لقد شبع القارئ تنديدًا بالأحداث وتصويرًا للمجازر! ربما ينتظر منا رؤية تختلف عن مواقف الشجبِ والادانة وتحميل المسؤوليات وإلقاء التُهم، وقد أتخم تحليلات سياسية وأخرى عسكرية تحمل توقعات أكثرها تفاؤلا ينذر بكارثِةٍ كبرى.
مخطئٌ ربما من يظن ان اي فردٍ منّا بوصفِه "إنسَانًا " بمنأى عمّا يحصل من آلام هنا أو هناك؛ لأننا بالدرجة الاولى وقبل كلّ شيئ شركاء في الانسانية، علاوة على ان كثيرًا من القراءات تبدي قلقًا من تفاقم الأوضاع وامتدادها بحيث تخرج عن سيطرة صانعيها وحدود توقعاتهم وامكانياتهم.
وإننا كأفرادٍ نؤمن بكونية الانسان وحقوقه ونتخذ من اللاعنف عنوانًا نتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه شركائنا في الانسانية وتجاه ما يحصل من أحداثٍ تتجاوز حدود الإبادة في بعض صورها؛ وإن طرح إشكالية الوضع الانساني وقضايا السلام في دوامة "المجازر" التي بَلغت ذروتها القصوى، يضع اللاعنف "حُلمًاً" صعبَ المنال ناهيك عن التطبيق.
اللاعنف في دوامة الحرب:
مؤلمٌ إذن هو الوضع في غزّة! فصورُ أشلاء الاطفال الممزقة توقظ الانسان من رقادٍ عميق وتضعنا أمام أجيال تنظرُ إلينا بعيون غُلّفت بالدماء والدموع، فالمآسي تقود آرواح البشر جميعا من جميع أقطار الأرض ليقفوا الى جوار طفلة لاذنب لها الا انها ولدت هناك!
فعندما تنبثق أقصى أشكال العدوانية فإن مفاهيم السلام تتراجع بطبيعة الحال، واليوم أملنا معقودٌ على الانسان (مهما كان) ورجاءنا بالأفراد، وتمنياتنا على سياسات الدول كلها ودبلوماسياتها التي بمعظمها احترفت الالتواء والعنف وطغت الفلسفات المادية على كافة أشكال مصالحها ومآلاتها، ان تسعى الى وقف العنف واطلاق النار الفوري.
وبعيدًا عن السياسة وسجالات الساسة وصُنّاع الحروب وقريبًا من أرواح البشر أينما كانوا ولأي عقيدة انتموا (يهودا، مسلمين، مسيحيين،...)، ومن منطلق ان كلّ انسان منّا: أمّ وأبٌ إبن أو حفيد، واننا كأفرادٍ أسوياء نرفض الحروب،ونرغب ان نعيش وان يعيش الآخرون بسلام؛ ومن منطلق ان رؤية الأحداث ينبغي ان تكون بعينتين اثنتين، لابد من اقرار بعض النقاط:
• الحروبُ كلّها جائرة. فمهما كانت دوافعها ومآلاتها هي محض فعلٍ لا أخلاقي يتخذ من العنف سبيلا لاخضاع البشر بالحديد والنار، وشتى أنواع العنف مُدانة وكل استعمال للأسلحة هو من قبيل العبث والدمار.
• ان التنديد بويلات المجازر لا يكفي لبناء سلام، وان كانت الحرب شرًّا فإن الاستبداد شر أكبر منه. ان البدائل السلمية ينبغي ان تحقق حلولا عملية، وهنا استعير مقولة لجان ماري مولر:" يا لحماقة السلام الذي يُغطي الاستبداد ويتساهل مع العدوان!" فالسلم لا يكون إلا عبر مقاربة متكاملة للمشكلات السياسية المحرضة للحروب والنزاعات، فالغايات والاهداف العادلة هي تلك التي تسعى الى حماية المدنيين ورفع العنف عن المضطهدين وهي لا كون الا عبر وسائل عادلة اي باعتماد استراتيجية لاعنفية في المقام الأول.
• إننا نعوّل على انسانية الاسرائيلي كما نعول على انسانية الفلسطيني، واننا نبرأ من آلة العنف والدمار والجنون، فلليهود تراثٌ روحي يربأ بهم ان يقترفوا "المجازر " وهم الذين عانوا من ويلات الاضطهاد و"المحرقة" وأن يختزلوا لاهوت "أرض الميعاد" بجدار يعزلهم عن اخوتهم في الانسانية ويضعهم ضمن غيتوهات معزولة، فأطفال غزة والضفة ليسوا بأعداء لهم!و قوارب الاغاثة الانسانية لا تحمل صواريخًا! واننا نعول على تراث المسلمين الروحي الذي يأبى أن يتحول معه الانسان الى مجرد "آلة ردّة فعل "، فالاسلام كرسالة توصف بالسماوية موجهة لكل البشر والتي يتفق المسلمون على انها أرسلت رحمة للعالمين، لا يمكن ان تُختزل بشكلٍ واحدٍ على صورة نزاع دائمٍ مع الآخر!
• ان المتابع للسيرورة التاريخية يجد ان كبرى المجازر في التراث البشري سببها أحقاد "جماعية" لا ضغائن شخصية، وهنا تتبلور مسؤولية القيادات "السياسية والمجتمعية" في بلورة "عفو" يحرر التاريخ من دوامة العنف. وهي دعوة للعقلاء من جميع الأطراف في الامم المتحدة والمجتمع الدولي الى لحظة تاريخية حاسمة تتيح حل النزاعات حلا انسانيًّا وبوسائل سلمية.
أخيرًا هذا الحلم:
أعلمُ جيدًا انّ طرح مفاهيم التسامح والسلام في ظل المجازر تبدو حُلمًا غير عادل، وقد يفسرها البعض على انها من قبيل مسامحة المعتدي وخدمة له، غير إن بدا أن العنف ضروريا لرد العنف فهو لا يمكن ان يكون عملا مشروعًا بحال من الأحوال، فالسلام أصلٌ يضفي بعدًا أخلاقيا على عمل الكائنات الانسانية ويعطي لوجودها معنى.
إن ما نحتاج إليه اليوم وأكثر من أي يومٍ مضى هو إيجاد لُغة أخرى تتجاوز العنف بشتى صوره وآلامه،وايجاد منطق وفلسفة تُضفي على الوجود الانساني بُعدًا روحيًّا ومَعنًى إنْسيًّا تحتضن الكيان البشري وتتسع بعمق في نطاق كوني، وتجعل الحضارة الإنسانية عائلة تنعم في ظل حقيقة ان "جوهر الانسان واحد"، وأن كل فردٍ أخٌ لكل فرد، وان إنسيّة الكائنات البشرية واحدة، وما تعددية المظاهر والأشكال واختلاف الألسنة والألوان إلا آيات كونية متعددة في إطار وحدة وجود لا يناقض كيانه.
ومن حقنا كشعوب (عربية وعبرية وفرسا واكرادا، يهود ومسلمين ونصارى..) ان نحلم بالسلام، وان نرقى بإنسانيتنا عن عالم العنف والمادة وانفعال الذات المجتمعية، وان ننفلت من أسر تفسيرات اللاهوت المتحكم بنا وقوقعة الأنويات القومية والعرقية والدينية والطائفية، من الضفة الى الخليل، من غزة الى بيت لحم، من لبنان الى سيناء، من بغداد الى بلاد شنقيط، من القدس الى كل بقاع الارض من حق الانسان ان يحيا بسلام! ولصنّاع جهنم أجمعين نقول: سنحمل السلام وردًا... ولن ينتزعن أحد منا حرّية أرواحنا... ولن تحوّلنا المحارق الى تجمعّاتٍ وحشيّة... فغاية وجودنا الأرضي تحقيق اعلى مواهب الانسانية!
Marwa_kreidieh@yahoo.fr http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
http://www.elaph.com/Web/ElaphWriter/2008/12/396153.htm
التعليقات (0)