مواضيع اليوم

صناعة الفشل .. الإنقاذ تصادر ذكرى الإستقلال

مصعب المشرّف

2013-01-01 00:00:00

0

صناعة الفشل .. الإنقاذ تصادر ذكرى الإستقلال ضمن احتفالها به

مشهد رحيل آخر جنود الإستعمار البريطاني من السودان (التقطت الصورة داخل محطة القطار في الخرطوم)

في سابقة هي الأولى من نوعها ؛ شهد عيد الإستقلال المجيد هذا العام (1 يناير 2013م) إحتفال حكومة الإنقاذ بإفتتاح 185 مشروعا وطنيا (كما تسميها) . وهو ما أثار تساؤلا منطقياً ومشروعاً عن المغزى والهدف الذي حاولت أبواق الدعاية الحكومية القائمة لفت الإنتباه إليه من جهة ، وتشتيت الإنتباه عنه من جهة أخرى بعيداً عن المعاني والأهداف والمقاصد الحقيقية المراد بها من فعاليات الإحتفال بأعياد الإستقلال في كل بلد من بلاد الدنيا ....

الهدف الذي حاول (جهابذة) الدعاية الحكومية الوصول إليه كان ضربا من الغباء والمحال .... لأن المسألة ببساطة قد كمنت في أنهم أرادوا مصادرة معنى الإستقلال ، ومحو منجزات الرعيل الذي جاء بإستقلال البلاد .. هكذا بكل بساطة حمقاء . غير مدركين أن إفتعال الذكاء في النفس وإفتراض الغباء والبلاهة في الغير إنما هي أبرز مقدمات الفشل للمخطط والإداري التنفيذي على حد سواء.

قد يكون للجنة الإحتفالات مبرراً لو أن الأمر قد تزامن مع منجزات تاريخية من قبيل إنهاء التدخل الأجنبي في شئون السودان الذي بات مكشوفا الآن . ثم وإعادة أبيي وحلايب وغيرها من جيوب ومناطق في جنوب البلاد وشرقها إلى حضن الوطن . وكذلك إعادة مناطق في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق إلى الشرعية وبسط القانون على ترابها ....... وحتما سيسعد الشعب (الذكي) لو كانت الحكومة قد طمأنته صبيحة المناسبة 57 بعيد الإستقلال أن أجواء السودان قد باتت مغلقة أمام الطيران الحربي الإسرائيلي ، وأن لجنة "خبثاء أفريقيا" برئاسة تومان بيكي لم تعد تقضم ما تشاء من أراضينا وتملي علينا ما تراه مصلحة إستراتيجية لدولة جنوب السودان ، وأن القمر الصناعي الذي يستأجره الممثل الأمريكي جورج كولوني لم يعد حرا طليقا يدور فوق سماوات السودان ليتجسس علينا متى وكيفما شاء..... وأن سرقة الذهب السوداني لم تعد حرفة من لاحرفة له من سكان غرب أفريقيا وأدغالها. وأن الجنسية السودانية لم تعد هي الأخرى جنسية من لاجنسية له من الرعاع وسُكارى ومومسات أفريقيا ، وقطّاع الطرق ، وشذاذ الآفاق واللاجئين والوافدين إلينا على أقدامهم وظهوردوابهم من كل حدب وصوب، تحدوهم إنحرافاتهم الأخلاقية والسلوكية ، وتتقدمهم أمراضهم الوبائية .

جميع المشاريع التي احتفلت الحكومة بإفتتاحها هذا العام تحت مظلة الإحتفال بأعياد الإستقلال لا نرى لها علاقة بإستقلال البلاد سواء من قريب أو من بعيد ...... ربما كان الأمر مبلوعا ومقبولا إلى حد كبير لو أن المخطط للدعاية الحكومية قد إختار المناسبة السنوية لإنقلاب يونيو 1989م للإحتفال بمنجزات تنسب إلى حكومة الإنقاذ .... ولكن أن يتم القفز إلى مناسبة عيد الإستقلال التي لادخل لحكومة الإنقاذ فيها ؛ فهذا ما يثير في النفس الشفقة على البعض الذي لايتقن في المسار السياسي العام سوى صناعة الفشل.

لسنا هنا بمعرض المجادلة وإلاكة ما يتداوله الشارع من طبيعة وحجم وأوضاع وتاريخ قيام هذه المشاريع التي أعلنت أبواق الحكومة عن إفتتاحها .. ولكن نشير بالفعل إلى أن معظمها إنما هو قائم بالفعل وأن البعض الآخر وهمي أو تجاري خاص مملوك بشكل مباشر لأعضاء منضويين تحت مظلة الإنقاذ أو لأفراد من أسرهم وعائلاتهم وشركائهم .. إلخ وعلى طريقة من دقنه وأفتل له.....

التهليل الغير مبرر والتنطيط القرداتي والفرداني فرحا بما قيل أنه إفتتاح أكثر من 185 مشروع يجيء تأكيدا على أن الغرض هو الكم وليس الكيف ، وكما يقولون فإن العدد في الليمون .... ثم إننا لم نسمع من ضمن هذه المشاريع (العملاقة) بإفتتاح مدرسة ولا حفر بئر ماء وإعادة تأهيل مشاريع زراعية ... إلخ من منشآت مرتبطة بما يتوجب على الحكومة تقديمه وتوفيره من خدمات حيوية إستراتيجية مجانية لوجه الشعب.

السيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار المهدية و السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية يتناسيان الخلافات ويتحدان لتحقيق رغبة الشعب في الإستقلال

الذي يهمنا الإشارة والتنبيه إليه هنا أن أعياد الإستقلال في كل مكان يفترض أن تسمو إحتفالياتها عن الحزبية والجهوية والعنصرية والمصلحة الخاصة أيا كان شكلها وحجمها .. وهو ما كان على أبواق الدعاية الحكومية الإلتفات إليه والعمل على تكريسه بدلا من السعي المكشوف إلى مصادرة جهد وشقاء وعمل الغير من كافة ألوان الطيف وأبناء هذا الشعب لتحقيق الإستقلال.

لماذا إذن لا تلتفت القيادة العليا من اليوم فمستقبلاً إلى ضرورة أن يحرص مخططوا دعايتها والتسويق والترويج لها على إحترام عقول الناس في زمن لم يعد هناك فيه بلهاء ولا غافلين عن الواقع وتفسير المغزى وحقيقة ما يجري .... وعلى ضوء أن حرية المعلومة وإنتشارها وإستحالة مصادرتها والسيطرة عليها وعلى تعدد مصادرها بات أمرا واقعا لا يحتاج إلى دليل. ثم أنه ولكي يصدقك الناس فعليك أولاً أن تكون صادقاً مع نفسك.

علم السودان الأصلي عشية إعلان الإستقلال يوم 1 يناير 1956

من المضحكات المبكيات في تاريخ بلادنا أن قائد إنقلاب مايو 1969م الديكتاتور جعفر نميري أقدم بعد توليه السلطة على تغيير علم السودان الأصلي (بألوانه الأزرق والأصفر والأخضر) إلى العلم الذي نراه الآن . ثم قام خلال إحتفالية تلفزيونية سينمائية مخطط لها برفع هذا العلم (العربي) الجديد على سارية القصر الجمهوري بعد إنزال العلم الأصلي (علم الإستقلال) ... وقد ظن "المسكين" أو هكذا خيلوا له أن هذه اللقطة التلفزيونية السينمائية ستجعل منه رافع العلم السوداني بدلا من الزعيم الأزهري . فكانت هذه اللقطة تصاحب دائما إحتفالات مايو بعيدها ، وأعياد الإستقلال ، وأناشيد الثنائي الوطني في التطبيل لنميري ..... ولكن ما كان للفارغ أن يحل مكان المليان ، وما كان للفالصو أن يخطف بريق الأصلي ، وما كان للنحاس أن يتحول إلى ذهب صافي .... بل على العكس من كل ما رمت إليه أبواق الدعاية المايوية فقد جاءت النتائج خصما على حساب مايو ، ثم ورصيد جعفر نميري الشخصي قبل غيره...... وحتما ستكون مضحكة وملهاة وخصماً على عقل كل من تسول له نفسه في الحاضر والمستقبل أن بإمكانه سرقة وتبديل لحظة مفصلية من تاريخ البلاد وضعها الله بمشيئته وحده في يد من أراد من خلقه السودانيين، تهيأت لهم الأسباب فجاءت اللحظة ثمرة شرعية لنضالهم وكفاحهم في سبيل وطنهم. ومن حقهم علينا أن نحفظ لهم ذلك على مدى الدهـر.

الزعيم الوطني إسماعيل الأزهري يرفع علم السودان يوم الإستقلال في 1 يناير 1956م وأمامه زعيم المعارضة في البرلمان محمد أحمد محجوب رحمهما الله

الإعتراف والتذكير والإحتفاء بمنجزات الغير ؛ خاصة أولئك النفر الجليل من الرموز التي لم تنهب ثرواتنا ولم تهزأ بمطالبنا أو تسفه أحلامنا ؛ فكان لها ما لها في ذاكرتنا الوطنية من تبجيل وتقدير بغض النظر عن إنتمائها الحزبي والطائفي ؛ يظل واجباً وضرورة وممارسة لامناص منها شاء من شاء وأبى من أبى. وعلى كل من يحاول تجاهلهم اليوم أن يكون على وعي تام بأنه سيأتي غدا غيره ليكرمهم . لاسيما وأن تاريخ إستقلال البلاد عام 1956م قد جاء موثقا بالأقلام وبالصور والأفلام السينمائية القصيرة . فلا مجال إذن لسرقته أو محاولة إحتوائه وسحب البساط من تحت أقدام رموزه والتعمية عليه بالغبار والدخان والبخور.

وطالما كان الأمر كذلك .... وفي ظل ما دأبت عليه حكوماتنا ومعظم إداراتنا العامة والجماهيرية في عهود الديكتاتورية والشمولية من صناعة مزمنة للفشل بسبب الإصرار الغبي على المداهنة والنفاق وحرث الأوهام ، وعبادة الذات وسرقة ثمار الغير ، ومحاولة طمس قرص الشمس في كبد السماء ، فمن الأفضل لو عمدت الحكومة القائمة إلى إعادة النظر في هيكل اللجنة المنظمة للإحتفالات ؛ وبما يؤدي إلى توزيع الأدوار بحيث تكون هناك على سبيل المثال عدة إدارات أو أقسام متخصصة مستقلة عن بعضها . فيكون هناك قسم معني بالتخطيط لأعياد الإستقلال وأكتوبر . وقسم آخر معني بالتخطيط للإحتفال بذكرى الحركات الوطنية المتعددة كالثورة المهدية وثورة اللواء الأبيض مثلا ... وقسم آخر مختص بالتخطيط لإحتفاليات عيد الإنقاذ ..... وعندها فقط قد يصبح الأمر مقبولا وجديرا بالإحترام ، ومدعاة لجلب التفاعل الشعبي على أرضية حرية الناس في الإحتفال بما يشاءون ويقتنعون به . ويعتقدون أنه يهمهم ويعبر تعبيرا صادقا عن مصالحهم الحقيقية المباشرة.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات