صفقة الأسرى.. من ذا الذي تنازل؟
بلال الشوبكي
دقائقٌ معدودة تلك التي فصلت بين الإعلان عن إتمام صفقة الأسرى وخروج نتنياهو ليعلن أن الصفقة أُبرمت وفقاً لما ابتغته إسرائيل وأنها إنجاز لم يكن ليتحقق بشكل أفضل. في نفس الوقت كان مشعل وقادة حماس قد أكّدوا أن الصفقة أُنجزت وفق شروط المقاومة، وأنها إنجاز تاريخيَ لا يمكن نكرانه. كلا التصريحين أخذا طريقهما لصفحات المحللين، وهذه الصفحات من بينها. قد يثير اشمئزاز ذوي الأسرى أن نبحث موضوع من الذي تنازل في هذه المفاوضات؟ في وقت علت فيه زغاريد أمهات وزوجات وبنات الأسرى. أقول في هذا المقام عذراً لكم، لكن تمام الصفقة لا يعني فقط تحرير الأسرى، وإنما رسالة من الطرف الرابح على أثرها قد يتبدل نهج أو قد يتغير وربما يثبت. فمن ذا الذي تنازل؟ العوامل التالية فيها محاولة لمعرفة الطرف الأضعف في مفاوضات صفقة التبادل، وهي كالآتي:
تكريس مصر كوسيط
إن أخطر ما أفرزته الثورة المصرية من وجهة نظر الإسرائيليين أن العلاقة بين البلدين أصبحت محل نقاش، ولم تعد كما السابق ملفاً مغلقاً بقفل من الإنجازات الوهمية التي حققتها كامب ديفيد. إن مرحلة ما بعد مبارك، على الرغم مما تحويه من فوضى لا تخدم في النهاية إلا مزيداً من الحكم العسكري الذي حمى المعاهدة مع إسرائيل لعقودٍ مضت، إلا أنها تشكّل قلقاً حقيقياً لإسرائيل، فكثرة اللاعبين في الميدان المصري لا تسمح باستيضاح المشهد القادم بشكل جليّ.
في ظل حالة الارتباك هذه في مصر، وموجة تصعيد القيادات السياسية الطامحة لدور ما في مرحلة ما بعد مبارك، بل في مرحلة ما بعد طنطاوي –إن رحل -، فإن هذه القيادات بما فيها قيادات الحكومة المصرية الحالية وظهيرها العسكري والقيادات الحزبية بدأت بالتحوّل التلقائي من دور الوسيط إلى الطرف في العلاقة مع إسرائيل. المزاج السياسي العام في مصر يرغب في ذلك بل يعمل من أجله. وهذا أكثر ما يخيف إسرائيل، أن تنجر القيادات والنخب السياسية خلف المزاج السياسي الشعبي لتجد نفسها بعد سنين أمام دولة خصم لا تذكر كامب ديفيد إلا فقرة في كتب التاريخ.
التخوّف لم يقتصر فقط على الحكومة الإسرائيلية، بل إن المجتمع الإسرائيلي بدا يائساً من فكرة تقبله في المحيط العربي. والحالة كذلك، كان لا بد لإسرائيل من أن تنتهز المفاوضات بشأن تبادل الأسرى كي تعيد مصر إلى موقعها الوسيط. تم استبعاد ألمانيا، والإعتذار من تركيا، وأصبح جليّاً أن المسألة أكبر من الوساطة بحد ذاتها بقدر ما هي تكريس الموقع المصري كوسيط محايد ما بين الحكومة الإسرائيلية والشعب الفلسطيني.
فشل التسويف
إن أكثر ما راهنت عليه إسرائيل في تخفيض مطالب حماس أن تطفئ بريق صفقة التبادل تدريجياً، فقد آمنت بأنها كلما ماطلت في صفقة الأسرى كلما قللت من وهج تلك القضية أمام الرأي العام الفلسطيني، وحينها تصبح حماس أكثر استعداداً لإتمام الصفقة بالحد الأدنى من المطالب. لكن الأمور لم تسِر كما خططت لها إسرائيل، فنفس حماس التفاوضي بدا أطول من النفس الإسرائيلي، وفي كثير من الأحيان كانت حماس هي من تعلن تجميد المفاوضات كلما شعرت أن الطرف الإسرائيلي وضع سقفاً غير مقبول للصفقة. لذلك كان لا بد لإسرائيل من أن تعيد التفكير بسياسة التسويف في هذا الملف، ويبدو أن إسرائيل لم تكن لتحسم أمرها لولا أن تحرك الأسرى من الداخل، حيث أضحت إسرائيل أمام تحديين:
الأول: إن استمرار إضراب الأسرى عن الطعام إلى فترة أطول يعني إعادة إحياء قضيتهم وإثارتها بما يعني إعادة الوهج لقضية التبادل، وهو ما تخشاه إسرائيل، فهي تريد صفقة تبادل باهتة إعلامياً على أقل تقدير، لأنها تعي أن الصفقة إن تمت هي رسالة وتعزيز نهج أكثر منها أداة تحرير.
الثاني: إن استمرار الإضراب يعني جبهة جديدة ضد إسرائيل هي بغنى عنها، خاصة في ظل حالة التعبئة ضدها في معظم الدول العربية.
لذلك حسمت إسرائيل أمرها لصالح إتمام الصفقة مع بداية الإضراب، حتى لا تزيد من الزخم الإعلامي للتبادل، وفي نفس الوقت تضمن إنهاء الإضراب، حيث أن الصفقة تشمل تنفيذ مطالب الأسرى داخل السجون الإسرائيلية. هناك من يعتقد مخالفاً أن التسويف قد آتى أُكله، مستدلين على ذلك بأن الصفقة لم تشمل القادة أمثال البرغوثي وسعدات وإبراهيم حامد. لمن يعتقدون ذلك، أقول لهم: إن المقاومة نشاط أخلاقي من حيث الأساس، وليس من الأخلاق أن يتم إعطاء الأولوية في صفقة التبادل لشخص على حساب شخص لمجرد أنه يحتل رتبةً تنظيمية أعلى، فإنكم بنشر هذه الأفكار تستوردون ديكتاتورية الأنظمة لتزرعوها في الثقافة السياسية الفلسطينية. إن ذلك لا يعني انتقاصاً من أهمية هذه القيادات، لكنه رفعةً لأسرى دفعوا ثمناً ربما أكبر وقدموا تضحيات جسام، وما الفرق بينهم إلا أن أحدهم عرفتموه على شاشات الفضائيات فيما بقية كثر لا تعرفونهم، لم يعرفوا ما هي الفضائيات بعد.
عجز نتنياهو
ربما لم يخطر ببال نتنياهو يوماً، أن المجتمع الإسرائيلي سيكون من أوائل المجتمعات المتأثرة بالثورات العربية. فما أن سقط بن علي ومبارك حتى كانت شوارع المدن الحتلة عام 1948 تعج بآلاف الإسرائيليين متظاهرين احتجاجاً على حكومتهم. غياب الرضى الداخلي على الحكومة الإسرائيلية والانهيار التدريجي في العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية، جعل نتنياهو يقلّب كفيه على ما مضى، فكبرى دول المنطقة أصبحت العلاقة معها غامضة وأقرب إلى الخصومة، فيما استغلت ليفني موجة الاحتجاجات والثورات العربية وفشل التسوية والتراجع الدبلوماسي الإسرائيلي لتدخل في تنافس مبكر مع الليكود. من منظور حزبي كان لا بد لنتنياهو أن يقدم شيئاً يحسبه إنجازاً لحكومته. لذلك بدا أن فراغ حقيبة الليكود من أي ورقة أمام خصومهم السياسيين شكّل دافعاً إضافياً لنتنياهو كي يقبل بالصفقة.
المقابل الفلسطيني
في مقابل كل هذه العوامل التي دفعت إسرائيل للتنازل والقبول بصفقة الأسرى، لا نجد في بيئة الطرف الفلسطيني وعلى وجه التحديد فصائل المقاومة الآسرة للجندي وخاصة حماس، أية عوامل دافعة للتنازل، بل إن البيئة الحالية دافعة لمزيد من الإصرار على المواقف. فالوضع الداخلي الفلسطيني مستقر، وهناك تحسن في العلاقة بين فتح وحماس، الحياة في قطاع غزة رغم صعوبتها إلا أنها هادئة، كما أن حماس ترى نفسها مستفيدة من الثورة المصرية، وإن لم تكن كذلك فعلى الأقل هذا تقديرها و لا يوجد تصعيد في قطاع غزة من حيث الصورايخ. كل هذه الامور لا تشير بأن حماس في موقف يدفعها للتنازل، وإن كان هناك من يقول أن الوقت مناسب للكسب الإعلامي، فإن هذا قد يشجعها على إتمام الصفقة بشكل معقول لا أن يدفعها للتنازل.
مجلة القدس المصرية
التعليقات (0)