عبـد الفتـاح الفاتحـي
عرفت صورة القدافي في الذهن المغربي تأرجحا بحسب السياقات التاريخية، وبحسب مواقف الرجل على المستوى الدولي والإقليمي والداخلي، ومعلوم أن صورة الرجل حافظت على إيجابيتها على طول عقدين من الزمن في عمر حكم معمر القدافي، وتميزت هذه الصورة بإيجابية كبيرة، حتى أنه أصبح مثالا أعلى لعدد كبير من المغاربة والسياسيين الذين كانوا يطمحون إلى التغيير في نمط الحكم الملكي بالمغرب، وخاصة أولئك الذين كانوا ينازعون الحسن الثاني على نظام الملك، وكانوا في فترة السبعينيات يتأهبون بين الفينة والأخرى للإطاحة به من حكم المغرب.
وتفيد استقراءات عدد من تصاريح المغاربة في الجرائد المغربية أن معمر القدافي استحوذ حتى على الشعور العامي المغربي، فكانوا يرون فيه رمزا للعربي الذي وقف في وجه الطغيان الأمريكي، وتفاعلوا بكثير مع التعاطف عقب القصف الأمريكي لبيته في أبريل 1986 وقتلت ابنته بالتبني حنا" بالإضافة إلى ذلك فقد قتل 45 جندي ليبي و 15 مدنياً، ومنذ ذلك الحين هيمنت صورة إيجابية للقدافي على ذهن المغربي. وعلى الرغم من عدائه البين الذي يمس وحدة التراب المغربي استمرت هيمنة صورته الإيجابية، حتى أن بعض الإعلاميين قال أن كارزمية القدافي نازعت بقوة من حيث التأثير صورة شخصية الحسن الثاني التي عرفت بالتشدد والقمع حيال معارضيه.
ويفسر عدد من المحللين أن هذه النتيجة راجعة إلى توصيف شخصية الحسن الثاني برجل السجون والاختطافات، وهو ما ارتسم عند عدد من الأسر المغربية التي اختطف أبناؤها أيام حكم الحسن الثاني، ولذلك كان يجد المغاربة في القدافي نموذجا للتغيير نحو الأفضل أو على الأقل من قمع حكم الملك الراحل الحسن الثاني.
وبذلك حافظت صورة القدافي على ايجابيتها رغم تأييده التاريخي لانفصال الصحراء عن المغرب، حيث كان من الداعمين الأساسيين لجبهة البوليساريو يمدها بالمال والسلاح والعتاد خلال المعارك التي كانت تخوضها ضد المغرب.
وعليه فإن المواقف المتذبذبة للقدافي من الصحراء ساهمت هي الأخرى لأن تحفظ لصورة القدافي هيبتها في ذهن المغربي، التي كانت تتأرجح بين دعمه لمشروعية المغرب على أقاليم الصحراء، ودعمه لجبهة البوليساريو.
وبالقدر الذي يسجل المغاربة عليه أنه أول من احتضن حركة البوليساريو ومدها بالسلاح ومولها بالمُدد وساهم بقوة في تكوين إطاراتها ومد مؤسساتها بالكفاءات، حتى أنه تم الإعلان عن ما سمي بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية في طرابلس قبل الإعلان عنها في بئر لحلو سنة 1976. وكما أن تأسيس حركة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب تم في القواعد الدبلوماسية والسياسية للعاصمة الليبية، حتى اعترف معمر القدافي في أحد خطبه: "أستطيع أن أتكلم عن قضية الصحراء أكثر من أي طرف آخر لأن البوليساريو الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب، نحن الدين أسسناها عام 1972م، ونحن الذين دربناها وسلحناها لتطرد الاستعمار الإسباني من الساقية الحمراء وواد الذهب، ولم نسلحها لإقامة دولة، ولم نقل لهم انظموا إلى موريتانيا أو الجزائر أو المغرب أو لا تنظموا، دربناها وسلحناها لتحرير الأراضي العربية من الاستعمار الإسباني...».
إلا أن المغاربة كذلك يتذكرون رفض القدافي لإقامة كيان جديد في الصحراء الغربية، ودعت القيادة الليبية خلال 24 دجنبر 1977م إلى ضرورة تجاوز مطالب أطراف النزاع عبر تحقيق الوحدة بين الدول المغاربية من خلال إقامة كونفدرالية تضم كلاً من ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا.
والحق أن صورة القدافي لدى المغاربة ظلت هي الأخرى متأرجحة بين الإيجاب والسلب، فعموم المواطنين كانوا يرون فيه رجل دائم المناورة على الوحدة الترابية للمغرب، بينما كان يرى فيه المناضلون السياسيون أنه رمز لتغيير نظام الحكم الملكي في المغرب إلى حكم جمهوري، وهذا رأي المعارضين المغاربة لحكم الحسن الثاني، وخاصة قادة الانقلاب وعدد من السياسيين اليساريين المغاربة.
وكثيرا ما يتصور المغاربة معمر القدافي بأنه مزاجي، وإنسان غير منضبط، تتغير مواقفه بسرعة كبيرة، وأنه شخص غير مؤتمن، وتعزز هذه الصورة لدى المغاربة، حين استدعى العقيد المغرب رسميا للمشاركة في احتفالات الذكرى الـ40 لتوليه السلطة في ليبيا على مستوى عال، وقد قرر المغرب المشاركة بكثيبة عسكرية، لكن الوفد المغربي تفاجأ بوجود زعيم جبهة البوليساريو بالقرب منه، واستدعى ذلك انسحاب المغرب من الاحتفالات احتجاجا على دعوة القذافي لممثلين عن البوليساريو.
ولذلك تسود نظرة تكاد تكون عامة لدى عموم المغاربة أن معمر القدافي يلوك نظريات واختراعات فكرية نمطية بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش فتارة يؤيد مشروعية المغرب على الصحراء وتارة يؤيد البوليساريو، وطورا يدعو إلى تأسيس دولة إسراطين نسبة إلى فلسطين وإسرائيل.
خرافات تجاوزت في كثير من الأحيان حدود المعقول، حين قال: إن شكسبير هو من أصل عربي، وأن اسمه الحقيقي هو "الشيخ زبير".. ومرة يصرح أمام الملأ أنه ملك ملوك العرب وقائد إفريقيا وأب التاريخ... وهي تصريحات يعتبرها المغاربة اليوم جملة من الحماقات الفكرية التي امتلأت بها جعبة أقدم رئيس عربي، فهو بالنسبة لهم رمز للاستبداد والتكبر والعجرفة غير المحسوبة.
ويرى عدد من المتتبعين أنه في الآونة الأخيرة وخاصة مع فترة حكم الملك محمد السادس تبدلت صورة القدافي في ذهن المغاربة من الإيجابية إلى صورة نمطية وسلبية، ويفسر ذلك بتحقق الإجماع المغربي حول قضية الصحراء، وباتوا يعتبرون أن الذي يعاكس سيادتهم على الأقاليم الجنوبية إنما هو عدو استراتيجي، فكان أن انعطفت زاوية رؤية المغاربة تجاه معمر القدافي إلى كل ما هو سلبي، مع الاحتفاظ له ببعض المواقف الإيجابية في دفاعه عن الوحدة ومواقفه غير المؤيدة للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة صراعه مع الغرب في قضية لوكيربي، جعلت صورته تحافظ على إيجابيتها لكنها فقدت بريقها بعد أن قبل بتسليم المقرحي المتهم الرئيس في قضية تفجير طائرة لوكيربي، وبعدما قبل القدافي بالتخلي عن برامج التسلح النووي، وحينها انقلبت صورته بمائة وثمانين درجة في الذهن المغربي.
كما يتصور المغاربة اليوم أن القدافي لا يشرف الأمة العربية فبالأحرى أن يكون رئيس دولة تنتمي لجامعة الدول العربية، وهم في ذلك ينعثونه بأنه زعيم ديكتاتوري جنى على الشعب الليبي.
وكثيرا ما يعتبر المغاربة تصريحات القدافي بأنها لا تخلوا من بهرجة وكوميديا ممزوجة بتراجيديا، حين يسئ بذلك إلى الأمة العربية وإلى العرب، ويعتقد عدد من الباحثين المغاربة أن ما يقوم به معمر القدافي من سلوكات متهورة تزيد من تكريس الصورة النمطية للعرب في الذهنية الغربية، ويستدلون بذلك بتشبث معمر القدافي خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية بنصب خيمته أمام الفندق الذي كان يقيم به على طول مدة اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويعتبر عامة المغاربة أن سلوكات وأقوال الزعيم معمر القدافي تندرج في إطار العجائبي، وحتى سما أحدهم يقول الزعيم بات يثير السخرية، أو تقبل من باب الدعابة لا غير، وأنه مصاب بجنون العظمة، حين قال بأنه ملك ملوك إفريقيا و إمام المسلمين وأن مكانته العالمية هي التي دعته إلى طلب الصلح مع العاهل السعودي خلال القمة العربية الأخيرة وغير ذلك مما اعتبروه تخاريف.
ولقد صب المغاربة جام غضبهم حين رفع القدافي دعوى قضائية ضد الجرائد المغربية حين اتهمها بالمس بكرامته وقالوا بتهكم إن ملك الملوك، الأسطورة التاريخية؛ فخامة رئيس الجماهيرية الأولى في العالم والتاريخ؛ لماذا لا يرفع دعاوي قضائية ضد الصحف الغربية تجعل من شخصيته كل يوم صورة كاريكاتيرية ساخرة.
واعتبر الصحفيون المغاربة قرار القدافي بمتابعة عدد من الجرائد المغربية بما أسموه "العنترية" على الجرائد المغربية بينما يتخلى عن فعل مثيل ذلك أمام جرائد الغرب.
وكانت جريدة الأسبوع الصحافي المغربية أن رسمت للقدافي كاريكاتير وهو يخلع سرواله أمام الغرب في إشارة إلى القبول بتفتيش منشأته العسكرية التي كانت محط خلاف طويل بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وباقي الدول الغربية، عشية إعدام الرئيس العراقي صدام حسين.
وازداد حنق المغاربة ما فعله بإحدى القمم العربية في حق العاهل السعودي الذي يكن له المغاربة كثيرا من الاحترام لما يوليه من عناية بالغة للمغرب، وخاصة في حرص العربية السعودية الوقوف إلى جانب المغرب في كل الظروف الصعبة.
وحينما قرر متابعة عدد من الجرائد العربية قضائيا كما هو الحال بالنسبة لجريدة الوطن السعودية، وفي سياق تعاطف المغاربة مع الجرائد المغربية والعربية يعبر عدد من المغاربة أنه من الأولى على المغرب والعرب رفع دعوى ضد القدافي أمام محكمة دولية لما يسيء به إلى الأمة العربية.
وذلك أن العقيد بحسبهم لم يكن ملتزماً أيديولوجياً أو منسجماً عقائدياً في عطاياه. كان يغدق الأموال على تنظيمات يساريّة ويمينيّة على حدّ سواء حول العالم، بل للترويج لنفسه ولـ«نظريّته المزاجية» فكان يجزل العطاء على معارضي خصومه الإقليمييّن والدوليّين، وكثير ما أثاروا نزاعات مجانية ونالوا من الأمن والسلم العالميين الدوليين.
ويرى عدد من المغاربة في قيادة معمر القدافي أنه ليس بالقائد الشرعي، لأنه على حد تصورهم جاء إلى ليبيا على ظهر دبابة! وادعى الاشتراكية أكثر من كارل ماركس مخادعا إلا أن انبطح على بطنه أمام جورج بوش في إشارة إلى قبول تفتيش منشأته النووية بعد لاءات كثيرة، وذلك ليحافظ على جماهيريّته، مقابل الانصياع الكامل لأمريكا.
وتتشكل الصورة السلبية لمعمر القدافي عند المغاربة بعد الاطلاع على مقالاتٌ صحافية أميركية تؤكد أنّ العقيد سمحَ لوفود عسكريّة واستخباراتيّة أميركية بالتجول في أكثر المواقع سريةً في البلاد. وتطوّعَ لأن يصبحَ مُخبراً عن التنظيمات التي كان يدعمُها بالمال والسلاح.
ويشبهه عدد من المحللين الصحفيين المغاربة بأن القدافي يعد دون كيشوط زمانه يقود حربا بلا هوادة ضد المجهول، ويرون أن القدافي كثيرا ما قاد معارك جزافية، وكان يفضل أن يخوضها لوحده، وحين يفشل في تحقيق الإجماع حول القضايا التي يطرحها يتهم العرب بالتخاذل والامتثال والإذعان للقوى العظمى، فيتهم زملاءه من القادة العرب بالعمالة للغرب.
محلل سياسي
elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)