حديثي اليوم هو استكمال لحديث الأمس. حديثي عن صناعة الاستحمار التي يراد منها جعل الناس ظهورا يُركَبون، وضروعا يُحلَبون دون أن يشعروا بأنهم الخسفَ يسامون، وفي الذل والمهانة يرتعون.
الاستحمار مصطلح أطلقه الدكتور علي شريعتي في كتابه (النباهة والاستحمار) الذي عرفه بأنه: تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وحرف مساره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية فردا كان أو جماعة.
وهو الوليد الطبيعي لـ (الاستخفاف) تمشيا مع النص القرآني: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) سورة الزخرف. والاستحمار من أذكى الصناعات وأشدها فتكا لأنه يتعامل مع المائز الحقيقي بين الإنسان وغيره، أو مع (الفصل) بتعبير المناطقة، أي الشيء الذاتي الذي يفصل الإنسان عن غيره، وهو العقل.
والاستحمار - كأخواته من الرضاعة المتمثلة في الاستعمار والاستبداد والاستكبار- لا ينجح إلا في بيئة مهيأة وظروف مواتية، أو ما يمكن أن نطلق عليه ( معامل القابلية للاستحمار ) إذا استعرنا مصطلح المفكر الجزائري مالك بن نبي الخاص بالاستعمار، فلا يمكن أن يستمر استحمار شعب يملك الوعي ويقدر قيمة عقله.
ومن هنا يركز الاستحمار باعتباره استغباء ممنهجا على اغتيال العقل تمهيدا لاغتيال الشخصية وإعادتها خلقا آخر مسخا ينفذ ما يراد منه دون أن يعي ما يراد به.
الاستحمار يبدأ من البيت ولا ينتهي بالسياسة.
فنحن نمارس الاستحمار عندما نقمع في الطفل العقل المتسائل عن الكون من حوله، ونحيله إلى ضرورة قبول المسلمات التي نشأنا عليها دون أن يُشغلنا وإياه في عملية التفكير المجهدة، لأننا عاجزون عن إيجاد الإجابات المقنعة، وغير مستعدين للدخول في مغامرة عقلية لم نعتدها ولا نعلم أدواتها. ألم يحذرنا آباؤنا من ركوب البحر وأهواله ما دام رزق الله متاحا دون عناء على سِيف البحر؟!
ونحن نمارس الاستحمار حين نُسلم عقولنا للآخرين مكررين الغباء المزمن الذي واجهه الرسل جميعا، فلا نُعمل العقل فيما وصل إلينا وتلقيناه، بل نقول كما قال الأولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) سورة الزخرف.
وفي المدرسة يتكرس الاستحمار حين يكون التلقين هو الأساس في العملية التعليمية، ولا يقبل المعلم أو المعلمة من الطالب أو الطالبة أي نقاش في المنهج. فكل ما هو مطلوب حفظ المنهج، ومن ثم تفريغه من الذاكرة إلى الورق، والطالب الذي يتمتع بذاكرة ذات سعة أكبر سيكون بالتأكيد الأكثر تفوقا وتقديرا. والويل الويل لمن يحاول أن يوجه نقدا لفكرة أو مسألة ما في المنهج، لأنه سيكون من الفئة المارقة المغضوب عليهم والضالين في ذات الوقت.
يحدث هذا حتى على مستوى الجامعات التي يفترض أن تكون معملا لإنتاج الأفكار وممارسة الإبداع في أقصى حدوده.
ثم ينتقل الاستحمار إلى المجال الاجتماعي حين يراد لكل فرد فيه أن يكون متماهيا مع غيره، أو مع النظام السائد فيه، فلا يحيد عنه قيد أنملة، وإلا أصبح منبوذا من المجرمين المرجومين.
أما السياسة فالاستحمار لعبتها المفضلة، حيث تتفنن في أساليبها وأدواتها. فإشغال الشعوب في نزاعات دينية وطائفية ومناطقية وعرقية بل وكروية من أجل إلهائها عن المطالبة بحقوقها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية هو استحمار بامتياز. نقول "بامتياز" لجهة الفاعل والقابل والنتائج. فالفاعل يمتلك من أدوات الاستحمار من المال والسلطة والإعلام ما لا يمتلكه غيره؛ فهو يستطيع مثلا أن يستأجر أذكى العقول لتشارك في استحمار الآخرين، وهنا تكون النكبة الكبرى حيث يقوم المؤهلون للتنوير بممارسة التضليل والاستغفال والخداع. ومن جهة القابل حيث يطال هذا الاستحمار القطاع الأوسع من الناس، وبالتالي تكون النتائج أكثر كارثية.
كيف نفسر ما كان يقع من استدراج لشعبين كبيرين في مصر والجزائر لصراع كروي تستنفر فيه كل الطاقات الإعلامية للتحريض على تفريغ الشحنات المكبوتة في ميدان غير ميدانها الحقيقي؟!
وكيف نفهم إنهاك الناس بمتابعة الأفلام والمسلسلات التافهة حتى إنهم لا يجدون الوقت الكافي لملاحقتها، فضلا عن التفكير في أمهات الأمور والمسائل الكبرى؟!
وبالطبع لا ينسى صانعو الاستحمار المستأجَرين الطبقة المسيسة والمثقفة من الناس فيشغلونها بما يريدون من أحداث وأفكار من خلال القصف الإعلامي المتواصل من الأخبار العاجلة والتحليلات المتلاحقة والصور المتسارعة التي تجتمع معا لتصنع إنسانا بليد التفكير والإحساس يعتمد على غيره في رؤية الأمور وفي اختيار وجبته الثقافية.
يحدثنا نعوم تشومسكي عن فن من فنون التضليل الاستحماري الذي تمارسه وسائل الإعلام، وهو فن اختفاء الوقائع غير المرغوب فيها. ويضرب مثالا لذلك بتعاطي الإعلام الأمريكي مع مجزرة جنين التي قام بها شارون عام 2002 م، حيث ركز على سؤال في منتهى الخبث والدهاء: هل وقعت مذبحة "مقصودة" لمئات المدنيين في مخيم جنين للاجئين؟ لأنه – كما يقول تشومسكي إذا وقعت ولم تكن مقصودة يستطيع المتحضرون عندئذ أن يتقبلوها جميعا في طمأنينة وراحة بال.
الحديث عن الاستحمار متشعب، أرجو أن أكون قد ساهمت بإضاءة بعض جوانبه.
التعليقات (0)