صمت المبدع.. لا يعني غياب الإبداع
بقلم: خليل الفزيع
هل للمبدع أن يصمت إن شاء.. باختياره أو دون اختياره؟ فاجأني احدهم بهذا السؤال الذي يحتمل أكثر من وجه، ومن ثم فإن الإجابة عنه تحتمل أكثر من وجه أيضا، والصمت هنا له وجهان، وجه حقيقي وآخر معنوي.
وصوت المبدع قد يكون جهوريا، ومع ذلك فهو لا يخرج عن دائرة الصمت المعنوي إذا خلا من الهدف أو انحاز إلى مهادنة الواقع، وانساق وراء مظاهره السلبية.
وهذا الصوت قد يكون صامتا – ولا اعرف كيف يكون الصوت صامتا – ولكنه الصمت الأبلغ من الكلام. وقد يكون هامسا لا يعرف معنى الضجيج والجعجعة، ولكنه اشد من دوي القنابل فاعلية وأكثر أثرا في المجتمع.
ولعل من أبرز ما اتصف به العرب الظاهرة الصوتية التي تدفعهم إلى القول أكثر من الفعل، وإلى الضجيج أكثر من الهدوء والاتزان. واقرب مثال على ذلك ما نراه من حملات إعلامية شرسة، تنشب حتى بين الأخوة في المواطنة، وبين رفاق السلاح الذين شهروه في الماضي في وجوه أعدائهم، ثم في وجوه بعضهم بعضا. وما يجري بين بعض البلدان العربية ليس بعيدا عن هذا المعنى، حين تستخدم جميع الأسلحة المباحة وغير المباحة، وفي مثل هذه الأجواء الموبوءة بالأصوات المتنافرة.. والمشحونة بالعداوات والضغائن، تظلل الإبداع غيمة من التوتر وعدم الثقة في الأهداف التي عليه أن يسعى لتحقيقها.
لكن هل يمكن للمبدع الأصيل أن يصمت؟ أن يتوارى صوته عن الأسماع في وقت لا يحتاج فيه إلى الصمت، بل هو بحاجة إلى الكلام الشجاع؟
في تصوري أن هذا المبدع لا يمكنه أن يصمت حتى وان حاول ذلك، وصمته في هذه الحالة ابلغ من كلامه. والمبدع كيف يستطيع الصمت وله طروحاته التي تمس الواقع وتستشرف المستقبل، وترسم الابتسامة على الشفاه، وتبعث الأمل في القلوب، وتفجر ينابيع الخير في النفوس، وتهذب المشاعر، وتحرض كوامن الإبداع وتنمي طاقات المبادرة والريادة والثقة في النفس وفي الآخرين؟.
هناك حالة واحدة لصمت المبدع، هذه الحالة هي حالة الوفاة، ومع ذلك فإن الموت لا يضع حدا لحياة المبدع، لان إنتاجه يظل مدويا في غياهب الزمن.. شاهدا لعصره أو عليه. وما من مبدع متميز خفت صوته بعد رحيله الأبدي، بل ظل هذا الصوت عبر الزمان ناطقا بالكثير من عِبَر الأيام، والكثير من أسرار الحياة، ينقل الأزمنة والحقب الموغلة في القدم.. إلى الحاضر ويرتل على مسامع الأجيال قصة الإنسان في صراعه بين الخير والشر.. بألوان شتى وبصور عديدة وبملامح مختلفة.
وأحيانا قد يكون هذا الرحيل بعثا جديدا بالنسبة لإبداعات مجهولة. فكم أديب كبير ظل منسيا في حياته، ولما فارق الحياة، اهتم بأدبه النقاد، وأعادوا اكتشاف مجاهله، وارتادوا جزره النائية التي ظلت غير معروفة أثناء حياته؟
إن أصوات المبدعين عبر التاريخ، المتمثلة فيما اتركوه لنا من إرث ثقافي كبير، هذه الأصوات لم تختف باختفاء أصحابها من الحياة.. لأنها تملك من مقومات البقاء، ما ضمن لها الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فهل يحق لنا بعد ذلك أن نسأل:
متى يصمت المبدع؟
إن أي صمت مهما كان نوعه لهو كلام آخر.. له ألف معنى ومعنى.. إذا صدر من مبدع قدير متميز.. شهدت له الأيام بهذا الإبداع والقدرة والتميز فهل نعي أن صمت المبدع لا يعني بالضرورة غياب الإبداع لديه؟
التعليقات (0)