محمد أنـقـَّار
صـورٌ كالنَّسيـم.
شهادة في حق أستاذي الدكتور محمد السرغيني
هذه صورٌ انثالت على الخاطر وديعةً، هادئةً مثلَ النسيم. كأنما الرجلَ المعنيَّ بها نسيم. هكذا تمثلته دوماً منذ أن تعرفته قبل أربعةِ عقود وأنا بعدُ شاب غرير. وحتى عندما اتخذ لاحقاً صورةَ الأستاذِ الذي اختبرني في أكثرَ من مناسبة ظل بالنسبة إلي نسيماً. ومهما تتحول الظروف وتتغير المناسبات وأَكُـدُّ الذاكرة من أجل استحضار الصور المشينة يتأبَّى علي أن أتصورَه فظا،ً غليظاً، عنيفاً أو غاضباً.
أول صورة للسرغيني ترد على خاطري تعود إلى أيام الطلب بمدينة فاس. فبين سنتي 1966 و1967 كنت طالباً بكلية الآداب أهيئ شهادة الإجازة في الأدب العربي حسب نظام الشواهد القديم. في تلك الفترة المبكرة جداً بدأتُ أنشر أولى محاولاتي القصصية في صفحة "أصوات" بجريدة العلم. ومن حسن حظي وحسنِ حظ الطلبة المنتمين إلى جيلي أنَّ الأديب محمد السرغيني كان في نفس الوقت أستاذاً بالكلية المذكورة ومحرراً مشرفاً على صفحة "أصوات" التي كانت تنشر للأدباء الشبان الذين سيغدو معظمهم في سنوات لاحقة أسماءَ ذاتَ وزن في الساحة الثقافية المغربية؛ أتذكر منهم مصطفى يعلى، والعياشي أبو الشتاء، وأحمد الطريبق، وأحمد المديني، وإبراهيم الخطيب، ونجيب العوفي، وحسن الغرفي، وإدريس الناقوري، وعبد الجبار العلمي، ومصطفى بغداد، وعتيقة الإدريسي، وأحمد بنسنة، والبشير جمكار، وأجانا محمد، ومحمد بنميمون، وغيرهم كثير. كان الأستاذ محمد السرغيني يدرِّس طلبةً آخرين لا ينتمون إلى الشواهد التي أُعِدها. لذلك اعتبرتُ نفسي في تلك المرحلة تلميذاً له غيرَ مباشرٍ عن طريق صفحة "أصوات" وليس عن طريق الكلية، قبل أن تتحقق التلمذةُ بصورة رسمية في مرحلتي السلك الثالث والدكتوراه.
كان يحلو لي الصعودُ إلى الطوابق العالية لكلية آداب فاس بظهر المهراز من أجل ممارسة التأمل الشارد ومعاينة الطلبةِ والطالبات والأساتذة من علٍ وهم يَدبون في الساحة الفسيحة جداً؛ يتناقشون، أو يتبادلون همسات الغرام، أويتجهون نحو قاعات الدرس، أويُضربون، أو يختلطون بتلاميذِ وأساتذة ثانوية ابن كيران المحاذية. ولعل أولَ صورة انطبعت في خاطري للأستاذ محمد السرغيني تعود بالذات إلى تلك الفترة وإلى ذلك الظرف التأملي: ما زلتُ أتذكَّرُه يأتي إلى الساحة الفسيحة قادماً من المدينة العتيقة على متن دراجته النارية البسيطة. يوقفها برفق أمام الرصيف جنب درَّاجات الطلبة وبعض سيارات الأساتذة والموظفين. يمسك حقيبته اليدوية. يمشي بأناةٍ بسترته البنية وسرواله الرمادي وهو يتجه نحو قاعة الدرس. يوزع الابتسامات. يرد على التحايا، تمُيّزه مهابةُ الأستاذِ الجليل، والباحثِ الشاب، والشاعر الرومانسي الذي اقتحم غمار التجريب منذ سنوات مبكرة جداً بما سبق أن نشره من قصائد حالمةٍ في المجلات التطوانية: "الأنيس" و"الأنوار" و"تمودا" باسم محمد نسيم السرغيني.
كان طبعيَ الخجلُ، وأظن أني لا أزال كذلك. لذا اعتبرتُ من سابع المستحيلات أن أتحدث شخصياً إلى طائفة من أساتذة الكلية الذين قدّرتهم وأُعجبتُ بهم. لكن من حسن حظي أن الله وهبني صديقاً حميماً وبشوشاً هو محمد بوخزار ابنَ حارتي باريو مالقه. درس معي بكلتي آداب تطوان وفاس، وشكّلنا أنا وهو وإبراهيم الخطيب ثالوثاً لا يكاد يفترق. أما طبعُ بوخزار فقد كان يختلف عن طبعي بخفة دمه ومهارته في رواية النكت، وقدرته الخارقة على الإضحاك، وموهبته العظيمة في اختراق عوالم الآخرين. وبفضل كل تلك المزايا تمكن بوخزار قبلنا من التعرف شخصياً إلى محمد السرغيني وإبراهيم السولامي وأحمد المجاطي ومحمد برادة الذين كانوا يمثلون آنذاك الواجهةَ الأدبية والنقدية في الساحة الثقافية المغربية.كانوا أساتذةً شباناً يتميزون بعشقهم المتحمس للأدب المغربي، واجتهادِهم الطموح من أجل ربط جسوره بالمشرق والغرب خاصة فرنسا. يكتبون في الصحافة القصةَ والشعر والنقد والمقالة والمذكرات، ويترجمون روائع الأدب العالمي، ويُسهمون بصورة رائعة في التنشيط الثقافي وطنياً. ويرجع الفضل الكبير إلى صديقي العزيز محمد بوخزار في تعرفي الشخصي إلى الأديب محمد السرغيني الذي كان يجلس في مقهى النهضة في وسط مدينة فاس العصرية. وأعترف بأن جلساتي ووقفاتي مع الأستاذ السرغيني لم تكن طويلة بحكم خجلي الشديد وخوفي من أن أكون طالباً ثقيلَ الظل. كان السرغيني يحدثنا بثقة عالية ونحن ننصت. يتكلم في الشعر والقصة والمجلات والأدب المشرقي. كنت في حوالي العشرين من عمري، وفي تلك الفترة بدأتْ تظهر أولى محاولاتي القصصية في جريدة العلم. و كان أنْ أرّقني آنذاك السؤالُ الأسلوبيُّ الآتي: هل من الممكن أن تستعين القصةُ القصيرة بالرمز مثلما يستعين به الشعر؟. وتجرأت ذات مرة وطرحت السؤال على الأستاذ السرغيني ونحن في المقهى فأكد لي إمكانَ ذلك وضرب أمثلةً من القصص العالمي. وكان هذا التوضيح بمنـزلة الضوء الأخضر الذي فسح لي المجال واسعاً من أجل الإمعان في ترميز قصصي التي نشرتها في نهاية عقد الستينات.
وفي بداية عقد السبعينات أتيحت لي أول فرصة لكي أنتظم بصفة رسمية ضمن طلبة الأستاذ السرغيني بكلية آداب فاس. كان يدرّسنا مادةَ الأدب المغربي في إطار محاضرات السلك الثالث.كنت آنذاك أشتغل أستاذاً في ثانوية التقدم بالقنيطرة، ومنها أسافر إلى فاس في نهاية الأسبوع صحبة الصديقين محمد السولامي ومصطفى يعلى. وقرر لنا الأستاذ السرغيني كتابَ "النقد الذاتي" لعلال الفاسي ومجموعَ الروايات المغربية التي كانت قد صدرت إلى حدود ذلك التاريخ. وهي في مجموعها لم تكن كثيرة. لكن للأسف الشديد لم نحْضر خلال ذلك الموسم سوى حصصٍ قليلةٍ بسبب الإضرابات المتكررة والإشاعة التي راجت عن السنة البيضاء. وعلى الرغم من العام الدراسي المرتبك فقد استفدنا من محاضرات السرغيني، وفي ضوئها اعتكفتُ شهوراً طويلةً في داري أشرّحُ كتاب علال الفاسي وكذا نصوصَ الروايات المغربية تشريحاً مفصلاً صحبة الصديق يعلى. ومن بين الخَطوات المنهجية التي اقترحها علينا أستاذ المادة ما أسماه ب "ردِّ الأفكار إلى مصادرها". ويقصد بذلك إرجاعَ كل فكرة أو معلومة من أفكار ذلك الكتاب إلى المصدر الذي استمدها منه المؤلف. كانت خطوة طريفةً وصعبةً في نفس الآن، لكني أُعجبت بها وطبقتها لاحقاً في تدريس كتابِ العقاد "عبقريةِ عمر" لطلبة الباكلوريا في ثانوية جابر بن حيان بتطوان.
وفي سنة 1982 تقدمتُ إلى مباراةِ اختيار الأساتذة المساعدين الذين كان من المنتظر أن يلتحقوا بسلك التدريس بشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بتطوان التي فتحت أبوابها في أكتوبر من نفس السنة. تمت المباراة الكتابية والشفاهية بمدينة فاس. وتشكلت اللجنة من الأساتذة الأجلاء المرحوم عبد الله الطيب، وعبد السلام الهراس، وإبراهيم السولامي، ومحمد السرغيني. وكما العادة فقد احتفظتُ للأستاذ السرغيني بصورة لطيفة عن تلك الجلسة المصيرية وهو يناقشني ويبادلني الاقتراحات عوض أن يفرضها فرضاً أو يصحح أخطائي بالعنف أو السخرية. والحق إن باقي أعضاءِ اللجنة لم يكونوا أقلَّ منه لطفاً واحتراماً.
وفي سنة 1984 ناقشتُ دبلوم الدراسات العليا بكلية آداب فاس في موضوع "فنِ قصصِ الأطفال بالمغرب". ومرة أخرى كان الأستاذ السرغيني عضواً في لجنة المناقشة. وظل الرجل خلال الجلسة وديعاً في كشفه عن هفوات الرسالة وفي إبداء إعجابه بمزاياها. يتكلم بأناة وهو يرتجل ملاحظاته المركزة، منطلقاً من جُذاذات سماويةِ اللونِ ما زلت أحتفظ بها باعتزاز إلى يومنا هذا.
وبعد مناقشة الدبلوم تهت طويلاً في البحث عن أستاذ مشرف لأطروحة الدكتوراه.كان المشرفون في منتصف الثمانينات عملةً نادرةً. أما القلة التي تتوفر فيها الشروطُ الأكاديمية للإشراف فكانت تشترط بدورها على الطلبة شروطاً تعجيزية. وزاد تيهي حينما اخترت موضوعاً معقداً يندرج في سياق النقد المقارِن، يقتضي في الآن ذاته معرفةَ اللغتين العربية والإسپانية. ولقد أثار انتباهي في تلك الأيامِ اهتمامُ الأستاذ السرغيني باللغة الإسپانية وترجمتُه عنها بين الحين والحين. وعندما عرضت عليه فكرة الإشراف قبِل من دون تردد، لكن كان يجب عليَّ أن أنتظر وقتاً إضافياً ريثما يسوي الأستاذ وضعيته الأكاديمية حتى يُسمحَ له بالإشراف. وبمجرد ما تحقق هذا الشرط قدمت له تقريراً في الموضوع.
هكذا تجددت لقاءاتنا القديمة في مقهى النهضة بفاس، استمعتُ خلالها إلى ملاحظات أستاذي المشرف، وناقشتُ معه مفهومي "للصورة" الذي لم تكن معالمه البلاغيةُ قد اتضحت لي بما فيه الكفاية. واقترح علي الأستاذ السرغيني العملَ في ضوء تصور غاسطون باشلار الذي أقبلتُ عليه بنهم، ثم اتضح لي فيما بعد أن المفهوم الذي أتطلع إلى نحته يختلف عن مفهوم هذا الناقد الفرنسي المتميز، ومع ذلك استفدتُ منه الشيءَ الكثير. وكان الأستاذ السرغيني في تلك الجلسات كعهدي به دوماً من حيث الأناة، والأناقة، والكلامُ البطيء المتَّـزنُ، المضمخُ بشاعريته الحالمة. إلى أن تُوج هذا الجهد النقدي المشترك بمناقشتي لدكتوراه الدولة في كلية الآداب بالرباط في يونيو من سنةِ 1992.
وفي سنة 1986 وأنا أشتغل أستاذاً مساعداً بكلية آداب تطوان كلفني أستاذي الجليل الدكتور محمد الكتاني بإعداد أيام دراسية لفائدة طلبة الإجازة استدعيتُ لها ثلة من أساتذة الكلية؛ ومن خارجها محمد السرغيني، وحميد لحمِداني، وسعيد علوش. ولقد أتاح لي هذا اللقاءُ الجديد فرصةَ الاحتكاك المباشر بأستاذي المحترم والتجوالِ معه في دروب تطوان، والبحثِِ عن بعض أصدقائه التطوانيين الذين ساهموا معه بالكتابة في مجلة "الأنيس" خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي.
ثم شاءت الأقدار بعد أن اشتد العود وتقدم العُمْر أن أشارك أستاذي مناقشةَ أكثرَ من رسالة جامعية، وأن أحضر إلى جانبه أكثرَ من ندوة علمية, وأن أتبادل معه رسائلَ ثقافيةً عن الوضع الأدبي والنقدي بالمغرب. وخلال كل ذلك لم أنقطع عن النهل من حياض علمه والاستفادة من ملاحظاته وتقويماته الذكية، وتتبعِ أخباره وإصدارته، والفرحِ بانتصاراته ولو من بعيد.
أستاذي الجليل الدكتور محمد السرغيني:
في السنوات الأخيرة فَـَتر التواصلُ الحميمُ فيما بيننا بصورة عذبتني كثيراً وركّبتْ في أعماقي عقدةَ الإحساس بالذنب. وأعترف بأني المسؤول المباشرُ عن ذلك الفتور. ففي العرف والسلوك الحضاري يجب على المريد أن يبادر بالسؤال عن شيخه وليس العكس. ولا يمكن أن أنسى بسهولة هوسي وهوسَ جيلي بالتتبعِ اليومي لتفاصيل أخباركَ في الزمن الغابر، وتطلعَنا الصادقَ إلى أن نراك يوماً تُنهي بعد طول انتظار حلقات روايتك المسلسلةِ "أيها الضياع" وتنشرَها في كتاب كأنه سيكون كتابَنا. ثم كيف لي أن أنسى ذلك الصباحَ الستينيَ في ساحة كلية الآداب بظهر المهراز ونحن الطلبة محيطون بك نسألك عن الطريقة الصحيحة لقراءة عنوانِ قصيدتِكَ الطريةَ التي نشرتها في الصباح ذاته: هل هو "سَفَرُ المطلق في الحبر" أم "سِفْر المطلق في الحبر"، وكيف أنك أجبتنا بهدوئك المعهود أن العنوان الصحيح هو "السَّفَـر".
أستاذي العزيز:
أنا اليوم سعيد وممتن غاية الامتنان لمكتبة سلمى الثقافية ومنتدى السرد الأدبي على هذه الفرصة الجميلة التي أتاحاها لي من أجل تجديدِ العهد لأستاذي الرائع والاعترافِ له أمام الملإ العام بأفضاله العلمية عليّ، ودعائي له بموفور الصحة وبالمزيد من التألق في مجالات الإبداع والنقد والحياة.
أتمنى أن أظل دوماً عند حسن ظنك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تطوان في 8 ماي 2008
التعليقات (0)