اوقفني انا وذاتي امامه ، كائن مجهول غير مرئي ..هو الذي اوقفني ..سمعته يقول بصوت ظننت انه صوتي ، تلك السين التي تخرج من بين الاسنان ..والتي تبدو كالصفير ..المبالغة والتفخيم بالحروف الحلقية .. نعم هذا انا وهذه طريقتي في الكلام ..هذا ما ظننته لوهلة بسيطة جدا ..ولكن ما ابعد هذه الفكرة عن رأسي نبرة الصوت الجهورية القاسية ..كتلك اللهجة التي يتعامل بها القضاة مع المتهمين ..ثم هل يعقل ان أمر نفسي بالانقسام ..هل يعقل ان انشطر الى شطرين ..نقيضين يمشيان بخطين متعاكسين ..
نظرت الى نفسي انا الاول ..كانت عبائتي السوداء تجلل جلبابي ..وخماري الشفاف ينسدل على وجهي كما اكون في الحضرة .. سبحتي الالفية تلتف حلقات حول رقبتي ..اقف بجلال وثقة واعتداد بالنفس ..بقوة ..لا اخشى شيئا ولا اهاب سؤال او تحقيق ..ولا قاضي ولا محكمة ..من الذي يحاكم امام الحضرة ..من ؟؟ تقدمت خطوة للامام ..تعثرت بجلبابي ..سحبته من تحت قدمي ..اعتدلت ..حانت مني التفاتة سريعة الى ذاتي الاخرى كانت تقف بجانبي ..لا بل ملتصقة بي ..شعرت اننا اثنان ثم لا اعرف كيف ترأى لي اننا واحد لكن ثمة مسافة بيننا .. كانت الاخرى تقف برأس منحني وجذع مائل للامام ..ثمة صوت يشبه النشيج ..وهمهمة كانها تتوسل ..
المسافة التي نقف فيها ليست بعيدة كفاية لنتبين من هو الذي اوقفنا ..لم نتبين ماهيته ..هل هو انسان ام ملاك ..شيطان ..ام هو مجرد خيال ووهم ..لكنني شعرت به يقف على مقربة مني ..امامي مباشرة ..صوت تنفسه العالي ..تيار الهواء الساخن الذي يخرج من منخارية يضرب وجهي ..
سمعت صوته يقول : انت بجلبابك الاسود وعبائتك السوداء الفضفاضة ..تلفت ابحث عن مصدر الصوت ..جاء من الامام ..لكن لا يوجد احد ..قال وهو يتصنع الهدوء :
- لست اعرف كيف لم يمكنك كل هذا من سلوك الدرب المرسوم ..
الاخرى اعتدلت واقفة منتصبة .. هذا الاتهام لي ايقضها من كبوتها ..وظنت ان وقت الاطاحة بي قد حان ..ثم توقفت عن الهمهمة والنشيج ..واخذت تحرك قدمها كانها تتابع نغمة موسيقية .. انا حاولت ان اتمالك نفسي .. الاخرى تمكنت من استفزازي اكثرمن سؤال الواقف امامي ..لا اعرف كيف منحته لقب سيدي ونصبته قاضيا لكنها فلتت من : سيدي القاضي :
انا على الدرب ..لم احيد ..واجاهد النفس مجاهدة العنيد ..
كان لقب سيدي القاضي الذي تم منحه اياه للتو زوده بقوة وطاقة كبرى ..حيث ارتفع صوته وعلت نبرته وزاد اتهامه :
ولكنك حين الخلوة تنقسمين قسمين ..تنشطرين شطرين ..
وكيف للواحد ان ينشطر سيدي القاضي ..قلت له محاولة ان اجره الى البرهان والدليل ..لكنه كان اكثر وعيا مما ظننت ..فبادرني قائلا بلهجة كانه يسخر مني :
ينشطر ..وينقسم حينا لا يشعر بالسلام الداخلي ..حينما لا يكون الظاهر كالباطن تماما ...
ولكن سيدي القاضي : الا يحسب حساب القلب ..وما املك ولا املك ..ويملك ولا املك ..رفعت رأسي وانا اتكىء على قاعدة صلبه ..لها اصل متين في الدين .
لا ادري كيف كان يمتلك زمام المبادرة والقوة والفطنة ..كأنه عالم بدواخلي وما اخفي كما يعلم ما ابطن وما اظهر ..وقتها قلت لا يمكن ان يكون من يقف امامي غير شي انبثق من داخلي من اعماقي .. يعرف مكنوناتي ..ويعرف اسراري ..يدرك مواطن ضعفي كما يعرف تمام مواطن قوتي ..يضغط على مركز قوتي بقوة اكبر ..ويضغط على مواطن ضعفي فتنهار جدراني الدفاعية .. الاخرى واقفة تلتصق بي ..حاولت ان ابعدها عني ..دفعنها بيدي بحركة وضعت فيها كل ما املك من قوة لكن العجيب انني شعرت انني انا من تبتعد ..تبتعد وتسحب الاخرى معها ..كاننا جزء لا يتجزأ ..
خطر لي ان القاضي شعر بحركتي ..سمعت ضحكته الهستيرية ..كان صوت الضحك كأنه صوت رعد في جمجمتي ..في داخلي ..رفعت يدي اغلقت اذني ..صار الرعد اضخم ..واعلى ..ثم فجأة سكن ..وعم الصمت المكان ..قال بعد صمت لكن بهدوء عجيب ..غير ان الكلمات كانت واضحة :
ربما تتسائلين ..كيف يسأل العابد الناسك ..ولا يسأل التارك المنفلت ..
همهمت بنعم ..
قال وهو يتصنع الحكمة والموعظة :
هل يحاسب العالم محاسبة الجاهل ..فالجاهل جاهل لعدم معرفته ..وجهله طريق انفلات ومسلك هلاك وهذا حتمي ..الا نرى ما فعل الجهل بالجاهلين ..وقد اوردهم حتفهم . واما العارف فبما عرف من معرفة عليه حمل معرفته الى افق اوسع . فاذا ما سلك مسلك الجهل وهو عالم بسوء العاقبة ..فهل يساوى بمن جهل وانفلت جاهلا بسوء العاقبة ..
قلت في سري لقد اوقع بي ..فقلت:
ولكن الجاهل مناط به البحث عن المعرفة ..
قال بحزم :كما ان العارف مناط به كما قلنا حمل معرفته الى افق اوسع ..
كم اشفقت علي وانا احتار في الاجابات وان اجاري القاضي في حديثه الذي شعرت انه يقوله للمرة الاولى من حرقته على حالي ..اشفقت على حالي كما اشفقت على القاضي ايضا .. كانت الاخرى كانها تلاشت ..اختفت ..حاولت ان ابحث عنها فلم اجدها ..تلفت يمينا وشمالا ..الى فوق والى اسفل مني ..فقط الفراغ هو كل ما يحيط بي ..ارهفت السمع ..تلاشت الاصوات ..حتى صوت تنفس القاضي لم اعد احس به او اسمعه ..
عبر القمر من فرجة صغيرة بين الغيوم السود ..فشع نوره باهتا ..سقط الضوء على نافذتي ..اضاء جانبا من الجدار ..سقط على المرآة ..انعكس بقوة ..اغمضت عيني ..ثم كأني افقت من حلم .. انا جالسة على حشية من صوف ملبد ..وموقد الحطب خمدت ناره ..لكن بقايا الدفء لا يزال موجود ا .. تدثرت ببطانية ونمت .
كان نومي متقطع ، فما اكاد انام حتى استيقظ ..والنعاس يقتلني .. فاعاعود النوم من جديد ..نوبات نومي كانت متقطعة قليلة .. تتخللها الاحلام ..وتلك المحاكمة تتكرر في الليلة اكثر من مرة .. بات نومي مصدر شقائي وعذابي ..وبت اكره النوم ..والليل ..وكم كانت الليالي طويلة طويلة ...فما ان يفصل الليل عن النار ، وتبزغ شمس يوم جديد ..حتى انهض كاني لم يكن بي نعاس او تعب ..
في الضحى يطيب لي النوم ..ومع الزمن اصبح ليلي نهارونهاري ليل ..فبت اسهر ليلي وانام نهاري ..وكانت هذه من متناقضاتي الكثيرة التي اكتظت بها حياتي ..ومما زاد الشرخ والانقسام ..بت مشطورة اكثر من شطر ..
التعليقات (0)