صراع الآلهة على الأرض
بقلم : حنان بكير
قامت الحركات الإسلامية الفلسطينية بتحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية واحتلال استيطاني إلى قضية دينية ، بينما يتشبث اليهود بنفس الحق الإلهي : فهم أيضا يزعمون أن
" يهوه " قد وعدهم قبل المسلمين بأرض فلسطين.
من هنا يصعب توصيف حالة ما يجري على أرض فلسطين اليوم. هل ندعوها "بالكوميديا السوداء"؟ أم هي صراع الآلهة على الأرض! أم صراع البشر للسيطرة على السماء! هل كان ظهور الديانات في منطقتنا العربية وعلاقتها بفلسطين نقمة ووبالا علينا إلى يوم الدين؟
فكلا الجبارين المتصارعين على أرض فلسطين، هو خاسر إذا ما اعتمد الدين لتثبيت حقه وملكيته للأرض.. وما يهمني أنا بطبيعة الحال هو الجانب الفلسطيني، و أعني الحركات الإسلامية الفلسطينية، التي نقلت القضية الفلسطينية من قضية سياسية واحتلال استيطاني، وسرقة وطن بأكمله إلى قضية دينية.
فإذا كان الهدف هو استقطاب الشباب، فان الشعب الفلسطيني لم يبخل بدمه وروحه، خلال مسيرته التاريخية الطويلة، والتي سبقت ظهور الحركات الاسلامية، وقد ضمت الفصائل الفلسطينية،وخصوصا فتح كل الأطياف العقائدية، ولم تكن بحاجة إلى وعود بالجنة أو بالجواري.
أما إذا كان السبب هو مواجهة ألأيديولوجية الدينية اليهودية، بأيديولوجية دينية اسلامية، فنحن في غنى عن ذلك، إذ أننا نعتمد على حقنا التاريخي، واسرائيل تزعم أنها تعتمد على وعد الهّي يعنيهم وحدهم، ولا يلزم أي ديانة أخرى. وطالما حذر الكثيرون منا، من مخاطر أسلمة القضية الفلسطينية، وإخراجها من سياقها التاريخي والسياسي، فهي من هذا الجانب قضية خاسرة، كون الاسلام هو آخر الديانات السماويّة الثلاث ، والتي تصر على انتمائها الى ذات النبي إبراهيم الخليل، الذي تفصله عن أقرب ديانة له وهي اليهودية أكثر من سبعين سنة من الزمان! وهذا وحده مبحث مستقل قائم بذاته....
ان وجود احتلال، يقابله وجود مقاومة له، هذه بديهة تفهمها دول العالم، رغم العهر السياسي الذي تمارسه. انما أن تتحول القضية الى صراع ديني، وحول أماكن تاريخية أو دينية، فهذا ما يعطي المبرر للعالم شرعيّة التنصل من مسؤولياته، لأن الأمر حينئذ يصبح صراع آلهة وغيبيات، تتطلب تدخل أنبياء أو انتظار معجزات سماوية!
سؤال بسيط نوجهه لهؤلاء الاسلاميين: هل مقام ابراهيم الخليل أو قبر راحيل، أغلى علينا من الأرض التي يقومان عليها؟ وهل حجارة الأقصى وقبة الصخرة، والذي يجري الخلط بينهما، أقدس وأعزّ علينا من الأرض ألتي يقومان عليها؟ أنكافح من أجل الأرض أم من أجل ما عليها من قبور ومساجد؟
هل يعلم هؤلاء الذين أعمى الدين بصيرتهم، أن تاريخهم في المنطقة، أقدم من الديانات السماوية كلها؟ وأن كاهنهم وملكهم الكنعاني، في يبوس، وأسلافهم من الكنعانيين، قد عرفوا" ايل" الله، وأسكنوه في السماء البعيدة، ورفعوا القيم الأخلاقية من المستوى المادي الى المستوى المعنوي والروحي، ورأوا في الله أبا للبشر جميعا؟ وأن " ملكي صادق ملك أورشاليم، أخرج خبزا وخمرا،وكان كاهنا لله العلي، وبارك ابراهيم قائلا:"مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض" تكوين14/8.. وأن المسيح جاء على رتبة ملكي صادق، كما جاء في رسالة العبرانيين 5/6 العهد الجديد..
في ذلك الوقت، كانت الديانات الثلاث في عالم الغيب..ولكننا نتذكر أن الفتوحات الاسلامية، قد غيّرت أسماء المدن والبلاد، كونها تنتمي إلى عصر الوثنية، بينما التقط الاسرائيليون الأسماء وأحيوها، ليعطوا لأنفسهم بعدا تاريخيا في المنطقة.
الاسرائيليون استندوا في اظهار حقهم في تلك الأرض، على الوعد آلالهي باعطائهم تلك الأرض، وطرد أصحابها.. وقتل النساء والأطفال والشيوخ وحرق المدن والقرى، والاحتفاظ بالذهب والفضة لخزينة الرب..الحوار التالي، بين ناحوم غولدمان وبن غوريون، غني عن أي تعليق، وقد أورده الأول في مذكراته:
بن غوريون: شخصيا، أنا سوف أدفن في هذه الأرض، لكني لست متأكدا من أن ابني عاموس سوف يدفن هنا.
غولد مان: كيف تقول هذا؟
بن غوريون: أتساءل كل الوقت، ما هو الأساس في وجودنا هنا؟ حقنا يستند الى التوراة، أليس كذلك؟ الوعد باعطائنا هذه الأرض هو من الله، وهذا الوعد لا يلزم العرب. "الهولوكست" هي شيء آخر، في اعطائنا وطنا. والعرب يرون بأن "الهولوكست" كانت شيئا مرعبا، وبما أن الألمان مسؤولون عن "الهولوكست"، فلماذا لم يعطونا "الراين" لتكون لنا وطنا؟
أنهى غولدمان الحوار بقوله: "ليس لدي ما أقوله، غير الأمل بأن لا يكون القادة العرب يفكرون مثلك..."
نَمْ قرير العين يا ناحوم، فالقادة العرب، لم ولن يفكروا بطريقة بن غوريون.
ان قراءة، ولو سطحيّة للعهد القديم، تظهر أن لاحقّ لليهود، يستندون اليه الاّ الوعد آلالهي الغيبيّ. فكلمة غرباء، وأرض غربتكم، أنت غريب... ظاهرة في مواقع كثيرة، حين يخاطب يهوه، شعبه المختار! وهاك بعض الأمثلة:
قال الرب لأبرام (إذهب من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك، الى الأرض التي أريك.. فذهب أبرام كما قال له الرب، فأتوا الى أرض كنعان.. وظهر الرب لأبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض) تكوين 12/1
ويقول العهد القديم (وتغرّب ابراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة) تكوين 21/34. الحقيقة أن المعتقد الديني لفئة ما، لا يلزم الآخرين، وآلانطلاق من مسلمات دينية لطرف، لا تعني أي طرف آخر.
والواقع أن القبائل العبرية، هي قبائل بدو رحّل، شأنها في ذلك، شأن القبائل العربية في تلك المرحلة، وتحديدا في الجزيرة العربية.حيث عاشت القبائل العبرية الى جانب العرب، بما هم شعوب سامية، تنتمي لعرق وأساس واحد.
(وكان في آلأرض جوع. فذهب اسحق بن ابراهيم الى أبي مالك، ملك الفلسطينيين. فظهر له الرب وقال.. تغرب في هذه الأرض، لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد، وأفي بالقسم الذي أقسمت لابراهيم أبيك ) تكوين26/1. ثم ظهر الرب ليعقوب" اسرائيل" وقال (أنا يهوه، اله ابراهيم أبيك واله اسحق، ألأرض ألتي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك) تكوين28/13.
أخذ يعقوب بالخديعة، بركة أبيه اسحق، ألذي أوصاه أن لا يأخذ زوجة من بنات كنعان، وأوصاه بالذهاب الى فدان أرام (في بلاد ما بين النهرين) ليتخذ له زوجة من بنات "لابان" أخي أمه. فذهب يعقوب الى بلاد ما بين النهرين، ورعى غنم خاله لابان، وتزوج من راحيل و ليئه، ابنتي خاله ومن جاريتيهما، فولدن له اثني عشر ابنا، شكلوا فيما بعد أسباط اسرائيل. ثم قام يعقوب، وحمل أولاده ونساءه على الجمال، وساق مواشيه التي اقتنى في فدان أرام، ليجيء الى أسحق أبيه الى أرض كنعان) تكوين 37/17.
(وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه، في أرض كنعان) تكوين 37/1..
عندما ماتت ساره، قال ابراهيم لبني حث (أنا غريب ونزيل عندكم أعطوني ملك قبر لأدفن ميّتي، فقالوا له: في أفضل قبورنا تدفن ميتك، غير أن ابراهيم، طلب مغارة المكفيلة بثمن، فأجابه صاحبها، عفرون بن صوحر: الحقل وهبتك ايّاه، والمغارة التي فيه لك وهبتها) تكوين23/11.
أما عن رحلة العبرانيين من مصر أيام موسى (... وبكى الشعب تلك الليلة. وتذمر على موسى وعلى هارون، جميع بني إسرائيل. وقالوا ليتنا متنا في أرض مصر... ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف.. أليس خيرا لنا أن نرجع الى مصر) عدد 14/1.
وفي وصية ابراهيم لعبده (لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن في أرضهم. بل الى أرضي والى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني اسحق) تكوين 24/1. فأرض ابراهيم وعشيرته كانت في أور، في بلاد ما بين النهرين. أما أرض فلسطين، فقد كانوا على أمل استملاكها بموجب وثيقة أو عهد من يهوه. خاطب يهوه ابراهيم (أعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان) تكوين17/8. ( وتغرب ابراهيم في أرض الفلسطينيين) تكوين 21/34.
ان ذكر فلسطين، تكرر في التوراة ، في مواقع كثيرة ، الى جانب اسم أرض كنعان! عاشت القبائل العبرية وسط الفلسطينيين، ولم تخلو لهم البلاد وحدهم، لكنهم عاشوا "غرباء". .(فسكن بنو اسرائيل في وسط الكنعانيين والحيثيين واليبوسيين) قضاة 13/5.. و(عبدوا البعليم والعشتاروت وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وبني عمون وآلهة الفلسطينيين) قضاة 10/6..
ما يدحض آلادعاء الإسرائيلي، بحق اليهود في أرض فلسطين، هو كثرة عروض الأمكنة التي طرحتها ألحركة الصهيونية، لإقامة دولتهم العتيدة، اذ كان الهدف هو تجميع اليهود في دولة واحدة. فهذا "اسرائيل زانغويل" يقول: "لا توجد بقعة من ألأرض لم تفكر فيها المنظمة اليهودية للأراضي.. بول فريدمان اقترح مدين عسير في السعودية.. البارون دي هرش اقترح الأرجنتين.. أما ماكس بودنهايمر فقد اقترح البقاع في لبنان.. واقترح هنري دي أفيغدور، حوران في سورية.. وديفيد هيرش اقترح قبرص... أما اسرائيل زانغويل نفسه فقد اقترح ليبيا.. ماكس توردو أراد الدولة في أستراليا.. سمو لنكن، اقترح المكسيك.. ومن الأمكنة المقترحة أيضا.. العريش، سيناء، أوغندا، موزمبيق ، ألكنغو، العراق، أنغولا ، كندا، الولايات المتحدة الأمريكية.."
يؤشر هذا على أن أي مكان، من هذه الأمكنة، كان سيتم اختياره، لن يعجز الحركة الصهيونية، عن فبركة تاريخ ملفق يربطها به. وارتكاب المجازر لإرغام السكان الأصليين على المغادرة، أي اعتماد التطهير العرقي، وهذا مجلس اللوردات ألانكليزي، أصدر عام 1944، وثيقة جاء فيها "على العرب أن يرحلوا من فلسطين. إذ لهم أوطان سواها، وإلا تعرضوا لمنهج الإبادة" هذا المجلس الذي وصف أمس شعبه بالكلاب، وبالمفاضلة فان الكلاب أفضل كونها مخلصة!!
بقي أن نشير إلى الفرق في استعمال الدين لدى الحركات الإسلامية والحركات اليهودية.. الحركة الصهيونية، حركة علمانية خالصة، لكنها اتخذت الدين مطية، لهدف سياسي، بينما كانت تسعى ونجحت في إقامة دولة مدنية حديثة، بمعنى أن الأمور لم تفلت من يدها.. وقد استملت الدين عن وعي وإدراك للطريق الذي تسير فيه.... وعلى النقيض، كان دور الحركات الإسلامية.. فإذا كانت تحذو حذو الحركة الصهيونية، فقد فشلت، بسبب انفلات زمام الأمور من يدها وقادت المجتمع الفلسطيني، ليس كله، إلى حالة من التخلف، والتكفير، ومحاربة حتى الموسيقى والفنون وكل ما هو جميل في الحياة.. أما إذا كان الهدف هو إقامة إمارة إسلامية، تكون نواة للحلم الذي يداعب خيالات حركة الإخوان المسلمين، وهو إعادة الخلافة الإسلامية، فعليها إذن أن لا تتاجر بالقضية الفلسطينية، وبدماء الفلسطينيين..
albakir8@hotmail.com
التعليقات (0)