صوتان وحياتان
بقلم: حسن توفيق
هما صوتان نادران، عشقتهما منذ مراحل التكوين الأولي ومازلت.. أحياناً أقارن بينهما، وفي كثير من الأحيان أدمجهما وأمزجهما في أعماق روحي المتعطشة دوماً للجمال. هذان الصوتان هما أم كلثوم و أسمهان لكن لهذين الصوتين حياتين مختلفتين نتيجة أسباب ومؤثرات متنوعة.. أم كلثوم عاشت حياة طويلة، أتاحت لفنها أن يمر بمراحل عديدة، تتجاوز فيها المرحلة اللاحقة مرحلة سابقة، لكنها حرمت نفسها من متع الحياة العابرة حرصاً علي موهبتها، لدرجة أنها رفضت الزواج من عاشقها الروحي أحمد رامي حتي تظل جذوة إلهامه متقدة دون أن تخمد. أما أسمهان فيبدو أنها كانت تحس أن حياتها لن تكون طويلة، فانطلقت للمغامرات ولحياة الصخب الذي لا يهدأ، وبالفعل فإن أسمهان رحلت- كما أحست- وهي في مقتبل الشباب.
الجسدان غابا، أما الصوتان فقد بقيا وسيبقيان، وستأتي أجيال تلو أجيال لتستمتع بأن تستمع إليهما، وقد تتكرر المقارنات بينهما أو يمتزج الصوتان في الأرواح المتعطشة للجمال.. هذا يعني أن الابداع المتميز بالعمق وبالصدق يستطيع عبور الأزمنة، رغم غياب أصحابه المبدعين، ورغم أن هؤلاء لم يعيشوا حياة نمطية تشملهم جميعاً، ولو طبقنا هذا علي شعرائنا العرب، فإننا نتذكر الحياة القصيرة الحافلة بالآلام لأبي القاسم الشابي، وفي المقابل نتذكر أن محمد مهدي الجواهري قد عاش ما يقرب من مائة سنة، وقد رحل الشاعران، أما ما أبدعاه شعراً فما يزال مورقاً ومثمراً. وفيما يتعلق بظروف الحياة، فإننا نعرف أن أحمد شوقي كان من كبار الأثرياء، لكن حياة الترف لم تمنعه من مواصلة عطائه الشعري، بل ربما حفزته، وعلي النقيض فإن شاعر البؤس عبدالحميد الديب كان - في كثير من الأحيان- ينام جائعاً لأنه لا يجد قوت يومه، لكن حياة البؤس ظلت تلهمه وتوقد جذوة الابداع في قلبه وعقله.
أقول هذا.. وفي ذهني نماذج عديدة لمبدعين لا يكفون عن الشكوي من ظروف حياة كل منهم، والتي لا تتيح لهم أن يقدموا من إبداعاتهم مايتمنون، وقد يلجأ هؤلاء إلي عقد مقارنات بين ظروف حياة كل منهم والظروف التي يعيش في أجوائها سواهم من المبدعين المتألقين. هؤلاء لايخدعون أحداً بقدر ما يحاولون خداع النفس، فالأجدر بهم أن يسعوا - رغم كل ما يشتكون منه- إلي مزيد من الابداع، مع الحرص علي ألا يكون هذا الابداع مجرد اضافة إلي الكم وليس الكيف .
يقول العبقري المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً- تعبت في مرادها الأجسام وهذا يعني أن الإرادة الإنسانية تستطيع أن تحقق الكثير، إذا لم يستسلم أصحابها للتكاسل والخمول، وإذا لم يلقوا بأنفسهم في هاوية اليأس، وهذا الذي ينطبق - بوجه عام- علي الإنسان، ينطبق كذلك علي المبدعين الحقيقيين الجادين.
التعليقات (0)