مواضيع اليوم

صلاة أكتافيا العربية

رَوان إرشيد

2012-11-01 09:19:38

0


صلاة أكتافيا العربية

 


من الغريب أن نجد أنفسنــا و عبر كل هذه الفترة من الحياة.... لا نفهم من أين أتينا؟ و إلى أيّ مكـــان نحن قاصدون؟ .... نـعم !! يبدوا هذا غريبا في قواميسنا البالية، و عجيبا لدى عقولنا النائمة، و موضوعا للبحث عندما نفكّر في البحث قولا كما نحاول تجسيده بالفعل على الأرض.
قد يبدوا غريبا أيضا عندما ننظر إلى حالنا، و نحن نشفق عليها كلما نظرنا إليها، و قد يكون أغرب عندما ندركـ أنّ من أسباب هذه الحال اليائسة البائسة هي أنفسنا المتهالكة في هذا العالم الذي لم يرحمها يـوما، و الذي لن يرحمها اليوم أيضا.... هكـــذا حدثني أحد رجال الأمّة، و هو يحزم أمتعته إلى بلاد الغربة! و لكــن!! مع عجزي على الإجابة على كلّ هذه الأسئلة التي ترهقني كثيرا.

إنها سلة من الاستفهام القاتل، و الذي ينموا كلما نمى هذا النوع من البشر و تطوّر، لأنه و بكل بساطة يتغذى من جهلنا و غبائنا و أعصابنا التي تزداد انهيارا كلما تقدمنا في العمر، و رسمت السنين آثارها على أوجهنا الكئيبة.... نعم إنها الحقيقة التي لطالما هربنا منها و لا زلنا نهرب منها و كأنّ الهرب هو قدرنا.
ففي طفولتنا قالوا لنا أنّ المستقبل سيكون مزهرا و مفروشا لنا بالورود، و أنه سيكون منّا المهندس و منا الطبيب و منا المعلم و منا الروائيّ و منا الرياضيّ و الفيزيائي و الممرضة. و لكن هيهات منا المذلةّ ، و كأنّ الأقدار أخطأت العناوين التي أرسلت إليها، مما جعلها تهتمّ بالأشخاص الخطأ، و أصبحنا نحن مجرّد ضحايا للزمن، و مجرّد أرقام في دفاتر الحالة المدنية سواء من جهة الولادات أو الوفيات.
لن ألوم الزمن كما فعل الكثيرين !! و لن ألوم نفسي كما سيصنع الآخرون، و لكنني سألوم تلك القوّة التي تحكم العالم و تتحكم في مصير شعوب بأكملها، و تسخر من أجيال و بلدان و كلّ ما فيها من حياة و مقدرات، و كأنّ هذا الكون هو ملكها و ملك نطافها الذي سيحكم أيضا هذه المعمورة وفقا لوراثة منوية لا أكثر.
مشروع ضخم، و مخططات محكمة، و آليات كثيرة و فعالة للتحكم حتى في الذباب، و مع هذا يبقى القليل من الأمل القليل أصلا، و الذي يجعلنا نتفاءل باليسير من كرامة الحياة في ظل حقوقنا التي نأخذها بسواعدنا و بعد حروب و معارك ذاتية و جماعية، و كأنّ المنطق للقويّ، يقلب به كل منطق مخالف، هكذا طفت لغة الاستكبار في جميع الأصعدة على سطح المحيط الملوّث بغطرسة الإنسان.
كل جانب يقول: " أنــا ربكم .." و نحن نعلم أنّ الله لا يظلم و لا يريد الظلم لعباده، و متبعي نور هداه، و كلّ من الأطراف يدعي القدسية لأفكاره، و هم الذين ينسون أنّ القداسة لـها أصحابها، و هي ليست لعبة أطفال، و كلّ جهة تجاهر بأنها على الحق و باقي الجهات على باطل، و إنما الحق و الباطل لمن الظروف و المؤثرات التي تستعبد الناس كما هم، سواء قاموا أو لم يقوموا.
هكذا علمتنا الأحزان أنّ الدموع لا تشفي أسقام العواطف، و هكذا ظللنا الطريق الذي كان سيحمينا من كل شرارة تريد صعقنا، و لو بعد حين. فلن يكون هناك لا ظــالم و لا مظلــوم.
فغياب الوعي لأكبر دليل على وجود الكثير من أشبــاح المعرفـة، و لحجة أيضا على بقاء فئات كبيرة من المجتمعات الإنسانية تحت خط الجهل، و هذا لأكبر دليل أيضا على وجود نوع من التحكم في المعاركـ الأخلاقية و الصراع الفكري من قبل رقعة ضيقـة من سادة البشريــة عبر طول عقود من الـزمن.
من المهم في اعتقادي الأخذ بمسببات الولوج إلى تلك المساحة الضيقة من الساحة العامة لمدينة المعرفة، أيــن يجتمع الفكر بكل أمـور الحياة الإنسانية، و فيها تعقد المجالس ذات العضوية الغير المتوازنة، ففيها القليل من الذين يملكون مقاعد دائمة، فمقعد لـشيخ الأقوام الأرضية، و مقعد للشاب الحكيم، و مقعد للطفل الخبيث، و مقعد للأستاذ المجرم، و أخيرا مقعد أبديّ للعاهرة الخبيرة.
كما أنّ تلك المؤتمرات لها ميزة ضد ما تدعيه من وقــار و براءة، على الأقــل هذا ما وثقته كل وسائل الإعلام على مر العصور، فلولا الرشاش الذي يصنع في أماكن بعيدة لما كانت أزمات البشر تحيك آخر فصول المآسي، من أجل التنديد بها من طرف هؤلاء الأعضاء الشرفاء على الورق و ضده على ما خلف الأبواب، حين ينسون كل القيم التي يحاضرون بها، و حين تنقلب إلى سراب، هكذا صرخ البواب.
فذلك الصوت العميق الذي يخرج من أعماق حنجرة باكي الأندلــس يتغلغل إلى أكثر من نفس حية، فيلقي عليها السلام، و يقرؤها أنعم الخطب من سفراء العلم و الأحكام، و ليذكرها بأنها هزمت هناك، حين فقدت قشتالة شرفها في مضجع أرغون، و هي تلبس في تلك الليلة ثيابا مستوردة من سوق اشبيلية، و تضع عطرا سرق من محل بقرطبة، بعدما تلت بضع أبيات كتبت على صخرة بجبل طارق، و فتحت الباب بمفتاح صنع بين أسوار غرنــــاطة.... هذه هي القصة التي ما تزال تفعل مفعولها بين العرب و الغرب إلى الآن، فلا هم نسوا أننـا سحقناهم بالعلم و الفلسفة و الدين و الحياة، و لا نحن نسينا أنهم طردونــا بالخمور و عطور العاهرات.
الألـــم هو مصير الضعفاء، و هو الذي يجعل من حياتهم تحديا جبانا لأنفسهم، بعيدا عن التجديد، و بعيدا عن تكتل التقاليد، و تمديد الأعراف و المقاليد، فأينما تكون البشرية، يكون معها نوع من ضعاف النفوس، و بعضا من ضعاف القلــوب، و الذين يزينون هذه الأيــام بالقليل من إجراءات الاحتراز و الحذر، لأنهم نوع من الإزعاج، مضايقة من نوعية خاصة، هكذا برهن الـزمن على وجودهم، و هكذا خلقت أولى أسباب حذفهم من التــاريخ و المصير و الحيـــاة.

"".... و حسبنــا أن نقول إن الأسباب التي تطبع سلوك المسلمين لتكون أفكارهم فعالــة... من أفكار غيرهم، نقول إنها أسباب مرحلية، أعني ملازمة للمرحلة التاريخية التي يمرّ بها العالم الإسلامي.... "

مالكـ بن نبي

فصراعات البشر ليست من غيرهم، و إنما من أنفسهم المريضة بداء حب الاستعلاء على بعضهم، و إنّ لخلاصة التجارب البشريـة على تلك المواقف المؤذية لمشاعر الإنسانية، لنماذج تبرهن بالحجة القاطعة، أنّ الإنسانية لا يهددها الأعداء من خارج حدودها، و إنما المهدد الحقيقي هو تلك الأمراض العميقة التي تسللت من بين عيوبها .
فالفكــر هو الحل لجميع الأمراض التي نتحدث عنها، لأنه هو المحرك القادر على فهم الإنسان كما يجب، و هو المصنع الذي ينتج دواء البشر، و بكلّ فعالية، و للتدليل على ما نقول فبإمكانكم أن تسألوا التاريخ البشري، فهو حافل بأنواع من الصور التي أثبتت زعامتها، كالصورة الرومانية و الصورة الأميركية .... و غيرهما.


".... عندما كنتُ صغيراً
وجميلاً
كانت الوردة داري
والينابيع بحاري
صارت الوردةُ جرحاً
والينابيع ظمأ
هل تغيَّرت كثيراً ؟ ...."

محمود درويش

لا يمكن أن أكون وحدي من تضيق به هذه الحياة عندما يرى ما وصل إليه حال الأمّة، و لا يمكن أن أكون الأخيـــر، فلقد علمتنا الأيام أنّ الأمل و التفاؤل حتى في أحلك الظروف هو ما يجعل الأمم تندفع ناحية التطوير و الريادة، فكم نحن بحاجة إلى التجديد، و بحاجة إلــى كل عربيّ في جميع المجالات، من أجل البــــرهنة على أنّ هذه الأمّة ما تزال حيّة، و ما تزال قادرة على فهم أنها ليس محكوم عليها بالتبعية أبدا، فلنا كل ما تحتاجه الأمم من أجل ضمان الوقفة الكبرى التي ننتظرها منذ زمـــن الأندلس و حتى اليوم....

العرب لم يولدوا ليكونوا عبيدا، و لن يكونوا كذلكـ، هذا وعد الله إليهم، فكيف يرضون الذل و هم يملكون كل الإمكانيات من أجل بلـوغ ما يريدون، فالعلم موجود، و المال مكنوز، و العقول و الأرض و المخططات كلها على أهبة الاستعداد، فما ينقصنا سوى تحويل الثقة بالنفس من المعنوي إلى الواقعي، ليس أكثــــر من هذا.

فللأفكار رغم تلفيقها في مرات عديدة جانب روحيّ، حيث يبلغ عالم الغياب الكثير من مؤثرات عالم الحضور، و بين العالميْن تتولّد الكثير من المفارقات العلمية المدهشة، و التي تستكين لآثارها في الحياة كممارسة، إما بالزهد و التصوف، أو التقليد الكامل.
و حين يرغب الإنسان في الرجوع إلى ذاته، فإنه يتحوّل إلى ناقد لأحد العالميْن اللذْيْن ذكرناهما سابقا، و ذلك بالاستناد إلى خلفيته المغروسة في عمقه، مما تجعل من العملية كلها قابلة للتدخل المسبق عبر عناصر الإيمان و الثقة في سريان النمط المعيشي الآلي.
كما أنّ الفرد حين يتخذ من المخططات برنامجا لا يجوز اختراقه للوصول إلى أهداف اخترعتها مخيلته الواقعية، فإنّه و دون إذن منه يستدعي كل جزئياته النفسية و العاطفية للخروج بما تولّد في نفسه من طاقة ايجابية، و استغلالها المقلق في الحقل الذي انبعث له في خلفيته الذهنية.
فالصور التي تلازم البشر منذ دخولهم المعترك الدنيوي هي ذات مصدريْن، إما العالم الموجود، أو العالم المرغوب إيجاده، حتى أنّ الفرد في هذه الصراعات بينهما، فهو يلجأ إلى صناعة منطقة عازلة بين العالميْن كأحد الحلول، إن هو فكّر لينجز، أو أنه يميل إلى أحد المعسكريْن:
1. عالم الغياب: إن كان الفرد كسولا.
2. عالم الحضور: إن كان الفرد راغبا في العمل بشدة.
كما أنّ الحلقة الهامة في كل هذا الصراع النفسي هي تلك المتعلقة بالغريزة، و المنبعثة من التكوين الأوّلي لدى كل فرد، فإمّا التفكير اعتمادا على النفس، أو نسخ التفكير و اللجوء إلى الغير، و هذا الأخير هو الغالب على الفرد العربيّ في أيامنا.

لقد شهدت الشواهد عبر وجود الإنسان إلى اليوم أنّ الفكر الذي يخرج من الذات، و لفائدة الذات نفسها، هو فكر ذا وجهيْن: الأوّل ممانع للداخل، و الثاني مهاجم للخارج.


". Dat kan ik u niet vertellen, En waar u om vraagt, zult u altijd worden genegeerd. .
Friedrich Nietzsche


ربما يكون العمل على هذه العبارة ضربا من التجديف في نهر من الرمال المتحركة، و لكنها تحمل خلاصة أعمار أجيال من التحري و البحث، فالتواصل ما بين التركيب المعنوي و التركيب المادي له من الميزات ما يسمح للفرد بأن يفهم المقصود من وجوده، لكن هذا مرتبط بحضور الإرادة الجادة للقيام بذلك على نحو سليم، و قد يدرك الكثير من الناس حاجتهم إلى اتصال المعنوي بالمادي، و لكنهم يختلفون في استحضار الشرط الواصل بينهما، و إن حضر مع معظمهم، فإنه سيكون بدرجات متفاوتة.

هذا بالنسبة للأفراد الذين يعيشون في طور عاديّ لمجتمع سليم بالكامل، و قد اتخذ كل المراحل التاريخية معبرا، أمّا بالنسبة للمجتمعات العربية السقيمة حاضرا، و المتفوقة ماضيا، و العالقة بين المجهول و المخطط له في أماكن بعيدة، فإنّ أفرادها لا يفهمون سوى أنهم يحاولون محاباة الآخرين، إما بالمواجهة المستميتة و العابثة بقشور الدين و الدنيا، و إما وفق خلاصة صرفة من التفاخر بمقتنيات غريبة عن الهواء و التراب و الزمن الذي يعيشون فيه.
و لكن إن دققنا في هذه المعادلة العربية العجيبة، فإنه سيتولّد لدينا قناعة أنّ العرب أصبحوا مفلسين بالكامل وسط تضخم ثقافيّ في كلا الجانيْن: الشرقي و الغربي.
فأهمّ وضعية تاريخية عند العرب هي التي بدأت خلال الألفية الثالثة من التأريخ الميلادي، حين أعلنوا أنهم نيام كنتيجة لصدمة حضارية ألمت بهم، و جعلتهم في خانة الأتباع لأحد الطرفيْن: إما القويّ الشيئي، أو القويّ المغلوط.
و في كلا الحالتيْن فالنتيجة واحدة، و التي بدأت تظهر بوضوح مع مرور عقد كامل من الألفية الجديدة المتحدث عنها سابقا، أيّ أنّ القومية، و الأخوّة الدينية، و رموز المجتمع الموجود أصبح موضع يقين على الانهيار، و ذلك إن بقي منه ما ينهار أصلا.
و في هذا الاتجاه يمكننا أن نستدل على ضياع الثقة في جانبيْن مهمين من الشرائح القيادية في أيّ مجتمع، بحيث لا أظن أنّ أحدا يختلف معي في أنّ العرب خلال هذه المرحلة قد فقدوا الثقة في رجال الدين كقادة لأمور السماء في الأرض، و في الفلاسفة كقادة للحياة في المعترك الإنساني، و هذا كله يندرج ضمن الهزات الارتدادية للصدمة السالفة الذكر.
كما أنّ الأخطر من هذا أنّ هؤلاء القوم (بني يعرب)، قد أتلفوا ما بقي لهم من مقومات البشرية، عن قصد ( بفعل المؤامرات)، أو عن غير قصد ( بفعل التحايل)، و من هذا تبدوا لنا أسباب تفتت اللغة العربية، و المشروع الروحي الإسلامي، و ضعف الجبهة الشرقية المسيحية، و نمو الفطريات الغربية المسمومة في كل الأقطار العربية، و نجاح ترسيخ المفاهيم المقلوبة في الدساتير المتداولة، و تهميش الفكر بتهميش المفكرين، و ما إلى ذلكـ من الغضب الكوني على الملة العربية، هي كلها مظاهر ظهرت بروما القديمة في المرحلة التي سبقت نيرون العظيم، و هي نفسها التي دفعته إلى حرق روما بأكملها و تقديمها كضريبة للتجديد.

أنـــا هنا ! السيّد: مـــزوار محمد سعيد ، أعترف بأنني لا أدعوا إلى أيّ إساءة للعرب: ديانات و لغة و تاريخا و قومية و بلدانا و مجتمعات، حتى لا أذهب ضحية، كما فعل بالذين سبقوني، و إنما أحاول فهم ما يدور تحت العمامات العربية، من أجل تحديد طبيعة و مدى عمق الجرح العربيّ اليوم، كما فعلت في نصوص سابقة، و كما سأفعل في كامل مسيرة حياتي العلمية و العملية.


".... ما نفهمه جيدا نعبر عنه بوضوح، و تأتي الكلمات لتقوله بسهولة ...."


نيقولا بوالـو

مهما بلغ المشروع من تطوّر في الناحية الذهنية، إلاّ أنّه يبقى محتفظا بقاعدته المادية (الشيئية)، و هذا ما أثبتته كل المشاريع الناجحة، و التي أصبحت رموزا لصلابة الإنسان و قوته عبر عصور. لكن !! و بالعودة إلى العالم العربيّ، و المشاريع المنجزة من بداية الألفية الجديدة (03) إلى اليوم، فإنّها إما ذات عضوية غربية أو شرقية، و هي تحمل فقط الاسم العربيّ، و إما تكون ذات قاعدة مادية دون المبدأ الذهني، و هي المخططات المنجزة الأكثر قابلية للسقوطـ و الانهيار.

و لنكون على بيان من هذه النقطة، يمكننــا القول أنّ العرب منذ سقوط دولـة الموحّدين إلى اليوم هم في دائرة لا يقدرون على الخروج منها، و هي تلك المنطقة السفلى من التفكير، و التي تجعل كل عملياتهم الذهنيـــة منحصرة ضمن نطاق الغريزة الحيوانية فقط، و كيفية تحقيقها، بينما المشاريع الكبرى، و العظيمة، تحتاج إلى نوع خاص من التفكير، إلى التفكير في الإنسان و الحياة، و إلى التخطيط من أجل انجاز مشروع أمّة أوّلا.

فالهوّة العربية الموجودة بين المخطط و المطبق بلغت من التفاقم درجة لا رجعة فيها، و إن الرجوع فيها هو ممكن ! لكن ليس بجهد القلة من أبنائه الفاهمين و الدارين للوضع بأسره، و إنما جزء كبير من الحلّ يكمن في تلك الشريحة الخامدة و العظيمة من الكيــان العربيّ، و التي تجهل ماضيها، و تعيش فتات حاضرها بالاعتماد على مستقبــل مستورد.

صحيح أنّ المصلحة هي العليــا لدى كل إنسان، و ذلك لدرجة من طباعه الإنسانية، و لكنها ليست وحدها سبب نكبة العرب، و إنما قدر كبير من هذه الحال سببه تلك الذهنية المتعلقة بصفتيْن هامتيْن:
1. الإقصاء بالطرق العنيفة
2. تفضيل سفهاء الأقوياء على عظماء العرب الجدد

هذه الذهنية هي عند أحد الاتجاهات الرئيسية في العضوية العربية، بينما هناكـ أيضا ذهنية موازية للأولى، و قد دخلت معها في صراع عظيم، زاد من تفتيت المفتت، و تناثر أشلاء الأشلاء في المجتمع العربيّ، مما ولّد في هذه المناطق من العالم بؤرا لم يشهدها التاريخ في أيّ من مراحله التاريخية، و هي التي تتميّز بالعنف الداخليّ ذا المنهج، و الهائل في الفتك بين أعضاء الجسد الاجتماعيّ و الثقافيّ الموحّد عبر قرون.

هذه العقلية الثانية، و هي التي تعرف بالرجعية أو الراديكالية، هي التي تبنت الدين من أجل بلوغ الدنيــا، و هذه الصبغة السماوية، هي بالذات ما يزيد من خطورتها، و التاريخ الأوربي حافل بهذه التجارب المؤلمة، و مع الأسف لقد صدّرت بطريقة ناجحة إلى بلاد الإسلام، قبل تصديرها إلى بلاد العرب الجديدة.


".... إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل ، حتى مع عبدة الشيطان ، ولكنه لا يظهر أي تسامح مع المسلمين . فكل شيء مسموح إلا أن تكون مسلمًا...."

مراد هوفمان

و مع ذلك فأنــا لا أرى أنها مؤامرة على المسلمين أو العرب الجدد، فالنبتة لا تكبر من فراغ، و إنما تكبر إن توفرت لها شروط النموّ من ماء و هواء و تراب و رعاية.
ولو حللنا هذا الموقف بعناية، فإننا سنجد صراعا مشروعا بين قوّتيــْن هائلتيْن، لم يشهد التاريخ مثلهما عبر كل العصور منذ وجود الإنسان إنهما:
1. القوّة العربيـة الإسلامية السامية
2. القوّة الغربية الأميركية الإنسانية

فالغربيون و بعد دراستهم و تدقيقهم في التاريخ الإنساني عبر ما وصلوا إليه من نمطية غير عادية لمناهج التفكير، وجدوا أنّ بلوغ الخلود لحضارتهم لا يتمّ إلاّ بتقديم حضارة متميّزة، و لما بلغوا التميّز، تفطنوا أنّ هناك ما يفوقهم تميّزا، و هم عاجزين إلى حدّ ما في التفوّق عليه، و بالتالي، و بعملية منطقية يونانية خلاقة و بسيطة، قرروا القضاء على منافسيهم، فأعلنوا الحرب على القوّة الثانية و بكلّ الوسائل.

و إن تدرّج العرب الجدد في هذه المسألة الخطيرة ربما في ذهن القلة منهم، فسيجدون أنّ أكبـــر مصائبهم هي أنّهم جاهلون بما يدور من حولهم، و هم جاهلون بأنهم يواجهون اجتثاثا لم يحصل من قبل لأيّ أمّة، و الكارثة الكبرى أنهم يشاركون في هذه العملية دون قصد منهم، كما أنّ المتفطنون لهذه الحرب الحضارية، لا يقدّرون أعداءهم حقّ القدر، و يتجاهلون أنّهم يواجهون أعظم و أقوى آلات التدمير الحضاري التي عرفتها البشرية منذ وجودها، بوسائل لا تحميهم.

يــا الله.. أمتيْن متبارزتيْن في الساحة العالمية، الأولى تملك وسائل العصر على جميع المستويات، و الثانية لا تملك حتى نيّة المواجهة! فكيف لمن ينتظر شفاعة أبولـو أن يهزم سيف أخيل ؟

على الأرض لا يمكن، و بالمنطق لا يمكن، و بالعودة لأحداث التاريخ لا يمكن أيضا، و لن تتفوّق الأمة العربية الجديدة و هي على هذه الحال على نظيرتها الغربية الأميركية و لا حتى في خيال الأحلام لأيّ مواطن عربيّ شريف تهمه القضايا العربية و أحداثهــــا.

لكن هناكـ حلقة مفقودة في كلّ هذا، حلقة يدركها الأميركيّ جيّدَا، و يجهلها حتى عباقرة العرب الجدد الشرفاء، و الذين قدموا كلّ ما لهم و عليهم من أجل الأجيال العربية الجديدة القادمة.

و هنا أنتهز الفرصة لأحيي كل هؤلاء الذين يمثلون الأمل العربيّ الحقيقيّ، و بعيدا عن كلّ الشعارات و الخطب التي ألفنا سماعها حتى غدت من نذر الكوارث.... شكرا لكم يا أيها الحاملين لهموم العرب الجدد.

".... أحاول منذ الطفولة رسم بلادٍ تسمى مجازا بلاد العرب
تسامحني إن كسرت زجاج القمر...
وتشكرني إن كتبت قصيدة حبٍ
وتسمح لي أن أمارس فعل الهوى
ككل العصافير فوق الشجر...
رأيت العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم...
ولكنني...ما رأيت العرب !! "
نزار قباني
هكذا لخص الشاعر حال العرب، عرب الحداثة و العصرنة، لكن !! و بعيدا عن العاطفة التي سالت هنا كثيرا، حتى أصبح العرب روادا في هذا المجال. هناك نقاط علينـــا أن نقف عليها و نحدد تداعياتها أو جزء من تراكماتها، و التي تأخذ أبعادا كثيرة.

فعندما يعترف العربيّ بضعفه اجتماعيا و ثقافيا، كما هو ضعيف تقنيا و استراتيجيا، فهو لا يخطأ في هذا، و لكن الاعتراف لا يكفي، و القدرة على تحويل هذا الاعتراف إلى جلد للذات العربية الجديدة هو أخطر الأسلحة على الإطلاق. و التي هي موجهة باتجاه العقل العربيّ الغير خامل.

و بالإضافة إلى هذا، فإنّ على العرب أن يدركوا أيضا أنّ خطة على شكل أسلوب جين أوستن و ما فعله بالفكر العالمي هو قريب من اللامتوقع حدوثه، كما أنّ نطاق التحركـ يضيق كلما مرّ الوقت، و هو في صالح أعداء العرب الجدد، و الأسوأ من هذا أنّ هؤلاء ( اللذين يحاربون العرب) يدركون هذه الوقائع جيدا. في حين يغفل عنها الكثير من رعاة الديار العربية الجديدة.

فللإمكانيات العربية دور هام في حسم الصراع المشار إليه، و أنـــا هنا لا أقصد تلك الثروات الهائلة، لأنها معروفة لدى جميع الأطراف، و إنما أقصد الرصيد المعرفي و العلمي و الثقافي العربيّ، و الذي هو موجه لخدمة مشروع هدم العرب الجدد بدل من أن يستغل في خدمة تلك الفئة من الإنسان العربيّ الجاهل بما يدور حوله.

فالنفسية المريضة التي تتغلغل في الكثير من الأجواف العربية، هي التي تجعل من كل المشاريع التي يراد انجازها وفق عروبتها الكاملة محض وهم، و إنّ التخلص من الأمراض النفسية الانفعالية بالخصوص في هذا الجانب من الإنسان العربي الجديد هو ما يزال قابعا تحت خط المحظور، و هذا ما يعقد كل المسائل برمتها، و دفعة واحدة.

فالجوّ العام في العالم العربيّ ملوث برواسب اجتماعية و تاريخية مذهلة، تزيد من تفاقمها كل الأزمات الثقافية و الفكرية، الاجتماعية و السياسية كل يوم، و هذا أحد الأسباب القاتلة التي أصابت نفسيات العرب الجدد.
أوّل ما نتطرق إليه في هذه النقطة هي تلكـ الإستراتيجية الهجومية التي تهاجم كل مفاصل النجاح العربيّ، فتنتزعه لتغرس محله الإحباط العام، و هو الذي يسري في كل جسد المجتمع، حتى أنّ الكذب الثقافي المستورد و لو كان هزيلا فكريــا، فإنه يصبح أمام المستقبـِل له من أبناء العرب أفضل مما يوجد في جعبتهم الحضارية، حتى و لو كان العكس تماما، و هذا ما يفسّر الركود وراء الهزيل و تهميش القويّ من فكر العرب الأصيل.

و إن أردنـا التفصيل و التعمق في هذه المساحة الفكرية، خاصة المتعلقة بالإحباط، فإننــا قادرين على ملاحظة القابلية للغزو، و التي خلفتها تلك الهجمة في المجتمع ككل، و بكل فئاته، كل على حسب استطاعته، فصرنــا هدفا لثقافات مجاورة كنا ننافسها أو نتفوق عليها في المستقبل القريب، كالثقافة الإيرانية، و الثقافة الهندية، و حتى الثقافة التركية، في حين كنا فقط مستهدفين من الثقافة الغربية (الفرنسية، الانجليزية، الاسبانية و الأميركية).

فالاهتزاز النفسي الذي يعيشه العربيّ، في ظل اختفاء روافد و وضعيات المناخ الصحيح للإبداع، له عدة أسباب أيضا، أهمها أنّ الكـيــــــــان العربيّ شهد استقالة جماعية لفلاسفته و مفكريه، فالبعض منهم انعزل، و البعض باع فكره في مزاد العالمية، و البعض الآخر فضل ركوب موجة التفهّم رغم عدم قناعته بسلامة الوضع الراهن.

و لكي لا أكون قاسيـا على الفلاسفة العرب الجدد، فيمكنني أن أضيف إلى هذا الموقف، فرضية أخرى، و هي أنهم لم يصمدوا أيضا أمام دهاء فلاسفة الجبهة المعادية، إما لضعف تكوينهم، و إما لكبريائهم، و إما لموت ضمائرهم، و ذلك مع احترامي الخالص لكل عقل عربيّ يعرف طريقه جيّدا.

لست هنـــا لأحمل المسؤولية لأيّ طرف مهما كان، خاصة الفلاسفة العرب الجدد، و لأنّ المصيبة ستمسّ جميع شرائح الموطن العربيّ، و الأخطر أنها ستضرب الحضارة العربية و الإسلامية في العمق، فأنـــا أحـــاول أن أنبه لما يدور من حول و داخل الأسوار العربية الجديدة، خافيا تحت ضلوعي ألمــــا هائلا مما آلت إليه أمور العالم العربيّ اليوم، و مؤكدا على أنّ النفسية العربية في خطر كبير، حتى أنه لم يبقى وقت للوم الذات أو الآخرين، فإن لم يتم استيعاب ما يجري، فإنني أخشى من يوم سيأتي، أستيقظ فيه ذات صباح، فلا أجد لا عربـا و لا بلادا عربية.

و كلّ ما أجده عند فتح باب بيتي سوى قبور كتب عليها:
Arabes mortuus, mortuus Muslims

 

السيّد: مــــزوار محمد سعيد

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات