صراع الإخوان مع القضاء المصري
المؤسسة القضائية لا خلاف على وجوب تمتعها بالاستقلال التام عن أي توجهات أو صراعات سياسية بين الأحزاب والتيارات، وهذا ما جعل شرطاً من شروط تحقيق صفة القاضي في شخصٍ ما ..هو أنه لا ينتمي لأيٍ حزبٍ سياسي ولا أن تكون له شُبهة انتماء سياسية على الإطلاق، الهدف من ذلك هو تحقيق أقصى درجات الحيدة والنزاهة، وهي مسألة ضرورية لأي مجتمع يعيش في إطار الدولة "العادلة" التي تحقق مصالح الجميع وتحميهم من أي تجاوزٍ أو ظُلم قد يُؤدي إلى فوضى تهدم الدولة وتُشرّع لمنطق الغاب والبقاء للأقوى.
بينما جماعة الإخوان المسلمين هي جهة سياسية دعوية وليست قضائية، وهذه الصفة تُحتم على الجماعة أن لا تتدخل في شئون القضاء سواء بتكوين جماعات داخل المؤسسة القضائية موالية لها أو أن تتهم المؤسسة بالكامل بأنها ظالمة وتعمل لصالح خصومها ابتداء....وبنظرة سريعة على طريقة تعامل الإخوان مع السُلطة القضائية سنراها قد حققت كِلا التجاوزين في حق القضاء المصري، أولها هو تشكيل جماعة داخل تلك المؤسسة العريقة تعمل لصالح الجماعة وتأتمر بأمرها وتُدافع عنها وهي .."حركة قُضاة من أجل مصر"..والتي ظهرت للعيان بعد ثورة 25 يناير ولم يكن أحد يعرفها أو يفهم طبيعتها إلا بعد الانتخابات الرئاسية وفوز الدكتور محمد مرسي برئاسة الجمهورية، حينها اكتفت الحركة بالدفاع عن الرئيس الجديد وتبرير قراراته، ومؤخراً لُوحِظ تردد بعض أعضاء هذه الحركة على مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان..وهو تصرف غريب حمل في طيّاته علامة تسييس هذه الحركة لصالح أحد الفصائل والجماعات على الساحة.
بينما التجاوز الثاني كان في رفع الجماعة لشعار.."تطهير القضاء"..وهو شعار لا ينبغي أن يُرفع من خارج المؤسسة القضائية، أي يُحظر استخدامه في الصراع السياسي أو في تظلّم أحد الأطراف في المحاكم من القضايا التي تُدينه..ونحن نلحظ جميعاً بأن جماعة الإخوان ترفع هذا الشعار في حالة واحدة فقط وهو شعورها بالخطر..ويعني ذلك أن الجماعة تريد أن تتجاوز وتُخطئ ولا تريد لأحد أن يُحاسبها أو يُدينها..وهو منطق السارق بوجهٍ عام..فالسارق يكره اثنين.. الأول هو رجل الشرطة والثاني هو القاضي ،ومنطق تعامل الجماعة مع القضاء المصري يتطابق بالكامل مع منطق السارق.
بالعودة إلى الماضي سنرى أن منطق الجماعة مع القضاء لم يتغير، وأن الماضي يشرح أن صراع الإخوان مع القضاء هو قديم قِدَم الجماعة نفسها..وقد كانت أشهر معالم هذا الصراع في اغتيال أحد أعضاء الإخوان للقاضي الخازندار، وهي حادثة شهيرة حدثت في أربعينيات القرن الماضي ولا زالت نقطة سوداء في تاريخ الجماعة..ومؤخراً وبالتحديد قبل ثورة 25 يناير لم تنتهِ الجماعة عن هذا الصراع فخاصمت وهاجمت وشوّهت مجلس القضاء الأعلى والذي كانت تتهمه بموالاة الرئيس مبارك على حساب الحق والعدل..بينما كانت تنتصر لنوادي القُضاة باعتباره مؤسسة قضائية ليست تنفيذية وخارجة عن سُلطة وإرادة الدولة...ومن المُثير أن موقف الجماعة قد تغير تماماً إلى العكس بعد صعودهم للسُلطة، أي أنهم أصبحوا في عداءٍ تام مع نوادي القُضاة، وفي توافقٍ تام مع مجلس القضاء الأعلى..وهذا يُثبت أن منطقهم ورؤيتهم الآن تتطابق بالكامل مع رؤية النظام السابق لتلك المؤسسات –حسب فهمهم
بينما في كل معركة انتخابية كانت تظهر الجماعة بكيلٍ من الاتهامات والسُباب في حق العديد من القُضاة تتهمهم فيها بالتزوير لصالح خصوم الإخوان في الانتخابات، وأتذكر بالتحديد ما حدث في دائرتي..(الدقي ودمنهور)..في انتخابات مجلس النوّاب عام 2005..ففي دائرة الدقي اتهمت القاضي بالتزوير لصالح الدكتورة آمال عثمان وهي أحد رموز الحزب الوطني وإسقاط مرشح الجماعة الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل..وفي دمنهور اتهمت القاضي بالتزوير لصالح الدكتور مصطفى الفقي على حساب مرشح الجماعة الدكتور جمال حشمت.
حينها لم يخرج أحد من الجماعة ليُعلن كيفية حدوث هذا التزوير، أو بطرح ما لديه من أدلة، واكتفى بعض مؤيدي الجماعة –حينها-بطرح العديد من الشُبهات والظنون التي رافقت العملية الانتخابية وفرز الأصوات، ولكن هذا لا يكفي..فالقضاء لا يعتد بالشُبهات أو الظنون..بل في هذه المسائل لابد فيها من الدليل الراجح القاطع وإلا لن يكون للحديث عن التزوير أي معنى..علاوة على أن التزوير كما يتوهمه الإخوان وصرّحوا به مراتٍ عدة هو مفهوم في غاية السذاجة والبلاهة..فهم يفترضون أن القاضي يعادي الإخوان لذلك قرر تغيير النتيجة لصالح مرشح الوطني..هكذا وبدون طرح أي أسئلة..كيف ومتى ولماذا ومن هو...وهل يصلح هذا التغيير في حضور جماعة من القُضاة أم أن القاضي الذي يتهمونه هو من قام بفرز وحساب الأصوات بمفرده!!..وإذا كان الأخير فلماذا لا يستبدلون اتهامهم لقاضٍ واحد باتهام جماعي واسع للعديد من القُضاة؟!...أسئلة موجهة للإخوان كي يُجيبوا عنها..فهم قد اعتادوا على إطلاق الاتهامات بغض النظر عن طبيعتها وهل هي حقيقية أم لا..وإذا كانت حقيقية لماذا لم يشرحوا لمؤيديهم طبيعة هذه الاتهامات وحقيقتها والأدلة التي بحوزتهم..
لكن مع كل ذلك كانت الجماعة حينها في المعارضة، أي أن اتهامهم للقضاء حينها كان يحوز على رضا وعواطف بعض فئات الشعب، وأن منطقهم كان يشوبه بعض الحق باعتبار أن السُلطة القائمة هي سُلطة جائرة تتدخل في شئون القضاء..أما الآن فقد تغير الوضع..الآن هم في السُلطة أي أنهم مسئولون عن أي تجاوزٍ في حق القضاء باعتباره أحد المؤسسات السيادية والمستقلة للدولة، وأن لا يُكرروا نفس ما كانوا يرفضونه في السابق من تدخلٍ في شئون القضاء إذا ما سلمنا بأن النظام السياسي القديم كان يتدخل فعلاً في شئونه..ولكن كل هذا لم يؤثر في وضع الجماعة ومنطقهم في التعامل مع القضاء المصري، فهم لا زالوا يتعاملون مع القضاء ومؤسسة العدل بالكامل بنفس منطقهم عندما كانوا في المعارضة وهو..أن يشنوا عليه حملةً شعواء إذا ما شعروا بالخطر من جراء أحكامه..وأن يطالبوا باحترامه إذا ما شعروا بأن هذه الأحكام لصالحهم ولصالح السُلطة التنفيذية..
التعليقات (0)