صور رمضانية.. في الذاكرة الشعبية
خليل الفزيع
لم يكن وصول خبر رؤية هلال رمضان بالشيء العادي في الماضي، بل يستقبل بحفاوة بالغة من الأهالي الذين يسارعون إلى تبادل التهاني بالشهر الكريم، والذي يكون الاستعداد له قد تم قبل أيام أو أسابيع ، فقد تعود الناس على تحضير احتياجاتهم للشهر الكريم منذ بداية شعبان، وهذا الاستعداد لا يعني ـ كما هو الحال اليوم ـ تكديس المواد الاستهلاكية والإسراف في المشتريات الرمضانية، بل هو استعداد يعتمد على الجهد العائلي إلى حد كبير، مثل جرش الحبوب أو طحنها، وكان الاعتماد كبيراً على القمح في توفير الأكلات الرمضانية، حيث يتم تجهيز خبز (الرقاق) للثريد الذي يعتبر من الأطبـاق الرئيسة على مائدة الإفطار، وهناك أنواع أخرى من الأكلات الـرمضانية التي تعتمد على الطحين مثل (اللقيمات) وتؤكل محـلاة بالدبـس أو السكر المذاب، و(الزلابيا) وهي أيضاً نوع من الأكلات الرمضانية المحلاة، أما الهريس فيطبخ مع اللحم الخالي من العظم أو مع لحم الدجاج، وهو قريب من الجريش في طريقة الإعداد، وهذه الأكلات تسهم في تنويع الأطعمة على مائدة الإفطار دون أن ترهق كاهل رب الأسرة.
وقد كلف بعض الشعراء بذكر بعض أنواع الحلوى فهذا ابن نباتة يتغزل في الكنافة بقولــه:
يا سيدي جاءتك في صدرها
كأنهـا رُوحــي في صدري
كُنافةٌ بالحـلو محشــوةٌ
كمــا تقولُ العسل المصري
ويشكو البصيري صاحب البردة، من قاضٍ اسمه عماد الدين دعاه في رمضان ولم يقـدم له الكنافة فقال :
ما أكلنا في ذا الزمان كنافـة
آهِ .. وما أبعـدها عليّ مسافة
قال قومٌ إن ( العماد ) كريم
قلت هذا عندي حديث خرافة
ومن تلك الصور (أبو طبيلة) أو المسحراتي كما يسمونه في بعض البلدان، وسمي (أبو طبيلة) نسبة إلى الطبلة الصغيرة التي يستخدمها في مهمته لإيقاظ النائمين، وتنبيههم لموعد السحور، ويرافقه في العادة بعض الصبيان الذين يرددون معه بعض الأناشيد، المتناسقة مع إيقاعات طبلته الصغيرة أو طبيلته، ليستيقظ النائمون، وفي بعض الحالات يضطر (أبو طبيلة) إلى قرع أبواب بعض المنازل، التي يطلب منه أصحابها إيقاظهم بهذه الطريقة، وعمله هذا تطوعي، لكن سكان الحي لا يبخلون عليه بالهبات والعطايا، في منتصف شهر رمضان عند احتفال الصغار بالقرقيعان، و في عيد الفطر، وهو في هاتين المناسبتين يركب حمـاره، ويتنقل بين المنازل لجمع تلك الهبات والعطايا، فيحملها على حماره، وقد تكون تمراً أو أرزاً، وقليلون الذين يمنحونه النقود، ولكل حارة (أبو طبيلة) أي مسحراتـي خاص بها.
ونداء التسحير يأتي امتثالاً لقول الرسـول الكريم صلى الله عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة) وقوله: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور) فالتسحير هو إيقاظ النائمين كي يأكلوا ويشربوا حتى يتبين الخيط الأبيـض من الخيـط الأسـود من الفجر، عملاً بقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل).
والتسحير أوجـد المسحراتـي وفي عهد الخليفة الناصر ، وجد في بغداد من يقوم بهذه المهمة واسمه (أبو نقطة) وكان يوقظ الخليفة، فلما توفى (أبو نقطة) ذهب ابنه إلى بيت الخليفة ليقوم بمهام والده وكان له صوت رقيق فانشد:
(يا سـيد السـادات
لك في الكــرم عادات
أنـــا ابن أبى نقطة
تعيش أبويا مـــات)
ويقال أن الخليفة أعجب بذكائه وفطنته وأحله مكان أبيه.
وذكرت بعض المراجـع أن أول من قام بالتسحير في مصر هو عبسة بن إسحاق والي مصر سنة 238 هجرية، ويؤثر عنه أنه كان يذهب على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، وكان ينادي بنفسه على الناس بالسحور.
التعليقات (0)