرفين. أخطأت القوات المسلحة حين تعاملت مع الإجرام بلين، وهو ما أسفر عن سقوط هيبة الدولة في مستنقع الطائفية الذي لست أتوقع لها أن تخرج منه في القريب العاجل. كان الحل الأمثل لجريمة صول هو فرض القانون على الجميع ومعاقبة من يثبت ضلوعه في الجريمة. القانون كان يجب أن يكون الحكم والفيصل في الجريمة، ولكن القوات المسلحة قامت بغرابة بتشكيل لجنة من علماء المسلمين للتعامل مع الجريمة.
كانت المرة الثانية التي أخطأت فيها القوات المسلحة حينقبلت بالتفاوض مع المجرمين بشأن إعادة بناء الكنيسة. بل أن القوات المسلحة قالت أنها لن تسمح ببناء الكنيسة ما لم يوافق المسلمون عليها. وقال ممثل الجيش الذي شاهد بيان محمد حسان أن بناء الكنيسة سيكون بناءً على مشاعر التسامح التي أبداها أهل القرية. وبذلك أعترف الجيش بأن لا حقوق للمسيحيين في وطنهم وأن ما يحصلون عليه ما هو إلا هبات يتحنن عليهم بها المسلمون.
كانت المرة الثالثة التي أخطأت فيها الوقات المسلحة حين قبلت بتدخل بعض رجال الدين الإسلاميين في القضية. كان خطأ القوات المسلحة الثاني كبيراً لأنها بتسليمها القضية لرجال الدين تنازلت عن حق الدولة في فرض القانون. وما زاد من سوء قرار القوات المسلحة هو قبولها بدور تفاوضي لرجال دين معروفين بتشددهم، بل ومعاداتهم للمسيحية ورموزها. ربما كان من المقبول أن يقوم رجال دين رسميين كشيخ الأزهر أو مفتي الجمهورية بدور سلام مع احتفاظ الدولة بكامل حقوقها، ولكن أن يقوم أشخاص تسقط عنهم صفة الحيادية لانتمائهم لتيارات دينية متشددة مثل الإخوان المسلمين والجماعة السلفية وجماعة أنصار السنة المحمدية بدور الوساطة والتحكيم بين الجاني والمجني عليه، فقد كان هذا أمر غير مقبول على الإطلاق.
لقد نجح الإسلاميون في اكتساب المزيد من الشرعية والشعبية في الشارع المسلم بدورهم في صول الذي شجعتهم عليه القوات المسلحة. كما نجح الإسلاميون في فرض الشريعة الإسلامية كأمر واقع في مصر بعدما قال صفوت حجازي أن مصر تخضع لـ"شرع الله" وأن لا كرامة لمصر إلا بـ"شرع الله"، وبعدما هتف مسلمو صول بـ"شرع الله"، وبعدما بنت لجنة الدعاة قرارها على أسس "شرع الله" الذي يُسقِط من اليوم أي وجود للقانون المدني في مصر.
سيذكر التاريخ أن نهاية مصر المدنية كانت في قرية صول مركز أطفيح محافظة حلوان. هذه حقيقة مؤكدة بعدما قام الدعاة الإسلاميون بإعلان ميلاد الدولة الإسلامية التي يحكمها "شرع الله" من هذه القرية التي استعصت على القوات المسلحة، القوة الشرعية الوحيدة في مصر. لا داعي لإنكار الحقيقة المؤلمة التي دشنتها وكرستها جريمة قرية صول الطائفية التي اعتدى خلالها مسلمون على كنيستها وهدموها وأجبروا مسيحييها على الهروب من القرية طلباً للسلامة. سقطت مصر المدنية لأن القوات المسلحة سلمت مفاتيح الدولة لرجال الدين الإسلاميين المتشددين. سيذكر التاريخ مأساة مصر وكيف أنها كانت يوماً منارة للحضارة في العالم وكيف أعادها التطرف قروناً طويلة للوراء.
التعليقات (0)