صورة المرأة فـي الإعلام والإعلان
لأن الإعلام الأداة الأسرع والأمتع والأوسع، وسيلتنا للدخول إلى فضاءات العالم العربي والغربي المحيط بنا، ترانا نجلس بالساعات لتلقّي كلّ ما يُنقل إلينا بالصوت والصورة، أو ما يُكتب لنا من مقالات وتصاريح وغيرها من الموضوعات الآخذة في التزايد والانتشار، التي تمُدنا بذخيرة كبيرة من المعلومات والمشاهد وتُمكِّننا من الاطِّلاع مباشرة على الأحداث والتعرّف إلى طبيعة القوى والصراعات الدائرة في المنطقة، نظراً لسيادة روح التسلط والتحكم والاستغلال من قبل الأقوياء، ليس فقط على مستوى البلد الواحد، وإنما على مستوى العالم بأسره.
أزمة في دقَّة الخبر
والإعلام احتلّ جزءاً مهماً من دور الثقافة، مستفيداً من التقدُّم العلمي والتكنولوجي في الطرق والوسائل، خاصة وأنّ طبيعة العصر المعقَّدة، وانعكاساتها على الواقع وطريقة التعامل معه، أتاحت لهذه الوسائل هامشاً كبيراً على حساب هذه الثقافة، غير أنّها ظلَّت قاصرة عن امتلاك رؤية شموليّة حرّة بكلِّ ما للكلمة من الحقائق والوقائع.
إزاء هذا الوضع، فإننا نواجه أزمة في دقة المعلومة والخبر. هذه الأزمة من الخطورة والأهميّة بحيث لا نستطيع أن ندرك جميع جوانبها وتأثيرها وانعكاساتها الناجمة عنها، لذلك نرى أنها بمقدار ما يخدم بعضها البشريّة، ويساعدها في حلّ عدد كبير من مشكلاتها والصعوبات، إلا أنّ بعضها الآخر يكون أعمى من بعض وجوهه، وقد يصعب السيطرة عليه، ليس من الناحية الفنيّة فحسب، وإنما من ناحية الهدف الذي يُراد الوصول إليه والغاية التي يُراد تحقيقها، خاصة في ظل غياب الضابط الأخلاقي، وضمور النزعة الإنسانية.
وحتى لا يقفز أحد عن كرسيه لتأنيبنا على ما قلناه، أو حتى لا يضيع المطلوب، أسارع إلى القول إننا أمام هذا الوضع المتردي، لا بد لنا من إعادة النظر جذريّاً وجدّياً في أغلب ما يُنقل ويُقال، لإعادة ترتيب الأولويات والقضايا، وأيضاً العلاقات، كما وندعو إلى قراءة جديدة على ضوء المتغيرات التي تطال العالم كله.
المرأة بيت القصيد
وعلى هذا الأساس أنطلق في تقديم قضيّة المرأة التي هي من أهم القضايا المعاصرة التي لطالما شغلت الإعلام، وكانت الحاضرة الدائمة في أغلب فقراته، يشغلها إعلانه وتشغله محاسنها ومفاتنها إلى درجة تُختزل فيها إلى حدود الجسد، ثم ما يلبث هذا الجسد أن يُختزل إلى اللاحدود.
إنها المرأة بيت القصيد. هذا الإنسان المخلوق أنثى، والذي تعرّض وجوده على مرّ التاريخ للقهر والتبخيس على جميع الصُعد، حتى قيل: «إنه لمن المفجع أن يُولد الإنسان أنثى في مجتمعنا» (1). وقيل أيضاً في السياق عينه: «إن المرأة لا تزال كمّاً مهملاً لا تشارك في الحياة العامّة إلا قليلاً...» (2). لذلك تكاد تُجمع الأبحاث التي تتناول قضيّة المرأة على أنّها تحتلّ موقعاً دونيّاً في المجتمع (3).
هذه النظرة إلى المرأة في مجتمعاتنا والمحيط، أشعرت المرأة أحياناً بأنّها غير ضروريّة وغير مرغوب فيها. والأمثلة في هذا المجال كثيرة كأن يُقال على سبيل المثال لا الحصر: «همّ البنات للممات، عار النساء باقٍ، المرأة ملاعيب الشيطان، النّسوان أحبال إبليس و...» (4).
هذا الرفض وهذا التنميط للمرأة من خلال النظرة غير السليمة، والنابعة من موقف مسبق يستضعفها ويقلّل من قدراتها وإمكانياتها بشكل عام، جاء القرآن الكريم ليصوّره تصويراً واضحاً، حيث تقول الآية الكريمة } وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌيَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ { (النحل: 58ـ59).
هذه الآيات نزلت في سياقِ ردّ الغبن والمظلوميّة عن كاهل المرأة، التي لطالما طُورد إنسانها، والذي استخدمه بعض الناس كمبضع يُشرح به جسد المقدسات والقيم والأعراف، فيُجهض به إنسانيّة إنسانها، ويدفن فيها الروح وهي حيّة.
أوهام ضد الإسلام
هاتان الآيتان سند ناطق لدفع توهّم الذين كانوا يرون أن الإسلام جعل المرأة تعيش داخل سجن ضيق يحبسها داخل جدرانه ويُغلق بوجهها كلّ الأبواب، حتى خرج من يقول: «إنَّ بعض هذه النظم تعود إلى القرون الخوالي وأصبحنا نتوارثها جيلاً بعد جيل، بحيث إنّها أصبحت من مكونات عقليتنا وشخصيتنا الاجتماعية. ومثال ذلك أن انعتاق المرأة من الحجاب لا يعني أبداً انعتاق فكرها وشخصيتها وعقلها إذا لم تنعتق من الموروث الثقافي الذي شكّل حتى الآن حجاباً على عقلها» (5).
مع هذا الكلام لا يسعنا إلا أن نردد قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (المزمل: 10). إنّ الرد على هذا التحامل، الذي أهمل الوضع الطبيعي والفطري لكل من المرأة وأيضاً الرجل، يكون من نفس القرآن الكريم الذي نظر إلى المرأة والرجل على حد سواء، واعتبر أنهما كوكبان يدوران في مدارين مختلفين، ويجب أن لا يخرج أحد منهما من مداره، يقول تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40).
القرآن وحقوق المرأة
إن القرآن الكريم الذي أحيا المرأة بعد موتها في الجاهلية، خطا خطوات كبيرة لصالحها وتأمين حقوقها كاملة، ودعا إلى إحياء إنسانيتها، وبعبارة أخرى نظر إليها نظرة تلائم طبيعتها. وعليه فالشرط الأساس لسعادتها أن تدور في مدارها ولا تخرج منه تحت شعارات زائفة لا تقدّم لها إفادة أو منفعة، بل تدفعها إلى التّيه والضياع تحت عناوين كبيرة كالحرية والمساواة، وهي عناوين استثمرتها جهات كثيرة دفعت بجهود المرأة وقدراتها ليس فقط لزيادة الإنتاج والاستنزاف بقدر حاجتها إلى جاذبيّة المرأة وجمالها ثم في مراحل أخرى تخليها عن شرفها وكرامتها. ولم تقف عند هذا الحدّ لتتجاوزه إلى تسخير فكرها وإرادتها واستثمارها في فرض السلع على المستهلك عن طريق الغواية والإثارة. هذا والشواهد كثيرة ولا تحتاج إلى إثباتات وأدلة، فقط فلننظر إلى المساحة الكبيرة من إعلانات التلفزة لنتأكد من ذلك.
هذا كله تحت شعار التمدُّن والعصرنة. وكلها أقاويل وأفعال لا تخدم المرأة ولا تعطيها حقها، بل على العكس من ذلك، فهي تُدمّر الجوانب المضيئة فيها، لتسلّط الضوء على جوانب هدّامة ليس فقط لشخص المرأة، بل لمجتمع برمته.
يجب أن نفهم أن التمدُّن والعصرنة لا يقتصران على الشكل فقط، لأن من نتحدث عنه ليس سلعة ولا قطعة ديكور ولا مركبة، بل من نتحدث عنه هو إنسان فيه روح تنبض بالحياة التي تتوزع دفئاً وعطاءً في المجتمعات وفي الأمم. صحيح أنّ القرن الأخير قد خلّص المرأة من مجموعة تعاسات، ولكنه في المقابل قد جاءها بمجموعة أكبر من التعاسات، ما جعلها في وضع لا تُحسد عليه، وهو إلى ذلك يخاطب مشاريع تنسج على منوالها وحسب غاياتها أهدافاً تريدنا أن نمتثل لها ونخضع لقوانينها.
صرخة في الغرب
إن نابليون بونابرت لم يخطئ عندما أشار إلى أنّ فرنسا لا تحتاج إلا إلى أم. واليوم نسمع الصرخة في الغرب عن التفكك الأسري والحاجة الماسّة لهيئة عائلة ولو صورياً، هذا إضافة إلى لجان وجمعيات تُطالب بالتخفيف عن كاهل المرأة وحسن معاملتها في المؤسسات والمحالّ التجاريّة ليصدق قول ويل ديورانت: «أدى البحث عن الربح الذي لا يقاوم إلى أن تتحرر النساء من العذاب والاستعباد في البيت، لتصبح رهن العذاب في المتجر والمعمل...» (6).
وأخيراً نقول: إنّ هذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من التفاصيل لوضعه في سياق متكامل، لكن «أن تضيء شمعة خير لك من أن تلعن الظلام». من هنا نؤكد على إن المعادلة السليمة والصحيحة التي لا تعرّض المرأة إلى الغبن والحيف، تبدأ من عندها ومنها، من شخصها وكيانها، فهي المسؤولة عن تقدّمها وتطورها، وهي الوحيدة القادرة على أن تمسك بزمام الأمور، وكيف لا، والإمام الخميني "قده" يقول فيها: «المرأة كالقرآن كلاهما أُوكل إليه صنع الرجال» (7) وهناك قول معروف في السياق عينه «وراء كل رجل عظيم إمرأة» (8). ثم نختم بقول سيد الأنبياء محمد (ص): «الجنة تحت أقدام الأمهات» (9).
العين الساهرة والمربية
إن الدور الأكبر والأهم في حياة المجتمع بأكمله يقوم على المرأة التي تُعد نصف هذا المجتمع. وعليها يقوم بناء واستقامة النصف الآخر. فهي العين الساهرة على مصلحة الأسرة التي تشكّل اللّبنة الأولى في قيام مجتمع فاضل وكامل وراقٍ.
ومن ناحية أخرى، فهي المعلّمة والمربية للأجيال، والطبيبة الناجحة، والمهندسة البارعة، وما إلى ذلك من المهن والدرجات التي نالتها سيدات وقورات، كنَّ جزءاً من حركة التاريخ والمجتمع. وإذا كان الدين مشرّعاً لكل تلك الإنجازات وداعماً لها من أجل البقاء والارتقاء، فهو نفسه هذا الدين الحنيف مع القرآن الكريم الذي حماها وحصّنها في مواجهة السقوط، وحال دون غرقها في أوحال مستنقعات نتنة تُفقدها عطرها ورونقها لتعود الجاهليّة من جديد ولكن بأقنعة متعددة، والموت واحد.
الهوامش:
(1) مقدمات لدراسة المجتمع العربي، هشام شرابي، ص 120.
(2) الديمقراطية أوّلاً... الديمقراطية دائماً، عبد الرحمن منيف، ص 210.
(3) المجتمع العربي في القرن العشرين، حليم بركات، ص 376.
(4) م. ن، ص 376.
(5) مجلة المستقبل العربي، عبد القادر العرابي، عدد 136، ص 57.
(6) ويل ديورانت، لذات الفلسفة، ص 155ـ 159.
(7) من أقوال الإمام الخميني (قده)، في خطاب له في ذكرى ولادة السيدة الزهراء (ع).
(8) م. ن.
(9) جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 21، ص 428.
كتبت بقلم: د. باسمة زين الدين .
المصدر: مجلة بقية الله http://www.baqiatollah.net
التعليقات (0)