تراكض العمال خلف سيارة الجيب العتيقة والتي تسير على الشارع المترب الذي يقوم عمال دائرة ألأشغال العامة ( النافعة ) بشقه ، توقفت السيارة أمام الخيمة التي نصبت بجانب شجرة كبيرة ، نظر العمال بفضول إلى راكب السيارة وتحادثوا بفرح نعم إنه هو صراف دائرة ألأشغال العامة والذي يأتي كل شهر لصرف أجورهم ، نزل الصراف من السيارة يحمل حقيبة جلدية ، ركض رئيس الورشة والكاتب والحارس لتحية الصراف وحاول الكاتب اخذ الحقيبة ولكن الصراف اعتذر بأدب لأنها مربوطة بيده ، دخل الجميع إلى الخيمة بينما لحقهم سائق سيارة الجيب والذي يبدو من شكله أنه حارس للصراف أكثر منه سائقا فقد كان مسلحا ويلتفت يميتا ويسارا كأنه يراقب العمال .
جلس العمال تحت الشجرة بانتظار أن يبدأ الصراف بصرف ألأجور ، كان العمال يحملون بأيديهم بطاقات العمل مدونا عليها عدد ألأيام التى عملها كل عامل وما يستحق من أجر ، وكل واحد يفكر بما سيحمله من هدايا ولوازم لأهله ، حيث يذهبون إلى المدينة المجاورة بعد صرف أجورهم ويشترون ما أوصاهم عليه أولادهم وعيالهم وزوجاتهم وأخواتهم قبل شهر ، لأنهم ينامون طول الشهر في مكان عملهم وفي آخر الشهر وبعد صرف أجورهم يرجعون إلي بيوتهم وهم يحملون الهدايا ليناموا ليلة الجمعة ثم يرجعون إلى عملهم الجمعة مساء كي يتمكنوا من بدأ العمل يوم السبت بوقت مبكر في الصباح .
خرج رئيس الورشة من الخيمة وقال : إن الساعة ألآن هي الثانية عشرة وهو وقت فسحة الغداء ولذلك سيعد غداء للصراف والسائق وبعد الغداء أي في الساعة الواحدة سيقوم الصراف بصرف ألأجور حيث سيستأنف العمال العمل ويقوم كل عامل بترك عمله لمدة بسيطة ليقبض أجره ويعود إلى عمله حتى لا يتعطل العمل ، وطلب من العمال أن يظهروا نشاطا زائدا في العمل أمام الصراف حتى يقدم تقريرا جيدا بحقهم .
اقترح رئيس الورشة أن يذهب الحارس وسائق السيارة إلى المدينة وإحضار غداء يليق بمقام الصراف ولم يمانع الصراف ، فوضع الحقيبة التي يحملها وربطها بعمود الخيمة بالسلسلة التى كانت مربوطة بها بيده .
ركب حارس الورشة والسائق السيارة وانطلقا لإحضار المطلوب بعد أن نقد رئيس الورشة الحارس شيئا من المال، وأخرج الكاتب كرسيان وضعهما تحت الشجرة وجلس هو والصراف عليهما فيما تحلق العمال حولهما يثرثرون ويسألون ، وبقي رئيس الورشة داخل الخيمة ليقوم بتحضير مائدة الطعام ، فنظر إلى حقيبة الصراف المربوطة بالعمود وأضمر شيئا .
خرج رئيس الورشة من الخيمة وقال أنه سيقوم بتحضير إبريقا من الشاي وانشغل بغسل الفناجين ثم دخل إلى الخيمة وشرع بإشعال موقد الكيروسين بعد أن ملأه من صفيحة كانت قريبة منه وتعمد أن يسكب بعضا منه على ألأرض لتملأ رائحته المكان ، وارتفع صوت الموقد المميز داخل الخيمة ، وبسرعة قطع جلد الحقيبة بسكين وافرغ ما بداخلها في كيس وحمله وانسل بهدوء إلى دغل قريب كان العمال يقضون حاجتهم داخله وأخفى كيس النقود في أصل شجرة وعاد مسرعا ودخل الخيمة من الخلف كما خرج وقام بسكب وعاء الكيروسين على الفراش وعلى الحقيبة وعلى عمود الخيمة وفي جوانبها وعلى عصي الفؤوس والمجارف وعلى القفف المطاطية وعلى بذلته المعلقة في عمود الخيمة والتي فيها أوراقه الخاصة وبعض العملة المعدنية وتأكد انه أبقى في الحقيبة بعض النقود المعدنية أيضا ، وكان صوت الموقد يغطي كل ذلك ثم أشعل ورقة صغيرة ووضعها تحت طرف قماش الخيمة ، وبعد أن تأكد أن النار علقت بالقماش خرج يحمل وعاء السكر والفناجين على طبق وأخذ كرسيا وجلس بجانب الصراف .
امتدت النار إلى جميع أرجاء الخيمة وتحولت إلى كتلة من اللهب ، ركض العمال بجزع وحاولوا إطفاء النار بينما أخذ الصراف يتراكض كمن هو الذي يحترق وأخذ رئيس الورشة يلطم وجهه ويقول : أنا السبب لقد تركت وعاء الكيروسين مفتوحا بجانب الموقد ، فيما قام الكاتب بتهدءة العمال الذين حاولوا الفتك برئيس الورشة ، وبعد أن خفت شدة الحريق قام العمال بسكب براميل المياه على الرماد وبأمر من رئيس الورشة ، وكذلك قاموا ببعثرة كل ما هو باق من مخلفات الحريق ولم يتركوا شيئا مكانه .
عاد الحرس وسائق السيارة إلى الموقع وعرفوا ما حصل فركب الصراف ورئيس الورشة والكاتب السيارة وعادوا إلى المدينة ليبلغوا دائرة ألأشغال بما حصل حيث تم تحويل الجميع إلى شرطة المدينة والذين ذهبوا إلى الموقع وحاولوا أن يحصلوا على أي دليل ولكن العمال كانوا قد قاموا بتدمير كل دليل ، ولم يبق أمام الشرطة إلى اعتقال الثلاثة رئيس الورشة والصراف والكاتب للتحقيق معهم ، وبشهادة العمال أن رئيس الورشة هو وحده الذي أشعل الموقد وهو الذي كان يعد الشاي وأن السائق والحارس كانا في المدينة وأن الكاتب والصراف كانا تحت الشجرة ولم يدخلا الخيمة أبدا ، فتم إخراج الكاتب والصراف من الحجز .
ظل رئيس الورشة يبكي ويتظاهر بالجزع ، وأبقوه في الحجز حتى صباح اليوم التالي حيث أخذ للتحقيق مرة ثانية ولكنه بقي على روايته وأخذ يتحسر على أوراقه ولوازمه الشخصية التي احترقت داخل بذلته التي كانت معلقة في عمود الخيمة ، وقدم للمحاكمة وحكم عليه بالسجن ولمدة سنتين .
مكث رئيس الورشة في السجن يقضي مدة محكوميته ، وكان يزوره بعض أهله ، وبعد عدة أشهر وصل إليه زائر خاص ، لقد كان كاتب الورشة وبعد السلام جلسوا سويا وتحادثوا بصوت عال ملفت للنظر حيث طلب منهم الحارس أن يخفضوا صوتهم ، فقال رئيس الورشة للزائر وبصوت مسموع وبغمزه من عينه : اسمع يا أخي أريد منك أن تذهب إلى أرضنا ، آخر أرض كنا فيها حيث كانت الحريقة وبالمكان الذي كنا نقضي فيه حاجتنا وبصوت منخفض تابع ثم تأخذ الشتلة التي في الشجرة .
انقضت مدة الحكم وخرج الرجل من السجن ورجع إلى بلده، وكان أخوه كاتب الورشة قد أخذ الكيس واقتسموا المبلغ ورجع الكاتب إلى المدينة واشترى بيتا وسكن فيه وبقي رئيس الورشة في قريته.
كان وضع الناس صعبا وكان مختار القرية من الناس الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب واشتغل هناك وعاد بمبلغ من المال ، وتصاحب الرجل مع المختار وصاروا يقرضون الناس بالربا وارتهان ألأرض ، وعندما يعجز المزارع مالك ألأرض عن سداد دينه يقومان بالاستيلاء على أرضه بابخس ألأثمان فيقول صاحبنا للمختار : ما رأيك يا موسى هل هذه ألأرض تلزمنا وتصلح للشراء ، فيجيب المختار : وحياة ديني وحق العذراء أنها لا تساوي إلا قيمة القرض مع الفائض وبيعها أحسن من المحاكم والحبس ، فيضطر المزارع للتنازل لهم عن أرضه .
ومرت ألأيام ومات المختار وأصبح الرجل مختارا للقرية فأخذ يأكل من الناس ومن الحكومة وكبر أولاده وسافروا إلى خارج البلاد للعمل ، وتقدمت به السن وكأنه أحس بدنو أجله ، وكانت مقبرة القرية ضيقة ، وكانت له قطعة أرض بجانب المقبرة وكانت أصلا لإحدى ألأرامل يفصل بينها وبين المقبرة طريق ، فتنازل عن المخترة وأعلن للناس أن قطعة ألأرض هي وقفا يضم للمقبرة ، وما هي إلا شهور حتى مات الرجل فقاموا بدفنه في المقبرة الجديدة ، ولم يدفن بها أحد غيره لأن أهل القرية على يقين أن المختار استولى عليها عن طريق الخداع فلم يدفنوا موتاهم فيها .
علم أحد أولاد المغتربين بأمر ألأرض فاتصل بالمختار الجديد وطلب أن لا يقوم أهل القرية بدفن موتاهم بأرضه لأن أباه عندما أعطى ألأرض كان خرفا وفاقدا للأهلية نتيجة لكبر سنه ولا يحق له أن يتصرف بأملاكهم.
مرت أكثر من عشرين سنة وتحولت ألأرض إلى دغل كثيف من قلة العناية ونسي الناس أمر ألأرض والقبر، وعاد ابنه من الغربة وشرع ببناء بيت له على ألأرض ، وأحضر جرافة من أجل أعمال الحفر والتسوية ، وجرفت ألأرض والقبر ، ونقل ناتج الجرف إلى مكب بعيد ، وبنا ألابن بيتا كبيرا له على ألأرض ، وصدفة كان مكان حفرة تصريف المبنى في المكان الذي كان القبر موجودا فيه .
التعليقات (0)