سيعتبر العام 2011م، بداية عهد تغيير المصير العربي خلال السنوات القادمة، ففي نهايته سنرى رابحون وخاسرون كثر، ومن بين اؤلئك الخاسرون الكبار سنجد السلطة الفلسطينية، لقد عرفت السلطة الفلسطينية كأحد البنات الشرعيات للنظم العربية الحاكمة، وفي مقدمة تلك الأنظمة النظام المصري بزعامة الرئيس السابق حسني مبارك، وقد شكل حسنى مبارك بشكل شخصي المرجعية الحصرية لهذه السلطة إبان فترة الرئيس الراحل ياسر عرفات و فترة الرئيس أبو مازن.
وبهذه الطريقة او بغيرها ارتبطت الأنظمة العربية الرسمية مع بعضها البعض، وعاشت تلك النظم كامل فترة حكمها للأمة في تحالف بيني وثيق بسبب تشابه الجينات السياسية المكونة والمشكلة لها، و وحدة مصيرها المشترك، بسبب تزامل الأدوار والمهمات التي قامت بها طيلة فترة ولايتها، لذا فان نوع ومضمون السلطة الفلسطينية حسمته الظروف التي نشأت في ظلالها وهي ظروف الانتماء والولاء للنظام العربي الرسمي، والعمل والإخلاص للرعاة والمانحين والمؤسسين والقائمين على فكرة بعث السلطة الفلسطينية الى الوجود.
فمنذ أن بدأت السلطة عملها في قطاع غزة في خريف العام 1994م، وهي ملتزمة بهذا المعسكر ومن الطبيعي أن تكون قوة وضعف السلطة نابعان من قوة وضعف حلفائها ، فبعد سقوط النظام المصري استقر القلق في داخل الرئيس أبو مازن ، وبدأ يبحث عن طريقة ما للخلاص من وظيفته وهذا إحساس شخصي بالخطر، لكن الرئيس أبو مازن كان يدرك بأن الأمر ليس منوطا به لوحدة، وخاصة انه بدا يظهر أمام الجمهور الفلسطيني كرئيس خال الوفاض وغير متأكد من انه سيحقق للفلسطينيين أي نصر يذكر، ومن أي مستوى وفي أي جبهة.
الى ذلك، وعلى الرغم من بطء حركة التحول الراهنة في العالم العربي إلا أن نتائجها تتسم بالجذرية وعدم التسامح مع أيا من أخطاء الماضي، والمقصود هنا النظم السابقة وكل ما يمت لها بصلة، ولنا في تجربة سقوط الحزب الديمقراطي التقدمي التونسي، خير مثل على ما نقول، وهو من الأحزاب السياسية التونسية المعارضة لحكم زين العابدين بن علي، وممن دفعوا ثمناً باهضا جراء تلك ألمعارضه، وكان من الأحزاب التي دافعت بلا هوادة عن الحريات السياسية والعامة في تونس، بما فيها المطالبة بحق الإسلاميين في العمل السياسي، وطالب مراراً وتكراراً بإطلاق السجناء السياسيين من سجون النظام البائد، لذا فان تاريخه في ظل بن علي لا تشوبه شائبة التواطؤ أو التعامل مع الحكم الاستبدادي السابق، لكن كل ذلك، لم يمكنه من استقطاب أصوات التونسيين، لأنه عمل بترخيص من حكم بن علي، وكانت هذه كافية لحصوله على اقل الدرجات والفرص في نتيجة الانتخابات بعدما كان يتوقع أن يتفوق على حزب النهضة، ولم يشفع له التونسيين تلك الغلطة، وحاسبوه عليها في صندوق الاقتراع.
على هذه الخلفية المتفجرة والمقررة لمصير الدول ، والأحزاب والحركات والقادة ، والمتخنة بالحساسية الجماهيرية ضد الماضي الاستبدادي وصوره المتعددة ، برزت العديد من الحقائق الجديدة أهمها بان الحركات الإسلامية من الممكن إن تحصد غلال الربيع العربي بالكامل ، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ، ولعل فوائد الأمر ستعود بالنفع المؤكد على حركة حماس في الداخل الفلسطيني ، وهذا كان كفيلا بان يجعل الرئيس عباس متأكد من تحقق خسارته غير القابلة للاستدراك ، وكفيل أيضا بان يجعل من السلطة الفلسطينية سلطه مفلسة وعاجزة عن مقارعة الإسرائيلي خارجيا والتصدي لازدهار ونمو نفوذ الإسلاميين داخليا ، وضمن استعدادات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي للتعامل مع نتائج هذا التحول الكبير في العالم العربي ،القائم على التعاون مع الاسلامين الليبراليين الصاعدين الى الحكم شاءت أمريكا أم أبت ، قرر نتنياهو أن يدير ظهره بالكلية للرئيس الفلسطيني ، الأمر الذي دفع الرئيس عباس لتجاوز حكومة نتنياهو والولايات المتحدة والتوجه الى المنابر الدولية للمطالبة بالحقوق الفلسطينية ، ومع بداية آذار مارس من العام 2011م ، أعدت السلطة خطة للتوجه الى الأمم المتحدة ،لمطالبة العالم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967م ، وقد أيدت الدول العربية المسعى الفلسطيني وعارضته الولايات المتحدة وحركة حماس والقوى الإسلامية الليبرالية العربية بشكل كلي ، وكلا من هؤلاء له أسبابه الخاصة به .
أنا شخصيا اعترف بأنني لم أتمكن من تصديق او تأييد خطوة الرئيس عباس ،او ملاحظة الفوائد المرجوة والمنتظرة منها ،والتي تحدثت عنها السلطة بحماسة كبيرة ، ولعل أكثر ما أثار استغرابي ، هو لماذا جعلت السلطة الفلسطينية من يوم إلقاء الخطاب وتقديم الطلب يوما للاحتفالات ، فانا افترضت حسن النية والتخطيط الجيد لما سمعت عنه فقلت لو أن الطلب الفلسطيني سيحظى بالموافقة فمن الأنسب الاحتفال في يوم الفوز الذي سيلي التصويت وقبول الطلب ، وهو موعد أيضا كان فضفاضا وغير محدد ، فوفقا للوائح الداخلية الخاصة بمجلس الأمن فان البت في مثل هذه الطلبات يكون بعد 35 يوما من تاريخ تقديمها ، فرأيت في الاحتفالات كمن يحتفي بطالب التوجيهي يوم تقديم الامتحان ، وليس في يوم إعلان نتيجة امتحانه .
ورأيت في هذه الخطوة حماقة سياسية هائلة تنطوي على تظليل للشارع الفلسطيني، وعدم شرح الأمور له كما ينبغي، اليوم وبعد مرور أكثر من أربعين يوم على تقديم الطلب لم يحدث شيء يستحق الابتهاج والفرح اللذان رأيناهما في الشارع الفلسطيني، وفي 11/11/2011م وهو يوم التصويت المفترض داخل مجلس الأمن على الطلب الفلسطيني، بعد أن تبدل خمسة من أعضائه الدوريين، مما قلص من احتمال الفوز الفلسطيني ورفض الطلب من قبل مجلس الأمن بدون فيتو .
وعلى قاعدة عدم إدراكي الشخصي لمنافع الخطوة المثيرة ، ولكي انزع من ذهني أي مقدار من مقادير الشك سالت صديقا لي في جامعة القدس أبو ديس، قبل سفر الرئيس الى نيويورك عن الفوائد التي من الممكن أن نحصل عليها، من بعد توجه الرئيس الى الأمم المتحدة، قال لي بان هذا الأمر سينقل وضع الأراضي الفلسطينية من الحالة القانونية المبهمة التي هي عليها ألآن كأراضي محتلة الى دولة تحت الاحتلال، بمعنى انه يمكننا أن نطلب من مجلس الأمن تحت طائلة الفصل السابع التدخل ضد إسرائيل لتحرير الدولة الفلسطينية، وأضاف بان هذا سيحدث في حال تم قبول الطلب من قبل مجلس الأمن، وفي حال موافقته ينقل الطلب مع الموافقة الى الهيئة العامة للأمم المتحدة، فقلت له وفي حال لم تتم الموافقة على الطلب، قال يكفينا شرف المحاولة، قلت برأيك أبو مازن من أيهما واثق أكثر، قال من رفض الطلب، قلت له ما الفائدة اذا ؟ قال لا فائدة.
يقودنا هذا الجدل الى التأمل من جديد في بعض الحقائق الناشئة من قلب عاصفة الربيع العربي، وعلاقتها بالموقف المتشدد الذي اتخذته الولايات المتحدة وإسرائيل من السلطة الفلسطينية على خلفية تقديم الطلب، لقد حسم أبو مازن بتوجهه الى الأمم المتحدة أمر الميل الأمريكي الى التعامل مع القوى الإسلامية الصاعدة في المنطقة، وان لا فائدة ترجى من التعامل مع زعيم فلسطيني محسوب على القوى العربية المدبرة، بينما تتوفر لها إمكانية أفضل للتعامل مع قوى صاعدة ما زالت شرعيتها تلمع كالبريق، وهنا يمكن أن نتوقف عند المعيار الأمريكي في تحديد استرتيجية تعاملها مع هذه القوى وهي القائمة على الحفاظ على الوجود الأمريكي في المنطقة وليس على إقناع تلك القوى بإقامة صلح مع إسرائيل، واسرئيل تقبل بهذا الترتيب للاستراتيجية الأمريكية لأنه يصب مباشرة في خدمة مصلحتها الوجودية.
بطريقة او بأخرى ستضرب أمواج المد الثوري العربي قلب فلسطين، ولكن بشكل مختلف لربما لن نرى مظاهرات صاخبة في الشوارع تهتف ضد السلطة الفلسطينية وذلك بسبب تعقيد الظروف الموضوعية المشكلة للحالة الفلسطينية وهي أن هناك عدو جاثم فوق القلب داخل الديار، هو أولى بالغضب والصراخ وقذف الحجارة، لكن فشل السلطة في التعامل مع ما أحاط بها من مستجدات ،في مقدمتها انسداد الافق السياسي ، وتوقف عملية التسوية ،وردها على ذلك بالتوجه الى الأمم المتحدة حسم أمر الإطاحة برئيسها محمود عباس ، ومن هنا يمكن إن نفسر ما تعد له السلطة من برامج وخطط لحل السلطة قبل أن تتمكن أية قوة فلسطينية أخرى من السيطرة عليها كما حصل في غزة، وفي ذلك أرى بان الرئيس لن يتمكن من تفكيك السلطة حتى لو رغب بذلك، لكنه سيتمكن من الاستقالة والخروج من المشهد السياسي الفلسطيني، لماذا، لان مشروع تأسيس السلطة الفلسطينية ليس مشروعا فلسطينيا، لقد كان وما يزال وسيبقى مشروعا إسرائيليا شانه شان الخيار الأردني والإدارة المدنية.
كاتب ومحلل سياسي
n-damj@maktoob.com
التعليقات (0)