صورة!
ظل جدّي متوترا منذ بلغه إتهام نور الشريف بالشذوذ الجنسي... حين يختلي بنفسه، كان نسمعه يرددّ بأعلى صوته دون أن يكف عن ضرب الحائط بقبضتيه الواهنتين:
ــ هل فعلتها حقّا يا نور الشريف؟ هل فعلتها حقا يا نور الشريف؟... لو صحّ الخبر فستكون كارثة حقيقيّة!
أحترت كثيرا من موقف جدّي و تأثره البالغ بقضية الممثل المصري الذائع الشهرة.. لم أتصورقطّ أن جدّي الوقور المتدين سيتأثر قليلا أو كثيرا بما أشيع عنه، لأن الوسط الفني المليء بالمثيرات الجنسية و السقطات الأخلاقية لا يمكن أن يصيب روّاده بغير إلإشاعات المماثلة.. لأجل ذلك فإن وقاية الشرف الرفيع من الأذى يقتضي من كل شريف مقاطعة ذلك الوسط الموبوء و أهله ليس هذا فقط، بل و مقاطعة كل من تربطه صلة بمن يرتاده ...لأجل ذلك، لم أملك نفسي أن صحت بجدّي العزيز حين راعني تأثره المتصاعد بمرور الأيام و توالي الأنباء عن آخر المستجدات في قضية الحال :
ــ لو كان الرجل حريصا على شرفه لما امتهن التمثيل أصلا.
اعتصم جدّي بالصمت. اكتفى بزم شفتيه و التطويح برأسه في هيئة المستخف بي! حين انصرفت عنه الي حاسوبي سمعته يقول:
ــ متى ستقلع عن حماقتك و تكفّ عن سطحيتك؟!
تدخلت والدتي لأول مرة منذ محنة جدّي... ضربت كفا بكف ثم قالت مدافعة عني :
ـــ و حق الله يا ابي... لقد أحترنا في أمرك.
كان جدّي يتطلع إليها وقد ارتسمت على شفتيه نفس الإبتسامة الساخرة في حين استمرت والدتي تقول :
ـــ بالله عليك كيف تهتم بأمر ممثل مائع كما كنت تسميه، حتى انك وصفته لي ذات مرّة بأنه أبعد ما يكون عن النور و عن الشرف؟
نهض جدّي من مكانه، تأملنا طويلا، أرسل زفيرا حادّا تلاه استغفار حارّ و استعاذة من الشيطان الرجيم، ثم أردف وهو يولينا ظهرا نحيلا:
ـــ وهذه المخلوقة أيضا لا تقلّ عن ولدها حمقا و سطحيّة!
أشفقنا على جدّي كثيرا، منذ ذلك الحين... تأكدنا من دخوله الفعليّ مرحلة التدهور العقليّ التي تسمّى خرفا بلغة الطبّ.. و إلاّ فهل يعقل لإنسان سويّ تغيير ظنه السّيء في شخص كريه بعد أن يبلغه عنه ما يزيد ظنه سوءا؟!
تفاقمت حالة جدّي، كثر همّه و قلّ طعامه و ندر نعاسه، حتى أثناء نومه كنا نسمعه يردّد بين شخير و آخر:
ــ اللهم لا... اللهم لا ... اللهم ألطف بأمّة محمّد!... اللهم لا ... إلاّ نور الشريف... إلاّ نور الشريف!
ضحكت و أمي طويلا حين سمعناه ذات مرة و هو يدعو بضراعة عقب صلاة ظهر أو عصر:
ــ الله أجعل الخبر كاذبا و الإشاعة باطلة.... يا عالم المخفي و الظاهر، أحفظ صورة عبدك الطاهر نقية في أذهان الأجيال القادمة!
حين بلغ جدي تبرئة نور الشريف، ثم إصدار حكم بالسجن و غرامة ماليه في حق الصحفيين الذين اتهموه... طار فرحا و عادت إليه بهجته... لأول مرة في حياتي رايته يرقص طربا، حتى انه اتصل بمحلّ مرطبات فاخر وطلب كعكة ذات ثلاث طوابق لا تليق بغير المناسبات الكبرى، أوصى بان يكتب عليها بخط من شكولاتة "احتفالا بنقاء صورة الرجل الطاهر"... وقد تولى جدي قطع الكعكة بنفسه.!
رغم زوال توتره و انتظام أكله و نومه و عودة السلام الي نفسه، فان هاجس الخوف علي جدي لم يغادرني...كان لا بد لي ــ حتى ولو اتهمت بسطحية كل الدنيا و حماقتها ــ أن اطرح عليه سؤالا الحّ
عليّ طويلا.
كان جالسا حين دنوت منه، طوقته من خلف بذراعيّ، أزحت طاقيته طبعت قبلة على شعره الأشيب، سألته برقة:
ــ هل يمكنني يا أعز جدّ في العالم أن أسألك و أنا آمن؟
ضحك طويلا ثم قال:
ــ سل و أنت آمن!
ـــ هل كان نقاء صورة نور الشريف يهمّك الي هذا الحدّ؟!
أمسك جدي بيسراي سحبني أمامه ضغط على ساعديّ حتى أجبرني على الجثو على ركبتيّ... أمسك إذني سألني وهو يوسعها فركا :
ـــ أي صورة يا مغفل؟
ثم وهو يغرق في الضحك:
ـــ آه ... أه لعلك شككت ولو للحظة واحدة أن تلويث صورة ملوثة أصلا قد أهمت جدك.
اجبته و أنا أحاول إبعاد إصبعيه عن أذني:
ـــ ذلك ما اعتقدته بالضبط، خصوصا و انا أعلم رأيك في الرجل.
فاجأني حين قال مؤكدا:
ـــ ولا زلت حتى اليوم محتفظا برأيي فيه.
قلت وقد داخلني يقين شابه إشفاق شديد لخرف جدّي المسكين:
ــ علي أي صورة تحرص و عن أي رجل طاهر تتحدّث إذن؟
ابتسم جدّي ثم قال:
ــ عن صورة عمر !
ـــ ....؟؟؟
ـــ أعني عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه...
ــ لعلك تعني خامس الخلفاء الراشدين؟!
وكزني جدي بمرفق حاد وهو يقول:
ـــ بلى يا خاتم الحمقى و المغفلين و هل اعني سواه!!
صحت من فرط تعجبي:
ـــ و لكن ما دخل صورة الخليفة الراشد بما أتهم به الممثل المصري؟
ـــ ألم يبلغك يا سخيف أن ذلك..
ثم هو يقلدني متهكما
ـــ ... " الممثل المصريّ" قد قام بدور عمر بن عبد العزيز في مسلسل رمضاني سابق !
كنت مستغرقا في نوبة ضحك هزت جسدي حين استمر جدي يقول بكل جدية:
ـــ ما شق على جدّك و كبر عليه، هو اقتران صورة عمر بن عبد العزيز في اذهان المسلمين... ولأجيال كثيرة قادمة... بصورة ممثل مأبون!
ـــ ....
ـــ الا يكفي ذلك استهانة بصورة الرجل الطاهر؟!
أوسلو 22/2/2010
التعليقات (0)