صورة امريكا في العقل الانتيلجستي العراقي
الذاكرة الموتورة .. اشتغال السياسي ومركزته في الثقافة العراقية
حيث ان المجتمعات البشرية بشكل عام والمجتمع العراقي بشكل خاص يدخل مع ثورة المعلومات والتقنيات الحديثة عصر الشراكة مع العالم، تتشابك المصالح والمصائر، ويظهر فاعل بشري جديد على المسرح العالمي، فاعل ذو هوية متعددة ومركبة يتجاوز حرب الايديولوجيات والملل والنحل والعقائد الدينية والسياسية البالية العتيقة.
في هذا الفضاء المعرفي والتقني والسياسي، هل استطاع المثقف العراقي ان يشغل العقل التداولي مع الاخر/ اميركا/ الغرب/ لكي يتجاوز قوقعته ومركزيته ام انه يعيد تشكيل الصور السياسية الفجة التي كرستها الاحزاب الماركسية العربية والحركات القومية الفاشية والاحزاب والجماعات الاسلامية الاصولية منذ خمسينيات القرن الماضي عن <اميركا> ؟
متى يتم تكريس الشفافية والاعتراف والشراكة والتبادل بين الثقافات والقيم والتقنيات؟
هل توفرت للمثقف العراقي رؤية عقلانية او فكر عقلاني، مركب، مرن، تواصلي، لكي يكتشف ان للاخر/ اميركا/ وجوه متعددة يجب ان لا تستبعد؟
هل استطاع المثقف العراقي كسر امومة الثقافة العراقية وعدها جزءاً من ثقافات تداولية لا تعد ولا تحصى وان اسهاماته في تيارات الثقافة الحديثة، ضئيلة وغير فاعلة؟
وهل استطاع المثقفون العراقيون تعريف اميركا؟
ماهي الصور والتصورات المركبة بشأن اميركا؟ وهل نستطيع بناء ذاكرة مشتركة بين العراق كجماعات بشرية وثقافات وقيم وتقاليد واميركا ..هذه الكتابة تجيء لاستطلاع اراء مثقفين واعلاميين وباحثين واكاديميين من الوسط الانتلجسي العراقي لطرح سؤال الاخر/ اميركا/ في الثقافة العراقية. السؤال المسكوت عنه والمكبوت في طي النسيان الثقافي.
اشتغال الصور النمطية
يقول الباحث كاظم الحسن ان مصادر تشكل الذاكرة الجماعية للمجتمع العراقي بشأن اميركا ارتبطت بالسرديات الكبرى، اليسار العراقي التقليدي القومية المتطرفة، الاسلام السياسي، هذه الاتجاهات الثلاثة بطبيعة تكوينها معادية للفكر الليبرالي الذي يفكك المطلق والصور النمطية ويحولها الى النسبي والمتغير والمتحول، وهذا نقيض ما يطلق عليه بالثوابت، حيث ان الفكر الحديث يضع معرفة الاخر في اولوياته وضمن مراجعات نقدية مستمرة، وقد شكلت هذه المراجعات وخاصة ما بعد الحداثة، اعادة النظر بالكثير من المفاهيم والتصورات والمسلمات النمطية وعدم اسقاط ثقافات واشكاليات الماضي وتداعياتها على العلاقة مع الاخر/ الثقافي/ السياسي.. اما الكاتب سلمان الحسني فيقول: اميركا لم تشكل مصدر الحلم للاجيال العراقية منذ اربعينيات القرن الماضي وذلك لانها لم تكن بلد الايديولوجيات وانما كانت موسكو، وقد تشكلت ذاكرتي بشأن اميركا بوصفها دولة غاصبة رأسمالية متوحشة، هذه الصور تكونت من خلال الادبيات الحزبية والسياسية المتداولة، والتي تتسم بالراديكالية المتطرفة فضلاً عن الصور الشعرية والتي رسمها غاريثا لوركا في حي هارلم وويتمان في اوراق العشب بوصفها مدخنة ضخمة وادونيس في المدينة الرمادية والبياتي وسعدي يوسف..
في حين يرى الاكاديمي جمال مهدي صالح: ان الذاكرة والتي هي تصورات جمعية تشترك فيها الجماعات البشرية لتشكيل الاخر/ الذات قد شكلت الصور التركيبية في ذاكرتي عن اميركا من خلال المطالعة والسينما الاميركية والعقل المحايث للوجود الاميركي العسكري في العراق ما بعد 2003. فضلاً عن الصور التي رسمتها الاحزاب الشيوعية العربية على اعتبار الرأسمالية اعلى مراحل الرأسمالية في حين رسمت الاحزاب القومية صور نمطية مرتبطة بالاستعمار والغزو الثقافي والسياسي اما الاحزاب الاسلامية فهي تعمل من خلال المقدس الديني وتقسم العالم الى ثنائية صارمة كافر/ مؤمن، دار السلام/ دار الحرب او فسطاطين الايمان/ الكفر وتلك برأيي لب المشكلة التي صنعناها في النظرلامريكا.
ويصنف المحلل السياسي احمد برهان اميركا في خانة الدول الوحشية حيث يرى انها تمارس الطغيان العالمي والاستعلاء ودور الشيطان في التاريخ ويحدد مصادر تكوين هذه الصور من الحياة الواقعية اليومية.اما الاكاديمي حسن القريشي فيقول: قبل انهيار النظام الفاشي العام 2003 كنت كائن خرافياً بلا شكل، بلا هوية، بلا تاريخ، بلا مكان. بعد السقوط بدأت اعيد تشكيل ذاكرتي وعلاقاتي مع الاخر. ومحاولا حذف الصور النابية التي تشكلت بشأن ميركا من ذاكرتي الثقافية والتي هي نتاج خمسينيات القرن الماضي <الفضاء اللاعقلاني للعالم الواقعي العراقي الراديكالي المتطرف >
في حين يرسم الشاعر صباح العزاوي صورة مريرة في قصيدة بعنوان(عني وعن اميركا) يقول في بعض منها:
بحرية الغنغرينا سأمتص لحم قوانينك
سأضيء سر بلادي او أضيء الطين،
أضيء أمماً في اعتصمت،
نشيدا من الماس
وانشر عارك على شفاه الشيوخ
فقط اعلمك عن حكمة الموسيقى،
وابدية الهندي الاحمر
ففضتك معتمة،وعويلك يتكرر.
تأسيس ذاكرة المشتركات والمتناقضات
يقول احمد برهان :كيف يتم بناء ذاكرة ثقافية او مشروع معرفي بين شعب يعاني الموت وتهيمن عليه الخزعبلات الدينية والسياسية والقتل والاختطاف وانهيار التنمية البشرية المستدامة، وشعب اخر حي. شعب ديناميكي، تقني كاميركا، العراق شعب يأكل ويتناسل ويشرب ولكنه شعب ميت فاقد الاحترام لذاته وللاخر، اداة للصراعات الطائفية العتيقة والمطلوب اولاً تحرير النوع الانساني في العراق
ويواصل : ان من الممكن ان نؤسس ذاكرة سياسية وفكرية بين العراق واميركا وذلك بوصفها من ضرورات الحياة وخاصة في الازمنة الحديثة ودول العالم اصبحت منسجمة مع بعضها ولا يمكن انفكاك الجزء عن الكل.
ويرى الباحث الاكاديمي عماد عبدالمحسن : ان ذلك ممكن عندما نحاول نحن كشعب ان نتحرر من العقد الماضوية والمخاوف و نحقق الانفتاح وعندما يقدم/ الاخر/ مصاديقه في حين يؤكد جمال مهدي صالح ان التواصل هو سمة طبيعية لاي علاقة ولابد ان يحدث نوع من المثاقفة بين اطراف متعددة اما تأثيرات اميركا في الثقافة العراقية ما بعد 2003. نتبين ان المشروع الاميركي ذات طبيعة عسكرية وهو ذات تأثيرات سلبية اما من الناحية الفكرية والسياسية فهذا متروك للمستقبل. في حين يرى سلمان الحسني ان النظر الى المشروع الاميركي في العراق بوصفه مشروع عسكري، قراءة مبسطة وغير دقيقة للمسألة العراقية، فقد استطاع هذا المشروع ان يفكك كل شيء صلب في بنية المجتمع العراقي، الطبقات، الاديان، الطوائف الاثنيات، وينقلها من حالة الركود الى الحراك المستمر العنيف، فضلاً عن مشروع الديمقراطية العراقية بكل سلبياته قادر على تمزيق البنى الطائفية والقومية والاثنية وسوف تظهر نتائج هذا الحدث بعد عقد من الزمن حيث الانترنت وشبكة الاتصالات العالمية وضعت العراق القديم الراكد المعزول في قلب العاصفة وتلك من افضل مااحدثه التغيير ومن نحن بحاجة اليه، وهو الحراك العميق المتأمل بعد غفوة طويلة.
اما حسن القريشي فيقول : ممكن بناء ذاكرة ومشروع فكري بين العراق كجماعة بشرية واميركا لو شكلنا الـ (انا) ولكن الانسان العراقي انسان عاطل عن التأسيس، تأسيس الذوات الكبرى في التاريخ فضلاً عن عدم وجود مشروع للمثقفين العراقيين حول هذا الموضوع اضافة الى ذلك ان الذاكرة العراقية، ذاكرة قطيع، ذاكرة متحفزة ومذعورة دائماً وترى الاخر عدو مستديم وتضفي عليه صيغة المؤامرة وتحذف صوره المتعددة.. فالعقل الثقافي والسياسي العراقي عقل احادي.
ويبين كاظم الحسن: ان هذا التأسيس مرتبط بقدرات الاحزاب السياسية والنخب العراقية على احداث قطيعة معرفية مع صور الماضي التي يتم تجييشها في الازمات والصراعات السياسية وهذه المسألة لا ترتبط باميركا فحسب وانما بنظرتنا الى العالم وتفكيك الصور النمطية لفهم الاخر وهذا يتطلب خيارات مؤلمة وقاسة في الولوج الى الحداثة وافاقها المفتوحة على المستقبل.
في حين يرى محمد احسان: من الصعب في هذه المرحلة تأسيس ذاكرة مشتركة بين العراق واميركا فضلاً عن الصور المتراكمة والفاعلة في المشهد الثقافي العراقي، هناك صور مستحدثة سجن ابو غريب، صورة الاميركي المسلح ويمكن ان نترك بناء المشروع الثقافي المشترك للتاريخ.ويواصل : اميركا اصبحت ظاهرة كونية استعلائية فضلاً عن دورها في العراق وافغانستان السلبي، ومن الصعب ان نؤسس معها ذاكرة او مشروع لانها مؤسسة للطغيان الكوني.
العلاقة مع الاخر
يرى الباحث كاظم الحسن ان العلوم الطبيعية والانسانية والقنيات الحديثة نشأة مع عصر الحداثة وتم الفصل بين الحقول الثقافية والسياسية والدينية في حين ان المجتمعات التقليدية ما قبل الحداثة تجير فيها الحقول الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية والفكرية لصالح السياسي الموتور، وذلك لانعدام المشروعية السياسية لهذا السياسي وهشاشة البنى الثقافية التقليدية التي قد تكون دينية او قومية او اثنية وهنا تتبلور العلاقة مع الاخر/ اميركا/ في هذا المفصل وفي معيارية السياسي فضلاً ما ينتجه هذا الحقل في العالم الواقعي العراقي من ذاكرة مشوهة واستجابات تبريرية.
ويرى ان اسس بناء الذاكرة المشتركة مع الاخر هو المستقبل والمصالح الاقتصادية والفكرية التي هي اساس العلاقات. بعيداً عن التاريخ وحرتقاته والتي معناه وصد باب المستقبل واعلان الحرب المستعرة ضد اميركا اضافة الى ذلك ما يراكمة الجهل والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والفكري والفقر والشعور بالدونية والذي يشكل حجر الزاوية في التقاطع والتصادم مع اميركا والعالم في حين يرى حسن القريشي: اننا امة مهزومة ومذعورة بشكل عام والعراقيين بشكل خاص فاشلون في اقامة علاقة مع /الاخر/ العراقي فكيف نقيم علاقة مع اميركا بكل هذه الايحاءات البالية للاسم فقط.
اما سلمان الحسني فيقول: ان المشتركات في بناء الذاكرة مع اميركا هو كونها جلبت الحرية للعراق بكل طوائفه وقومياته واثنياته ووضعته في طريق المستقبل، وتأسيس مشروع مشترك مع الاخر /اميركا/ هو مشروع للتاريخ يعتمد الانساق الثقافية اولاً.
ويواصل جمال مهدي صالح: ان بناء ذاكرة مع الاخر يعتمد الحقل السياسي والحقل الثقافي وفق المشتركات والمتناقضات. المشترك العراقي/ الاميركي تمثل بأزالة الدكتاتورية الصدامية واقامة نظام سياسي. اما المتناقضات فهي كثيرة اهما ان بنية الثقافتين العراقية/ الاميركية تنتميان الى بعدين تاريخين متفاوتتين. الثقافة الاميركية تنتمي الى مرحلة مابعد التاريخ والحداثة اما الثقافة العراقية فهي تنتمي الى المرحلة التاريخية التقليدية اللاهوتية. اختلاف كبير في النسق والبنى. اما في حالة عبور الثقافة العراقية من المرحلة التاريخية الى مرحلة مابعد الحداثة مابعد التاريخ وتنبت خيارات التحديث كخيارات اقتصادية واجتماعية وفكرية وهذه مسألة تأخذ فترة زمنية طويلة، سوف تكون المشتركات اكثر وبين الاكاديمي ان هكذا مشروع للعلاقة مع الاخر يعتمد على تعريف السياسي،و الثقافي،و السيكولوجي و وجود مخطط تربوي وثقافي ومنهجية واضحة لدى النخب الفكرية والثقافية والسياسية، مشروع فلسفي وفكري بعيداً عن الانفعالات والاستيهامات التخيلية والافكار اللاعقلانية.
في حين يرى عماد عبدالمحسن : ان ما حصل في العراق لا يخلو من مصلحة اميركية، التقت بشكل او باخر مع حلم طويل لملايين المعذبين العراقيين.
يقول سلمان الحسني من الصعب تعريف اميركا. اميركا تمتلك وجوه متعددة ومتناقضة، مؤسسات حاكمة، دولة قانون، رأسماليون يحتكرون الديمقراطية، بلاد الزنوج والبيض .. في بداية القرن الماضي كان الاميركيون يناقشون هل الزنوج من صنف البشر؟ وفي بدايات القرن الجديد الواحد والعشرين يحكم اميركا زنجي من اصول افريقية انها دولة ديناميكية تصنع الحرية للاخرين وتصنع ذاتها باستمرار.
ويواصل الحسني: اميركا رفعت الغطاء عن صندوق العجائب العراقية وتنوعات المجال الانثربولوجي والثقافي، وظهرت حقيقية العراق، حطمت اسطورة بلاد ما بين النهرين والف ليلة وليلة شعوب وتنوع واختلاف وفوضى خلاقة ام الوصول الى التعايش والتسويات بين المجموعات الاجتماعية والسكانية والسياسية واما الطلاق .. اما حسن القريشي فيقول: هناك حقيقة تاريخية، يحاول الكثيرون ان لا يفهموها وهوان العراقيين لم يرو الحرية الا مع الفتح الخارجي، اميركا جاءت بالحرية الى العراق، اما الكارثة فهي من صنع عراقي بامتياز، الكارثة هي الثورة المضادة للديمقراطية والثقافة والحداثة، ونحن شعب يهرب من الحرية باستمرار.
/ الاخر/ خاتمة
ان انماط الصور عن اميركا في العالم العربي بشكل عام والعراق بشكل خاص تدور في اطار مجموعة من الحقائق والاساطير التاريخية والسياسية والصور النمطية الثابتة والعلاقات والشفرات، نتغذى على خطابات ايديولوجية ولغات سياسية اصولية وهي تعد عقبة لتصميم صور وعلاقات ومشاريع جديدة عن /الاخر/ فضلاً عن عودة الدين المسلح والنزعات القومية المتطرقة للهيمنة على مختلف التصورات والتي تؤدي الى تدمير صيغ العلاقة، التعايش بين مختلف المجتمعات واعادة تسمية الاعمال البشرية باضافة صفات مقدسة عليها وهي محاولة قابلة للألتباس والنقص والتعدد والانتهاك والتحول، ان الذاكرة مفهوم غامض ومتشعب وقد يكون عامل تميز وتباعد وتنافر عن الاخر او عامل تنظيم لاعادة العلاقة بين المجتمعات البشرية فمن خلال الاستطلاع نرى ثمة حاجة كبيرة لنقد خطاب المثقفين العراقيين والاكاديميين والاعلاميين وذلك بهدف تخليق خطاب جديد حول العلاقة مع الاخر وتشييد ذاكرة مشتركة مع الاخر بعيداً عن الهجاءات وصور الكراهية التي تعمل على التعبئة السياسية والدينية، حيث ان النسق المعرفي لنماذج الاستطلاع يبين ان العقل العراقي (بالمعنى الاستعاري) عقل ثبوتي، سكوتي، متجوهر يقوم على الاستقصاء الرمزي والمادي للاخر، فضلا عن ركود المجتمع العراقي والذي يشكل العائق الاساسي امام تحولات مستديمة في انظمة التعليم والصحة والتكوين السياسي والثقافي للافراد والاحزاب والمؤسسات السياسية، واستنفار الشعارات، لذا تجري عملية تنميط خطاب اعلامي بشأن اميركا عبر/أبلسة/ الغرب في الثقافة العراقية مع العلم ان هناك ضعف هائل في الادبيات السياسية والثقافية العراقية عن اميركا. اميركا الثقافة، اميركا المؤسسات، اميركا الامبراطورية الكونية اميركا التكنولوجيا والتقانة الفائقة، اميركا مؤسسات الابحاث، وموسيقى الراب والجاز اميركا الحلم للطبقات الاجتماعية الوسطى.
التعليقات (0)