صندوق عم علي
قصة قصيرة لسعيف علي الظريف
كان يا مكان .. قصة طويلة عن الكلام... تنبت في آخرها شجرة خوخ، من صعد اليها نبت له ذيل وصار لا يحلم.
من قصص عم علي لم نأكل بعدها خوخة واحدة.
هممت أن أتجه إلى الثلاجة أقطف منها قارورة ماء باردة، لكني شعرت بدوار خفيف،... يبدو أنّ حركتي المتسرعة من الأريكة إلى المطبخ قد وضعت دورتي الدمويّة في مأزق فاضطربت،... شعرت أنّ العرق يغطي جبيني بحبّاته الباردة.... اتجهت إلى الأريكة وأنّا أتحسس جيني أبحث عن قطعة من السكر اعتدت أن أحملها لمثل هذه الطوارئ،.... بقيت بعض اللحظات جامدا أبحث عن الاتزان وأحاول أن أعيد جأشي.
كانت مثل هذه اللحظات تنبئني أنّ الكتابة استطاعة إذا لملمت ما فيها من حرف. ...أقبلت على مكتبي، أخرجت اعتباطي القوة وأنا أتجه إلى غرفة المكتب. دخلتها وأنا أستند قليلا إلى الحائط استقبلني الكرسي واستسلمت لأوراقي أفرغ فيها ما بي من شبه قوة وضعف.... رفعت القلم في لحظة ولادة وبدا لي سيف بن ذي يزن عائدا في ساعدي. يأخذني على غير عادته إلى شيء من شعر. كانت خصلات شعري عندما أكملت رمي ما في صدري من فورة، تتلوى بين أصابعي كأنّها تشاركني ما كنت أعاني من ولادة. استبد رأسي بصدري وانطلق زفيري كفوران بركان صامت. كان قلمي يضعف كلّما توقف نزيف العرق أو انتقلت برودته إلى اعتدال ودفئ. كان هذا ينبؤني أنّ ذائقني انقلبت إلى ظهر الوعاء وأنّ لا حاجة لمطاولة أو جهد. انفلت كلامي مرّة واحدة وبدت لي أنهاره عندما رنّ الجرس في نعيم الخلوة عذراء صفراء من ركود الكلس. اكتشفت وأنّا أمضي إلى الباب وراء ما كتبت أنّ قلمي قائد يبول على أرض حرب خاسرة.
أصلحت شعري ورسمت خطوط وجهي وأنّا أزيح سر الباب الخشبي. كان توفيق واقفا يكاد من طوله يسد المدخل. شخصت إليه برهة دون أن انبس بكلمة أو أمد يدي بالسلام والتحيّة. ضلّ هو ينتظر أن أبادره، وقد يكون قدر أنّ مجيئه لن يكون سهل الهضم ولن تكون المفاجئة دفعا لسرور أو غضب، ولكن لشعور غير بيّن ولصور غير واضحة، غير أنه اقتحم بهتتي بابتسامة نبعت من وجهه الصّامت ثمّ قرّع حروفه وهو يمد يده.
- هل أدعوك عندي إلى بهو العمارة أم تدعوني عندك في الشقة.
- أهلا ... أهلا توفيق.
- لا بدّ أن حضوري كان مفاجئة؟
- تقريبا... لكن مرحبا... تفضل...
- شكرا
اتجهنا إلى صفّ الأرائك التي كانت قبالة المدخل، وأسرعت بدعوته للجلوس، وأنّا أحاول أن أتجاوز بغتتي، عجّلت الكلمات وخضنا حديثا صغيرا عن أحواله وأحوالي وعن الحياة والناس.... لم أكن أحبّ توفيق كثيرا، كان يشعرني بالضيق والانقباض لكن لهذا الإحساس لم يكن يعني عندي الاحتقار والاستعلاء، فقط كنت لا أحبه ولا تعجبني طريقة الحياة التي يخوص بها يومه. كان عضوا نشيطا في نقابات الطّلبة، شديد الضجيج إذا علا بصوته في الجموع. ضلت هذه الصورة هي الوحيدة التي أسترجع بها طيفه. فلم أحاول مرّة أن أقف إلى جموعه لأسمعه، رغم أنّ كليّة الصحافة ضمتنا سنين قبل أن أتخرج وأدعه لتفصلنا سنوات أخرى.
حاولت أن أعرف سريعا سبب مجيئه، وأن أذهب بالحديث إلى أقرب المنعرجات.... كنت أحاول أن تكون أجوبتي قصارا محدودة. قطعت سلسلة المواضيع التي خضتها معه بسكوت وإطراق حاولت أن لا يكون مفهوما دون أن يصل به الإحساس إلى أنّي ممتعض.. حتى وجدت سلكا شددت إليه الحوار.
- لا بدّ أن أمرا دفعك إليّا .
- صحيح .
-... .
- لقد جئت من القرية هذه المرّة أحمل أمانة....
- ... لم أفهم.
- سلمها لي المعلم علي منذ أسبوعين .
- هل هو بخير .
- توفي منذ أسبوع تقريبا .
-... رحمه الله....
- رحمه الله .
- لقد كان رجلا طيبا. علمني أوّل القراءة والكتابة .
- كان يحبك كثيرا .
- وكنت أحبه حقا... رحمه الله كان كبيرا .
- أوصاني أن أسلمك صندوقا خشبيا مع مفتاحه وظرف فيه رسالة لك.
- هل جئت بكلّ هذه الأشياء؟ .
- ولكنّي جئت بالرّسالة فقط. تركت الصندوق عندي حتى تحدد أتأخذه أو أضعه حيث وصاني.
" ماذا تعني.
- ستجد المعنى في الرسالة. أنا لا أدرى ولكنّك ستحدد موقفك من خلالها.
- أي موقف... لماذا هذه الألفاظ العظيمة .
- عنيت أن تأخذ الصندوق أو أن تدعه .
- آه... حسنا .
- لا تتعجل على كلّ حال . هذه وصيته الثانية.
-... ....
- على كلّ يجب أن أذهب الآن... لا داعي للقهوة .
- ... ... .
أعطاني توفيق الرسالة وانقلب إلى شأنه، تركني بين نزعتين سخر مني، ولم يفهم أنّ مجيئه أنساني الضيافة واللباقة وسلمني أمرا لست أعرف أأقوم به أم أدعه وأفوز لنفسي بإعراض ودعة.
عم علي المعلم رجل ربع، عرفته في طفولتي وفي شبابي، كتلة جسم لم تتغير حتى آخر لقاء جمعني به في قرية تلّ الربيع. كان له في جميع دور التلّ قصص وحكايات وحوادث، سكن في القلوب وعاش في بساطة بين الدرس والحقل والحانوت... كان أمل أبي حين دفعني إليه، أن أكون مثله مرتفعا كالشجر ممسكا بالأرض. نشأت أراه وأضع الطّريق لجسمي أن يقف طوله عند طول المعلّم علي وأن تشتدّ أصابعي فتستوي وتتعرج كمثل أصابعه... كان يضعني أمامه فتبدأ الحياة في التشكل في مفاصل لسانه... أحببت الحكاية عنده وسار في خيال وسع،... أرشدني إليه دون أن يكون تنبيهه مباشرة . ...حفزني للحرف حتى تركته منذ أول الجامعة وانقلبت إلى شأني،... فصلتي عنه رغبة الحياة والمهنة اللعينة.... أخذتني المدينة وبقي هو إلى رحابته، نسيت ما ربطني به ولم تغويني طفولتي بزيارته...
لم يكن عمّ علي قريبا مني كما هو الحال الآن، ولم أكن أتصور أن يردّني إليه بعد أن مات ويقتحمني وقد غطّاه التراب وارتحل إلى عالم غير الذي أحياه أنا.... لعلّ الفكرة تشبه روحا من عالم الموت تبحث عن تناسخ.... جعلت الفكرة حينا تعمل على جلدي قشعريرة، زادت في ما اعتراني من انقباض العضلات منذ أخبرني توفيق بوفاته..... منذ ساعة وأنا أخوص الخاطر في شبه شعور وخليط من التشوش.
كان يجب أن أقنع نفسي أن شيئا ما يربطني بعم علي، وأنّ السنوات التي فصلتني عنه لا يمكن أن تسدّ طريقا، وأن تغيب بي في نسيان بغيض يقطعني عنه، فلم يكن عم علي غريبا عني كما هو الحال الآن. ولم يكن بمقدوري أن أتصور مجيئه وحلوله عندي بعد أن مات. أن يردني وقد غطّاه التراب وارتحل إلى عالم غير الذي أحياه. كان إحساسي يتقلب ويتمرغ على كلّ جسدي وتمتلكني من حين لآخر قشعريرة سريعة كلّما فكرت بالأرواح والأموات.
لعلّ أكثر الأفكار التي شغلتني والخواطر التي خاضت في مساحتي، أنّي جعلت نفسي أمامه سائلة عن اختياره لي. فلم يكن الأمر يحيّرني لكنّي حاولت أن أجد تبريرا لكلّ هذا. بدا لي أنّي كنت آخر من فكّر فيهم قبل أن يموت وقد يكون إحساسه بالموت هو الذي حدّد عنده ما يفعل في آخر الأيام.
كان الأمر صعبا بالنسبة لي... كان علي أن أفكك حيرتي وأفتحها على ما يقنعني ويرضيني... ويرسل في نفسي طمأنينة.... حاولت أن أجد تبريرا لكلّ ما حدث اليوم ....وأخفف ما فعلته الكلمات الكبرى التي وصف بها توفيق الأمر عن المواقف والأمانات وعن عمّ علي ذاته وعن القرية وعن نفسي....لماذا اختار عمّ علي أن أكون أنا عبد العظيم صفيه... فيضع عندي رغبة خالجته واستوعبته،... ولعلي كنت آخر من فكّر فيهم قبل أن يموت. فعندما يكون بين الواحد وآخر مسافة يشعر بها وقد لا يعلمها.
لم أجد للسؤال جواب و انا اجلس على مكتبي في الجريدة....مرت من السنوات عشر كاملة و الصندوق في مكتبتي لم استطع فتحه ...كان ينتابني شعور غريب و كنت اجبن حتى على طلب مساعدة من احد ليفتحه ....لماذا ارسل لي عم علي صندوق الرسالة بعد ان مات .... كنت اخاف الموت حتما...رحم الهم عم علي... اخذت الصندوق ومسحت على جسمه الخشبي و نظرت اليه ثم اعدته الى المكتبة.
سعيف علي الظريف
كاتب من تونس
saifdrif@gmail.com
التعليقات (0)