مواضيع اليوم

صعق فتاة عربية بقرار

د.هايل نصر

2009-03-07 09:46:18

0

فتاة عربية, جميلة, هذا هو اسمها. دخلت فرنسا نظاميا بجواز سفر وتأشيرة. انتهت صلاحية التأشيرة, منهية معها قانونية بقاء جميلة. تخفت ولم تعد لبلدها الذي تحبه وتكره ما وصل إليه, وما, ومن أوصلها إليه. والدها التسعيني يريد عودتها ولكن ليس صفر اليدين. أختها, صفية, تنتظر ما سترسله لها من دراهم لإجراء عملية جراحية لا تملك فلسا من تكاليفها.

بعد تخفي سنتين, وشى بها أحدهم, من أبناء جلدتها, فجاءت الشرطة تتحقق من شرعية إقامتها. صدق الواشي, وأُوقفت جميلة. في الحجز  garde à vue أُبلغت بحقوقها: حقها في إخبار احد أفراد أسرتها بأنها موقوفة ــ ليس لها أسرة أو صلة قرابة في فرنسا ــ. حقها في عرضها على طبيب. وفي التحدث لمحامي. و ذلك خلال الساعة الأولى من التوقيف, ليس لزيادة إنسانية من الشرطة, وإنما لان القانون, في حالة مخالفة هذه الإجراءات, يجبر قاضي الحريات والحجز على إطلاق سراحها فورا. وعودة تخفيها من جديد. وبعد التحقيق وأخذ المعلومات أصدرت المحافظة  préfecture  ضدها قرارا اقتياد إلى الحدود  décision de reconduite à la frontière ووضعها في مركز إداري لحجز الأجانب  CRA في انتظار تسفيرها.

كانت جميلة قد أضاعت, أو أتلفت, جواز سفرها, لتخفي جنسيتها وتعيق السلطات الفرنسية عن تنفيذ القرار. لأنه لا يجوز ترحيل إنسان لبلد غير بلده. ولكنها, بناء على نصيحة بعض المحجوزين معها من أصحاب السوابق والخبرة في التخفي, اعترفت باسمها الحقيقي وجنسيتها, لتجنب الاقتياد أمام محكمة الجنح بتهمة إعاقة تنفيذ إجراءات الإبعاد,  وعقوبتها القصوى 3 شهور حبس, ومنع من دخول الأراضي الفرنسية لمدة 3 سنوات.

أمضت جميلة في مركز الحجز الإداري 15 يوما, في انتظار تعرف قنصلية بلدها عليها لمنحها رخصة سفر. ونظرا لعدم اهتمام القنصليات العربية بمثل هذه الأمور, أو تقاعسها في أحسن الأحوال, طلبت المحافظ من قاضي الحريات والحجز تمديد الحجز لمدة ثانية, 15 يوما , للحصول على الرخصة المذكورة. في نهاية الثلاثين  يوما تصبح جميلة طليقة إذا لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتسفيرها. ولكن هذا لا يسقط قرار الاقتياد إلى الحدود. وعليه, وبهدف إلغاء القرار المذكور تقدمت جميلة بطعن إداري إمام المحكمة الإدارية.

يوم جلسة النظر في القرار المطعون فيه, ونظرا لعدم استطاعة المحامي إيجاد أي عيب شكلي أو قانوني في القرار, أو أي شيء يمكن أن يكون لمصلحة موكلته, لم يكن أمامه إلا التوسع في عرض الأسباب الإنسانية, والحالة الاجتماعية لموكلته وعائلتها. والأسباب التي دفعتها للهجرة, وما تعرضت له من إهانات واستغلال في الفترة القصيرة التي عملت بها ــ تبلغ جميلة من العمر 25 عاما ــ ومحاولة تزوجيها عنوة بقريب لها لا يكبرها إلا بثلاثين سنة. فلاح ميسور الحال ستطاع إعاشة امرأتين وقدير على إعاشة ثالثة مضافة إليهما. مذكرا انه لا يريد أن يطلب من المحكمة محاكمة الأنظمة السياسية بسبب هجر جميلة, ومئات ألاف من أمثالها, لبلدانهم الأصلية لان ذلك ليس من اختصاص محكمة إدارية فرنسية.

 كان السؤال الأخيرة للقاضية هل تريدين إضافة شيء؟ أجابت جميلة باكية منتحبة: أرجوكم وأتوسل إليكم لا تعيدونني لبلدي. أفضّل السجن على ذلك (جواب يسمعه القضاة والمحامون يوميا في قضايا إبعاد الأجانب). واعتقدت القاضية أنها تسمع إضافة تقليدية. وبعد المداولة دخلت القاضية الإدارية وأعلنت بأنها مع جميلة فيما قدمته من أسباب إنسانية لبقائها, وإنها متأثرة كإنسانة بوضعها, ولكنها لم تجد في الملف سببا قانونيا واحدا تستند إليه لقبول الطعن وإلغاء قرار الإبعاد. عند فهم جميلة معنى ما قالته القاضية سقطت مغشيا عليها دون حراك, وعلى كتفي.

صُعقت جميلة بقرار. وظن جميع من في قاعة المحكمة أنها لا محال مفارقة الحياة. طمأن الإسعاف ــ الذي وصل متأخرا حوالي ساعة  بعد الحادث ــ الجميع بأنها لم تزل على قيد الحياة, ولكن  حالتها جدية, وبأنه لا يستطيع قول شيء قبل إجراء الفحوص التي ستجري لها في المستشفى.

لم تشر أية صحيفة أو نشرة إلى ذلك, ولم يتعد الخبر قاعة المحكمة. قد تتأسف بعض منظمات حقوق الإنسان والمهتم منها بالأجانب إن علمت بذلك. ولكن هذا لن يعيد الحياة لجميلة إن فقدتها, أو يبعد عنها ما قد يترتب على ذلك من نتائج صحية إن بقيت على قيد الحياة, كما انه, في هذه الحالة, لا يعيق تنفيذ قرار الترحيل إلى حيث لا تحب. إلى بلدها الأصلي.

إذا ما قدر لجميلة الرحيل للعالم الآخر بعد أن ضاق بها العالم الدنيوي. فلن يكون هناك من يتأسف أو يحزن لأنها وحيدة في الغربة, وتكاد تكون كذلك في الوطن. والاختلاف كل الاختلاف ــ كما كان في حالات من انتقلن من النساء قبلها لذلك العالم انطلاقا من الغربة وليس من ارض الوطن ــ حول التوصية المرفوعة معها, من قبل أوساطنا العربية, لخالق الكون ليأخذ بها يوم الحساب. هل ستُسجل في التوصية شهيدة؟ أم فقيدة؟ أم قاتلة نفسها؟ أم نافقة في ديار الكفر؟... مضافا إليها كشف بأعمالها التي يمكن أن تكون قد خفيت عن رب العالمين.

هناك في الوطن كبير لم يسمع, ولن يسمع, بمثل هذه المسائل الصغيرة, كبير لاتهمه الصغائر, في عنقه أمانة ــ لم يحمله إياها أحد, حمّلها لنفسه بنفسه ــ. مسؤول عن القضايا المصيرية وحدها, وعن المستقبل وحده, ومستقبل الورثة والأحفاد ــ الحاضر تفصيل صغيرــ انه راع الوطن ومالكه, ملكية تشمل الأرض, ما فوقها و ما تحتها. وكل من يدب عليها عنده سواء. وله حتى على المنتشر من رعاياه في أصقاع المعمورة الواسعة, وعلى ما اكتسبوه في اغترابهم حقوق وجباية. حقوق الطاعة, والفداء بالروح وبالدم. فمن إذن جميلة وأمثال جميلة لينشغل بها فكر زعيم راع, بمسؤوليات بمثل هذا الاتساع؟

في اليوم نفسه, وفي الغرب أيضا, صعقت فتاة عربية أخرى بعصا ثورية. (لا نتحدث عن ملايين المصعوقات في الشرق بشتى الوسائل) خادمة, دخلت الغرب كدخول جميلة. وصادفها الحظ السويسري, بعكس جميلة. لم تصعق بقرار وإنما بعصا. عصا ابن زعيم تعود صعق الخدم وصرعهم, وكل "الكلاب الضالة" الهاربة للغرب, ليس للسياحة والسباحة والاستجمام, وتبديد أموال آبائهم وبلدانهم, والتنعم بالشواطئ وقاصديها, أو عقد الصفقات المشبوه منها وما لا تصله الشبهات, وإنما طلبا للجوء وللنجاة (النفاذ بالريش), في كل مرة تلاحقهم موجة اعتقال وتهديد, أو موجات جوع وبؤس وضياع, موجات مد دائم لم تعرف الانحسار من عقود وعقود.

لم يكن على جميلة , المصعوقة بقرار, تقديم اعتذار للصاعق. ولكن على المصعوقة, بالعصا الثورية, الفتاة العربية, وعلى الدولة المضيفة ومحاكمها, تقديم الندم والاعتذار الفوري للصاعق, وأبيه, ومؤيديه, قبل أن تصلهم طلائع المد الأخضر, وشهر البترول سلاح, فالقضية قومية عربية, مركزية ومصيرية. تمس المقدسات والسيادة , وإلا وإن أرادوها فلتكن بعون الله قادسية.

تحية لروح جميلة إن كانت قد فارقت الحياة, وتحية لها إن كُتبت لها النجاة. لقد جربت حضها كالرجال.  وكافحت كفاحهم في زمن القهر, وعانت من البؤس ما عانوه. انه الزمن العربي الرديء. زمن الأباطرة والسلاطين, المتطاول إلى قرننا الواحد والعشرين, إلى منطقة لم تزل استثناء.

د. هايل نصر.

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات