مواضيع اليوم

صليل الأساور

   لم تكن ثمة حركة غير عادية في المكان, تحلق بعض الرجال حول رجلين يلعبان, يرسمان المربعات الصغيرة علي الارض ويرصان فيها الحصي الملون, عند انتهاء الدور يفوز احدهما, تعلو همهمه خفيفة من باقي الرجال, ويعيد الاخر تخطيط المربعات علي التراب الناعم باصبعه  جلسوا علي الارض, اتكأ احدهم علي مرفقه ونام اخر علي جنبه, بينما قرفص الباقون فغبرهم تراب الارض الناعم الرطب, تراب لم يري الشمس منذ وقت طويل, تعلقت ذراته بجلودهم وكأنهم تماثيل صلصال جاف, تماثيل تتحرك برتابة, لا شئ يدفع النشاط في عروقهم, تركوا لحاهم تنسدل طويلة ومشعثة, شئ ما مخيف ينثال من مناظرهم ويجعل المرء يهرب من رؤيتهم, فلو ترك نفسه لاشباحهم تتحرك امامه لتبخرت روحه في الهواء .
   تلملم الرجل الوحيد عند الجدار, منذ وقت طويل لم يشترك مع الباقين في الحديث يستند بظهره للجدار ويغفو, فاذا سمع وقع قدم, شخص ببصره وتطلع للكوة, استطالت لحيته وابيضت في كل موضع, فاذا ابتعدت الاقدام يعود ليصنع من ساقيه هرمين صغيرين , يسند بينهما راسه, ويذهب خياله بعيدا بعيدا, حزنوا لاجله, وحاول احدهم ان يخرجه مما هو فيه لكن محاولته باءت بالفشل, كيف يخرج مما هو فيه وزوجته هناك, صغيرة وجميلة, يتمناها نصف رجال القرية في صمت, ويحوم حولها النصف الآخر, والصغير يتيم, لا يجد من يتكفل به.
   سمعوا أصوات اقدام تدق الارض في الاعالي, فتذكر كل منهم المكان باعلي, قال احدهم انه اول من دخل هذا المكان, لم يسبقه احد, وظل سنه كامله قبل ان ياتي الوافد لثاني, قال انه عاني كثيرا قبل ان تعتاد انفه رائحه المكان, وتحدث عن الاشباح التي ظهرت له, فكان يموت في الليله عشرات المرات قبل ان يستيقظ في الصباح من جديد, وتحدث اخر متسائلا عن شكل المكان في الخارج, لقد جاء وشجرة الجازورينا صغيرة, لا تلقي بظلالها علي مكانهم بينما يؤكد الوافد الاخير ان ظل الشجرة تخطي المكان لما بعده, وان القبور ملأت التل وانحدرت بانحداره, ولامست طريق المعبد من الناحيه الاخري.
   اقتربت الاقدام حتي صارت فوقهم تماما, ثم انحرفت يمينا لتواجه الكوة المسدودة بصفين من مداميك الطوب الاحمر, انتفض الجميع, وامتدت بعض الايدي فمحت المربعات من الارض وبعثرت الحصي هنا وهناك, وهرع كل منهم الي الموضع المخصص له فدخل في ثوبه الكتاني المعفر بالتراب, وتلفع بسكونه
   انفتحت الكوة فرشقت الشمس سهمها بالداخل, انزلق رجل للداخل ليلقف الوافد الجديد حمله من تحت ابطيه بينما الرجل الآخر يحمل القدمين, سجياه وصعدا والعيون من بين شرائط الكتان ترقبهما في صمت, وتتسمع اصوات الرجال في الخارج, ميز بعضهم اصواتا يعرفها, صديق ليالي السمر, او جار حميم التصق جدارا بيتهما, فكاد ان يقفز من رقدته, ويظهر لهم راسه من الكوة, ويبتسم في شوق, لكنه يعرف لو فعل لفر الجميع قبل اغلاق الكوة.
تمدد الوافد الجديد في الجوار, تفوح منه رائحة العطر, كفنه ابيض منشي, كاد يتململ بداخله, لكن راجل فتح الكوة من جديد, واسقط راسه ونظر مرة اخري, فالتزم الجميع بالسكون والصمت, حتي اذا رحل, نفض الجميع الاردبة, وتحلقوا حول الوافد الجديد, ولكزه احدهم بعصاه فتحرك الجسد تحت الرداء الابيض, ثم تفككت الشرائط وتحركت اليدان.
   تهللت اسارير الجميع, كان شابا معروفا لبعضهم, شاركهم المزاح مرات, مد كل منهم يده وسلم عليه, تولي احدهم تعريف الكبار, الذين رحلوا قبل ادراكه بكثير فلم يعرفهم ولم يعرفوه,وكانت فرصه جيده استثمرها الجميع, سالوه عن حال البلدة, ساله كل منهم عن حال الاهل, سمي لهم عدة اسماء وتمني لو يعرف عنهم خبرا, وساله اخرون عن شكل المكان في الخارج, هل اختلف عما كان من قبل, اما الرجل الصامت دوما فساله عن حال زوجته وابنه, اما زالت جميلة؟؟ تمني لو ساله .. امازالت تذكره؟؟ .. هل يجد ابنه الصغير ما يسد جوعه؟؟ .. لكنه لم يتحدث, واتخذ مجلسه بجوار الحائط, وتشرنق بوحدته.
   وقت قصير, نفضوا فيه الرتابه, ثم عادوا للصمت الذي يسمع بسماع دبيب القلق في الصدور, وزحف الافكار في صعودها وهبوطها, عاد الرجال لرسم المربعات علي الارض, والبحث عن حصي مناسب, وافتعال الاندماج في المراقبه, او البحث عن ذكري يقصها علي تفاصيلها تثني حواف الوقت المدببة.
 عادت الاقدام لتدق الارض من جديد, وتضايق بعضهم لان المكان ازدحم, وعليهم ان يكفوا عن احضار اخرين وفي لمح البصر, اختفي كل واحد منهم في كفنه, تا ركا مسافة غير مرئية امام عينيه, يراقب منها المشهد, وكما المرة السابقه, اسقط احدهم نفسه وانتظر حتي تناول الوافد الجديد, ارقده علي جنبه الايمن وخرج سريعا بعد ان اغلق الكوة وهموا في الخارج ببناء الجدار.
وكعادتهم – في الداخل – بعد كل مرة تطلعت العيون,وانتظروا برهه ليقشر الوافد الجديد عن نفسه غطاءه, لكن صوتا صك اذانهم وجعلهم في حاله يجف لها العود الاخضر, لقد صلصلت اساور تحت الكفن, وبدا الجسد يتحرك في ليونه, مد الجميع يده في آن واحد, حتي الرجل المنعزل هناك, جاء علي صوت الاساور, مدفوعا بتاثير النشوة, وشرعوا في تعريه الوجه, وما ان تم هذا حتي صرخ الرجل الوحيد, وهمهم الباقون, كانت زوجته بكامل بهائها, كادت تبتسم له لولا تعبير وجهه المتهجم, لم تطل نظرته لها, اسرع الي الكوة المغلقة, صرخ باعلي صوته.((هناك خطأ .. امرأه وضعت هنا عن طريق الخطأ, يجب ان تبعث لمرقد النساء , عودوا يارجال.. قهقه رفاقه, وضع احدهم يده علي صدره من كثرة الضحك واشار عليه بيده الاخري كما لو كان مجنونا, وتمني اخر لو يساله ممكن تخاف عليها؟؟ ولعق رجل شفتيه بلسانه وحملق فيها ازاحهم من حولها وعاد الي موضع رقدته ومازال صراخه يرن عاليا, انام ذراعها بجوار جسدها واحكم لف الكفن حولها اغمض لها عينيها وغطي وجهها ثم عاد ليقف بالقرب من الكوة, يصرخ .. لا ترحلوا .. ثمة خطأ .. امرأة بين الرجال .. امرأة ..بين الرجاااااااال.

 


((مني الشيمي- جريده الجمهورية))




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !