تقع مدينة صفد شمالي اسرائيل ، وتطل على بحيرة طبريا وجبال ميرون (الجرمق)، وتعتبر إحدى أربع مدن مقدسة لليهود في ارض اسرائيل الى جانب القدس والخليل وطبريا. تعد صفد أعلى مدينة في اسرائيل، وتعود نشأتها الى عهد الهيكل الثاني (بيت المقدس الثاني) الذي يمتد من القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الاول للميلاد.
تسمى مدينة صفد باللغة العبرية (تسفات) نسبة الى كونها تشرف على المناطق المحيطة بها، وقد تأثر الاسم العربي (صفد) بالتسمية العبرية. سكن اليهود مدينة صفد منذ القرن السادس ق.م وحتى اليوم. وسكنها الصليبيون خلال الحملات الصليبية على ارض اسرائيل التي امتدت حوالي قرنين من الزمان منذ القرن الحادي عشر وحتى القرن الثالث عشر الميلادي، ما دعا المماليك الى استجلاب سكان عرب الى صفد بعد سقوطها في ايدي المماليك. يذكر ان معاركا ضارية دارت بين المماليك والصليبيين انتهت بطرد الصليبيين من البلاد، وقام المماليك باستجلاب السكان العرب من جميع اصقاع العالم العربي ليسكنوا المدن التي وقعت بأيديهم في محاولة لتثبيت الوجود العربي في هذه المدن بعد ان طغى عليها الطابع الصليبي لردح من الزمان.
وصفد اليوم هي مدينة اسرائيلية، يبلغ تعداد سكانها حوالي 25000 نسمة، وتقطن فيها مجموعات سكانية يهودية متنوعة بجوار سكانها اليهود الأصليين الذين لم يبرحوها منذ عهود طويلة.
وشهدت المدينة خلال تاريخها الطويل تقلبات عديدة، حيث قام المؤرخ اليهودي الشهير وأحد قادة الثورة اليهودية على الرومان ابان القرن الاول الميلادي يوسف بن متتياهو (يوسيفوس فلافيوس)، بتحصين المدينة استعدادا للثورة التي اندلعت لاحقا عام 66 ميلادي واستمرت سبع سنوات، وبلغت ذروتها عام 70 للميلاد عندما هدم الرومان بيت المقدس اليهودي في أورشليم، وانتقلت المؤسسات اليهودية الدينية والتمثيلية الى مدينة يبنة.
وظلت صفد تلعب دورا هاما خلال التاريخ اليهودي في ارض اسرائيل طوال العصور الرومانية والبيزنطية التي تسمى في التاريخ اليهودي "حقبة المشناه والتلمود" نسبة الى مجلدات المشناه والتلمود التي خطها علماء اليهود خلال هذه الحقبة التي امتدت الى فترة تربو على 600 عام، وفي القرن الثاني للميلاد نشبت ثورة يهودية ثانية ضد الرومان هذه المرة تحت إمرة بار كوخبا الذي حملت الثورة اسمه "ثورة بار كوخبا"، ونزح خلق كثير من اليهود من مناطق يهودا التي كانت معقل الثوار اليهود الى مناطق الجليل التي لم تشارك في الثورة، ومع نهاية الثورة سكنت في صفد طائفة من الكهنة اليهود الذين تم إجلاءهم من القدس، وانضمت اليها عائلات من بيت ياكيم وفشحور، ومع انتقال المجلس الديني اليهودي الاعلى "السنهدرين" الى الجليل أصبح الجليل منطقة يهودية عامرة تعج بالنشاط الديني والدنيوي، ومرتعا لعلماء المشناه والتلمود الذين أمّوا الجليل من كل حدب وصوب، وغض الرومان بصرهم حيال النشاط اليهودي في منطقة الجليل التي لم تأخذ نصيبا في ثورة بار كوخبا، وحرص علماء اليهود في هذه الفترة على ارساء أجواء من الهدوء منعا لتجدد الثورات وعملوا على اعادة بناء المؤسسات وإعمار القرى المنكوبة في انحاء ارض اسرائيل.
ومع دخول العرب ارض اسرائيل ابان القرن السابع الميلادي، عملوا على بناء قلعة في صفد أطلق عليها اسم برج اليتيم، وشهدت مدينة صفد تراجعا لتصبح قرية صغيرة، وفي هذه الفترة انتقلت المدرسة الدينية اليهودية الرئيسية في أرض إسرائيل الى صفد.
وعادت صفد في العهد الصليبي لتكون مدينة هامة وقد بنى الصليبيون فيها قلعة خلال عام 1140. وعلى خلفية الصراع بين الصليبيين والمسلمين في تلك الفترة حول السيطرة على البلاد، انتقلت صفد من يد إلى أخرى وفي عام 1219، هدمت القلعة الصليبية، ثم عادت صفد الى أيدي الصليبيين مرة أخرى عام 1240 في إطار اتفاقية سلام وقام الصليبيون ببناء القلعة من جديد، وخضعت المدينة لسيطرة "فرسان الهيكل" ـ الحرس الصليبي الذي عمل على حماية المملكة الصليبية والحجاج المسيحيين الى الأماكن المسيحية المقدسة في ارض اسرائيل . وتراوح عدد سكان المدينة في تلك الفترة ما بين 1700 الى 2200 نسمة.
وفي عام 1170 زار صفد الرحالة اليهودي بنيامين ميتوديلا، الذي وصف أحوال المدينة قائلا إن اليهود فرّوا منها خلال المعارك التي دارت بين الصليبيين والمسلمين. لكن اليهود عادوا الى المدينة سنة 1216 وفقاً لشهادة الرحاله يهودا الحريزي الذي زار المدينة في ذلك العام. وظلت صفد حتى هذه الفترة مدينة يهودية، الا أنها أصبحت فيما بعد مدينة مختلطة بفعل الاستيطان الصليبي في المدينة.
احتل المماليك صفد في تموز 1266، وذبحوا أهلها من المسيحيين وفرسان الهيكل، وقاموا بإعادة ترميم القلعة التي تضررت خلال المعارك، كما أقاموا في المدينة مسجداً وحمّاماً وسوقاً. وقام المماليك بتقسيم بلاد الشام إدارياً إلى مناطق سميت "نيابات". وكانت نيابة صفد تضم أجزاءً من جبال الجليل وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني. واستقطبت المدينة العديد من السكان المسلمين في هذه الفترة الذين عملوا على استغلال المناطق الزراعية المجاورة لها. وسكنها مسلمون من دمشق بدعوة من السلطان المملوكي بيبرس، كما قدم الى المدينة يهود من الدول العربية. واصل المماليك أعمال البناء في المدينة، فتم بناء مسجد إضافي أطلق عليه "المسجد الأحمر"، إضافة الى خان كما تم تزويد المدينة بالمياه عبر قناة مائية تم إنشاءها لهذا الغرض.
وخلال هذه الفترة تواصل الوجود اليهودي في مدينة صفد، وفي القرن الرابع عشر وفد اليها علماء يهود سفاراديم. يقول الحاخام رافي عوفاديا من برطنورا الذي اتخذ من القدس مقرا له في تلك الايام إن غالبية يهود صفد أصبحوا فقراء يعملون بالتجارة وبعضهم باعة متجولين. كما أشار إلى وجود بلدات يهودية في محيط صفد مثل: دلتا، جش، فيرعيم، بيريا وكفار عنان.
وبعد طرد اليهود والعرب من الاندلس عام 1492، لجأ بعض اليهود الى صفد ليرتفع عدد العائلات اليهودية في المدينة الى 300 عائلة. ومع نهاية العصر المملوكي في البلاد كانت صفد الى جانب القدس تشكل احد أهم مركزين يهوديين في ارض اسرائيل.
وقد عانى يهود صفد خلال الصدامات التي وقعت بين المماليك والعثمانيين. وعندما انهزم المماليك صب الجيش المملوكي جام غضبه على يهود صفد، وشاركه في ذلك السكان العرب من القرى المجاورة، فاستباحوا الاملاك اليهودية وعاثوا نهبا وسلبا في الأحياء اليهودية في المدينة ثم أجبروا اليهود على مغادرتها. وتمكن اليهود لاحقا من إصلاح أوضاعهم في المدينة بمساعدة إخوان لهم من يهود مصر.
وفي العهد العثماني قسمت بلاد الشام إلى ثلاث إيالات "ولايات"، هي: إيالة دمشق، وإيالة حلب، وإيالة طرابلس، وألحقت بكل إيالة وحدات إدارية تسمى "سناجق". وعندما أنشئت ولاية بيروت سنة 1887 فصل لواء عكا والبلقاء وثلاثة ألوية أخرى عن ولاية سوريا لتكون الولايات الجديدة. وكانت ولاية بيروت تمتد إلى منتصف الطريق بين نابلس والقدس، وكانت تضم أقضية جنين، وبني صعب وجماعين والسلط، في حين ضم لواء عكا أقضية حيفا والناصرة وطبريا وصفد، وقد ظلت هذه الأجزاء جزءاً من ولاية بيروت حتى عام 1914.
ووفقا للتعداد السكاني الذي أجراه العثمانيون ما بين السنوات 1525- 1573، تبين أنه طرأ ارتفاع ملحوظ على تعداد السكان في قضاء صفد، حيث ارتفع عدد القرى من 231 قرية بحسب الإحصاء الأول إلى 275 قرية طبقا للإحصاء الرابع. وفي هذه المرحلة تزايد عدد العرب والكُرد والتركمان في منطقة صفد، وواصلت المدينة استيعاب السكان العرب والأكراد طوال الفترة العثمانية، كما سكنها جنود مماليك مسرحين.
زار موشيه باسولا صفد خلال عام 1522 ووجد فيها أكثر من 300 عائلة يهودية، إضافة الى ثلاثة اماكن عبادة يهودية (كنس) كان يؤمها يهود مغاربة الى جانب اليهود العرب الذين لم يغادروا البلاد. وفي هذه الفترة تحسّن الوضع الاقتصادي في البلاد بشكل كبير وعمل سكان صفد في التجارة، وشمل ذلك باعة متجولين كانوا يبيعون بضاعتهم في القرى المجاورة، هذا فضلا عن العديد من أصحاب الورشات والمصالح التجارية، وشهدت الاحياء اليهودية في صفد ازديادا في تعداد السكان، واستقبلت المزيد من اليهود العائدين من الأندلس. وبموجب سجلات الأرشيف العثماني للفترة ما بين 1525 الى 1526، فقد وصل عدد أصحاب الديون الضريبية من يهود المدينة إلى 224 عائلة من ضمنهم 130 عائلة من اليهود المستعربين، و 40 عائلة من يهود فرنسا، و 21 عائلة من يهود البرتغال، و 33 عائلة من اليهود المغاربة. هذا ويقول رئيس دولة اسرائيل السابق يتسحاق بن تسفي إن هذه القائمة منقوصة لأنها لم تذكر اليهود العُزّاب ويهود الأندلس الذين استمروا بالوفود الى المدينة.
وفي عام 1525، زار المدينة كل من دافيد هرؤوفيني وشلومو مولكو. وورد في بيانات الرحالة الذين زاروا المدينة إلى وجود حوالي 8000 يهودي عام 1551. ومن الناحية الأخرى، ورد في تقرير يحيى الضاهري من اليمن الذي زار صفد سنة 1567، وجود 14000 يهودي وـ18 مدرسة يهودية دينية في صفد.
وفي عام 1568 زارها الرحالة لودفيج فون راوتير وأفاد بوجود 2000 عائلة يهودية. وفي عام 1577، أسّس الأخوان اشكنازي في المدينة أول مطبعة عبرية في الشرق الأدنى.
وطبقا للمعلومات الواردة في موقع النكبة الفلسطيني فقد ارتفع عدد سكان صفد في فترة الاحتلال العثماني من 5500 إلى 10800 في منتصف القرن السادس عشر. ونتيجة لوفود اليهود من مهجري الاندلس (سفاراديم)، فقد ارتفع عدد اليهود في المدينة من %25 إلى %35 من نسبة السكان. وفي عام 1568، شكّل اليهود %50 من سكان المدينة.
شهد الوضع الاقتصادي لدى يهود صفد تحسنا في أعقاب وفود اليهود السفاراديم، وأسسوا في المدينة صناعة المنسوجات الصوفية التي رفعت المستوى الاقتصادي العام في المدينة، وذاع صيت منسوجات صفد في أوروبا بفضل جودتها العالية.
كما أقيم في الحي اليهودي مركز لتعليم مبادئ الكبالاه (مبادئ الصوفية اليهودية)، أسسه الحاخام رابي يتسحاق لوريا، لتصبح صفد مدينة المتصوفين اليهود، كما سكنها العلامة يوسف كاروـ مؤلف كتاب "شولحان عاروخ" (فرائض الدين اليهودي) مع مجموعة من مريديه.
شهدت الأوضاع في مدينة صفد تدهورا عاما في الفترة بين أواخر القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، وشمل ذلك يهود صفد، ويُعزى هذا التدهور الى الاقتتال الداخلي بين الحكام المحليين. وقد عانت مدن وبلدات الجليل كثيرا من هذه الصراعات بين الأطراف المتناحرة من البدو، والدروز والعثمانيين الذين تنازعوا فيما بينهم على السيطرة على الجليل، وسادت في صفد أجواء من الجوع وانتشرت الأوبئة والسرقات، ما حدا بيهود صفد الى نقل صناعة المنسوجات الى سالونيكي في اليونان. كما أدى تردي الاوضاع الأمنية الى مغادرة اليهود للمدينة عام 1665. وعاد اليهود ثانية الى المدينة بعد استقرار الأوضاع، وبلغ عددهم عام 1730 حوالي 1800 نفر.
وفي عام 1740، احتل ظاهر العُمر الزيداني منطقة الجليل الأسفل بما فيه صفد من العثمانيين، وفي عام 1759 وقعت هزّة أرضية واضطر الكثير من اليهود إلى مغادرة المدينة بينما بقي فيها 250 يهودي فقط.
وفي عام 1764 زارها الحاخام رابي سيمحا بن يهوشوع ووجد فيها ما بين 40 إلى 50 عائلة يهودية. ثم عانت المنطقة من تردي في الاوضاع السياسية. وذكر الحاخام رابي سيمحا وقوع أعمال شغب قام بها المسلمون ضد يهود صفد وعكا. وفي عام 1769 زار الحاخام رابي موشيه يروشالمي صفد وأشار الى وجود ستة بيوت عبادة لليهود في المدينة.
وفي عام 1778، وفد إلى البلاد أتباع الباعل شيم طوف، احدى الفرق اليهودية الصوفية، واستقروا في صفد لكن غزو نابليون للبلاد أدى الى ضعضعة الاستقرار مرة أخرى. وفي عام 1799، نهب جنود نابليون الحي اليهودي في صفد وعمل العرب على إتمام مهمة التدمير، حيث قتلوا الكثير من اليهود ودمروا الحيّ اليهودي.
ووفقا لموقع النكبة، كان في المدينة حوالي 5500 نسمة خلال عام 1800 نصفهم من اليهود. وفي عام 1810 قدم إلى البلاد تلاميذ الحاخام الكبير الجارا (هجأون) وسكنوا في صفد. وحوّل أتباع الباعشات (أتباع الحاخام باعل شيم طوف) ومعارضي الجارا مدينة صفد الى مدينة حاخامات.
وفي الفترة بين السنوات 1812-1814، أصاب المدينة وباء وغادرها اليهود بصورة مؤقتة. وفي عام 1822، ضربت المدينة هزة أرضية. وفي عام 1822 زارها الحاخام رابي دافيد دبيت هيلل، ووجد فيها 2000 عائلة يهودية.
وفي عام 1833 قدم الحاخام رابي مندل من كمينيتس إلى البلاد، واستقر في صفد، وأشار الى وجود 2000 عائلة يهودية بعضها من لتوانيا والبعض الآخر من بولندا، أي ما مجوعه 6000 نفر تقريبا. وذكر أن الفلاحين العرب قاموا بالتنكيل بيهود صفد ونهبهم خلال العام 1834. وفي عام 1835 ارتفع عدد سكان صفد إلى 7300 نصفهم من اليهود.
وفي عام 1837، عادت وضربت المدينة هزة أرضية، دمرت أجزاء من المدينة ولاقى حوالي الربع من سكان المدينة حتفهم. وكان الحي اليهودي يقع غربي المدينة. وعلى خلاف الأحياء العربية التي كانت بيوتها مصنوعة من الحجر، كانت بيوت اليهود مبنية من الطين ولهذا فقد تم تدمير الحي بأكمله تقريباً. كان معظم القتلى من اليهود (1500 قتيل وفقا لبعض المصادر، أكثر من 2000 قتيل وفقا لتقرير الحاخام رابي مناحيم مندل في حين تتحدث مصادر أخرى عن 4000 قتيل) غير أن الكثير ممن نجوا نقلوا مقر سكناهم إلى القدس، وبقي في المدينة حوالي 1500 يهودي.
وفي عام 1839 زار صفد يهوديت وموشيه مونتفيوري وتحدثوا عن أعمال شغب عارمة قام بها الدروز خلال تمردهم على إبراهيم باشا عام 1838 وطالت هذه الاعمال من تبقى من اليهود في صفد. ومع عودة المياه الى مجاريها كان قد تبقى في المدينة 1357 يهودي وفقا للإحصاء السكاني الذي أجراه مونتفيوري، معظمهم من السفاراديم إضافة الى مجموعة صغيرة من الاشكناز.
وعمل اليهود على إصلاح الاوضاع في المدينة تدريجياً وفي عام 1880 كان في المدينة وفقاً لنفس المصدر العربي، 8300 نسمة من بينهم 4300 من اليهود. وفي هذه الفترة كان يهود صفد يزاولون اعمال التجارة والأعمال اليدوية.
ووفقا للمصدر العربي المذكور، كان في مدينة صفد عشيّة الحرب العالمية الأولى حوالي 13500 نفر، من بينهم 7500 يهودي. وقد عانى يهود صفد في هذه المرحلة من الجوع والفقر المدقع، بفعل انقطاع صلاتهم مع يهود العالم. وفي 26 أيلول 1918، سقطت المدينة في أيدي البريطانيين بدون معركة.
التعليقات (0)