مواضيع اليوم

صدر حديثا لممدوح الشيخ

ممدوح الشيخ

2009-06-02 12:27:37

0


صدر حديثا لممدوح الشيخ
عبد الوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية الإسلامية

 

غلاف كتاب المسيري من المادية إلى الإنسانية الإسلامية

 

 

 

 

يستهل الكاتب ممدوح الشيخ مقدمة كتابه بالقول إن الكتابة عن الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري مهمة صعبة أولا لأنه عالم شديد الاتساع والثراء حتى أنه يكاد يكون صاحب مشروع متكامل لإعادة تأسيس العلوم الإنسانية وفق رؤية عربية إسلامية (إنسانية) بعيدا عن تراثها الضخم الواقع في أسر المركزية الغربية، أو بتعبير آخر تأسيس "حداثة إسلامية". وقد كانت الحصيلة إنتاجا كبيرا يجمع بين الغزارة والعمق والتنوع: دراسات في الظاهرة الصهيونية وأعمال في النقد الأدبي والأدب الإنجليزي والعلمانية والتحيز ومناهج البحث، وأعمال إبداعية: دوواين شعر وقصص أطفال و.. .. ..
كما أن المسيري – من زاوية ثالثة – مثل اللؤلؤة ذات الأوجه المتعددة، فهو في مرحلة من حياته كان ماركسيا ماديا وفي مرحلة تاليا إسلاميا (إنسانيا)، وهو في مرحلة كان أكاديميا تخصصه الأدب الإنجليزي وهمه الأساسي "التعليم"، ثم استقال للتفرغ للكتابة وبشكل أساسي في دراسة الظاهرة الصهيونية، وفي الوقت نفسه محجما بشكل طوعي عن العمل العام ليخرج على قرائه كان مفكرا موسوعيا ربما لم تشهد الثقافة العربية الإسلامية قامة تطاوله من زمن بعيد، لكنه لم يتوقف عن التغير، فأصبح في مرحلة تالية صاحب مساهمات سياسية مهمة.
ورغم أن عبد الوهاب المسيري يمثل حالة من حالات مراجعة فكرية مماثلة شهدها الواقع الثقافي المصري خلال سنوات السبعينات والثمانينات بشكل متزامن تقربيا (المستشار طارق البشري – الراحل الأستاذ عادل حسين رحمه الله – الدكتور محمد عمارة – الراحل الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله – الأستاذ خالد محمد خالد رحمه الله – الأستاذة صافي ناز كاظم.. ..) فإن المسيري ينفرد عن هؤلاء جميعا بأهمية معرفية استثنائية.
فالمراجعة الفكرية في حياة الدكتور عبد الوهاب المسيري لم تكن رد فعل لنكسة يونيو 1967 التي لعبت دورا مهما في دفع عديد من المثقفين المصريين لمراجعة قناعاتهم الفكرية تحت ضغط الفشل العسكري المريع الذي جعل مشروع مضاهاة تجربة التنوير الأوروبي محل شك كبير، وبالتالي اندفع كثيرون للبحث عن أسباب الإخفاق في عالم القناعات النظرية لا في عالم الوقائع المباشرة المتعينة ومنطق الأرقام وموازين القوى. والمسيري لم يدخل مرحلة المراجعة بحثا عما يمكن أن يحرك الشارع – كما فعل سياسيون نفعيون نظروا للهوية الإسلامية كورقة رابحة – بل دخل هذه المرحلة من باب التساؤلات الكونية والتأمل في قضايا شديدة العمق وفي مواجهة أسئلة تبلغ الغاية في التركيب والتعقيد.
ومما يضاعف صعوبة الكتابة عن المسيري أيضا أن كتابته التي تجمع بين الضخامة والعمق توالت خلال سنوات قليلة تبدأ قبل صدور موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية" بقليل حيث ظل الرجل يراكم المشروعات ثم خرج على القارئ خلال هذه السنوات القليلة بعدد كبير من المؤلفات خلال سنوات محدودة، وبالتالي فإن هذه الأعمال لم تأخذ من الوقت ما يكفي لأن تكون موضوع جدل ومحل تقييم وتحليل بحيث يكون هناك قراءات مختلفة لمشروعه الفكري، وهي صعوبة أدركناها بشكل عملي عند شروعنا في الكتابة.
وقد أثمر المشروع الفكري للمفكر العربي الإسلامي الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري ثمرة أخرى مهمة ومختلفة نوعيا، فالرجل بعد ما يزيد عن ربع قرن الصارمة التي فرضها على نفسه طوعيا لينجز مشروعه الرئيس موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" قرر أن يخوض غمار العمل السياسي المباشر عضوا مؤسسا في حزب الوسط المصري (تحت التأسيس)، ثم ناشطا في عدد من الفعاليات السياسية توجت باختياره منسقا عاما لـ "الحركة المصرية للتغيير" (كفاية).
والصعوبة الأخيرة في الكتابة عن المسيري إنسانية/ شخصية فقد ارتبط المؤلف بالدكتور المسيري بعلاقة شخصية وثيقة لكن المؤلف – حسب المقدمة – اتخذ موقع الناقد لأفكار المسيري في حياته في مواقف كثيرة تكشفت بسببها مساحات الخلاف في موضوعات عديدة معرفية وسياسية.
الباب الأول عنوانه "المسيري الإنسان"، وفي الفصل الأول منه "التكوين" يتناول الكاتب حياة المسيري الذي ولد في الثامن من أكتوبر عام 1938 في مدينة دمنهور المصرية وفي العام 1955 التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وفي العام 1959 تخرج وعيِّن معيدا، وفي عام 1963 سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كولومبيا، ثم التحق بجامعة رتجرز وحصل منها على درجة الدكتوراه عام 1969. وفي العام نفسه عاد الدكتور عبد الوهاب المسيري إلى مصر عضوا بهيئة التدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس.
وفي العام 1970 عُيِّن الدكتور المسيري مستشارا لوزير الإرشاد القومي وهي وزارة استحدثها ضباط يوليو، وكان وزير الإرشاد آنذاك الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل الذي ربطت بينه وبين الدكتور المسيري علاقة شديدة الأهمية. وقد شهد العام 1972 صدور كتاب "نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني" الذي يصفه المسيري بأنه أول مؤلفاته الحقيقية. وأصدر المسيري أول مؤلفاته الموسوعية عام 1975: "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية"، وفي العام نفسه عاد إلى أمريكا وخلال هذه الفترة التي امتدت حتى عام 1979 عمل المسيري مستشارا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة.
وبعودته إلى مصر عام 1979 عاد المسيري للتدريس بكلية البنات بجامعة عين شمس قبل أن ينتقل إلى السعودية ثم إلى الكويت للتدريس، وفي العام 1990 انتهت علاقة الدكتور المسيري بالتدريس فاستقال وتفرغ للكتابة، وقد بدأت مؤلفاته تتوالى بدءا من عام 1996 بصدور كتابه: "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: رؤية حضارية جديدة"، ثم صدرت الموسوعة عام 1999. وفي يناير 2007 تولى الدكتور المسيري منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) وهي الحركة المعارضة لحكم الرئيس حسني مبارك وتسعى لاسقاطه من الحكم بالطرق السلمية ومعارضة تولي ابنه جمال مبارك منصب رئيس الجمهورية من بعده.
وتعكس السيرة الذاتية للمسيري اعتزازه بأصوله واهتمامه بقضية الهوية بمعنييها الذاتي والعام، وهو يكشف عن أنه مبكرا بحث عن أصل عائلته. وقد نشأ المسيري في رحاب أسرة تجارية ثرية ليس عندها اهتمام كبير بالثقافة، وكانت زيارته الأولى لمكتبة البلدية في دمنهور نقطة تحول في حياته.
وفي أمريكا بدأ عبد الوهاب المسيري يتحول من الاهتمام بدراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الظاهرة الصهيونية التي طرحت عليه، شأنه شأن أي عربي يجد نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويصف المسيري هذا التحول قائلا: "فكتبت للملحق الثقافي في السفارة المصرية في هذا الوقت (عام 1965) لتغيير موضوع بعثتي من دراسة الأدب الإنجليزي إلى دراسة الصهيونية والعبرية، لكنه أبلغني أنه من الصعب ذلك، فأكملت الدراسة حتى التقيت بالدكتور أسامة الباز المستشار السياسي في أمريكا فوجد لدي شيئا مختلفا في رؤية وفهم الصهيونية وإسرائيل فشجعني على التخصص في الصهيونية. وصدر لي في عام 65 كتيب صغير عن الصهيونية باللغة الإنجليزية يسمى إسرائيل: (قاعدة للاستعمار الغربي). وحينما عدت إلى مصر واصلت المسيرة. فكتبت دراسة بعنوان "نهاية التاريخ" حررها الدكتور أسامة الباز وصمم غلافها بنفسه فهو يهوى الخط العربي. ثم قدمني الدكتور أسامة للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي قرأ المخطوطة، وعينني باحثا بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وقام بإرسالي إلى الولايات المتحدة وأعطاني مبلغا ضخما لشراء مجموعة كتب كانت بمثابة نواة لمكتبة مركز الدراسات"
وقد كشفت تجربة المسيري حجم معاناة المثقف العربي وضآلة المردود المادي لهذا العمل الراقي، فحينما انتهي من كتابة الموسوعة كان خالي الوفاض تماما فقدم طلبا للحكومة المصرية ليعالج على حساب الدولة وفي النهاية علم مكتب الأمير عبد العزيز بن فهد بالموضوع، فتكفل بتكاليف العلاج. وقد توفي الدكتور عبد الوهاب المسيري عن سبعين عاما في الثالث من يوليو 2008.
الفصل الثاني "التحولات" ويتناول فيه الكاتب "المراجعة الفكرية" عبر تمهيد يتناول مفهوم المراجعة ومناخها في السبعينات والثمانينات. ويشكل التحول الفكري في حياة عبد الوهاب المسيري معلما مهما، فهو عرف كماركسي سابق لكن الجديد أنه قبل انتمائه الماركسي ولفترة قصيرة انضم لجماعة الإخوان المسلمين، وبعد يوليو 52 انضم لهيئة التحرير وترجم كتاب ماوتسي تونغ عن التناقض، وكانت أول ترجمة عربية لهذا الكتاب المهم.
ومن الطريف أن المسيري بدأ إعادة اكتشاف الإسلام وهو في الغرب ومما يرويه المسيري عن هذه الفترة أن من الأمور التي لاحظها بشكل مباشر أنه اكتشف خلال إقامته بأمريكا كان كل أصدقائه من أصل: إما كاثوليكي وإما يهودي وبدأت هذه المسألة تحيره لأنه حسب قوله حرفيا: "تعلمت في الدروس الماركسية التي لقنتها أن الدين إن هو إلا أفيون الشعوب، وجزء من بناء فوقي يمكن رده للبناء التحتي. ومع هذا فإنه لا يصلح أساسا صلبا للتصنيف وللإدراك (فالأساس الحقيقي الوحيد للتصنيف – كما تعلمنا – هو الاقتصادي). ومع هذا لا حظت أن المكون الديني هو الطريقة الوحيدة لتفسير انجذابي للكاثوليك".
وهو يلخص هذا التحول قائلا: "خلاصة الأمر أنني اكتشفت أن الدين كمقولة تحليلية وليس مجرد جزء (غير حقيقي) من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته، ويمكن تفسيره (كشفه – فضحه) في إطار العناصر الاقتصاية، وأن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من الكيان والهوية. وهكذا اهتزت معادلة أن البناء الفوقي (إن هو إلا تعبير عن البناء التحتي) .. .. ..كنت قد بدأت أشعر بأن مقولة الدين ذات فعالية في الواقع المادي الصلب وليست جزءا مغلقا من عالم الغيب، أي أن الدين أصبح تدريجيا في تصوري جزءا من الكيان التاريخي الإنساني ليس منفصلا عنه. ولذا، بدأت أتعرف على التجربة الدينية الإسلامية لأفهم منطقها الداخلي".
في الفصل الثالث "نظرة على المسيرة والمراجعات" يطرح ممدوح الشيخ رؤيته لتجربة عند المراجعة عند المسيري من خلال قراءة نقدية.
الباب الثاني عنوانه "عبد الوهاب المسيري ناقدا أدبيا" ويبدأه بفصل عنوانه: "الملامح العامة لرؤيته النقدية"، أما الفصل الثاني فعنوانه: "عبد الوهاب المسيري ناقدا للتفكيكية، يليه فصل عنوانه: نموذج من النقد التطبيقي: المسيري وشعر المقاومة الفلسطيني".
الباب الثالث خصصه ممدوح الشيخ لقضايا المنهج في فكر المسيري (التحيز والموضوعية والنماذج الإدراكية)، الفصل الأول من الباب عنوانه: "الرؤية العامة لقضايا المنهج في فكر المسيري"، وهو يمهد بقول المسيري عن نفسه: "لاحظت أنني لست مهتماً بالفلسفة، وإنما مهتم بتاريخ الأفكار".
وعلى مفترق العلاقة بين المعرفة والهوية كانت قضية المنهج واسطة العقد، وإذا كان الاشتغال بنقد الحضارة الغربية على مستوى الفكر النظري وكذلك التاريخ السياسي، أمـراً قد أخذه عدد غير يسير من المفكرين والباحثين مأخذ جد وهي قضية يمليها الواجب التاريخي والحضاري، فإنه ليس من السهل أن يتغلغل الباحث إلى أعماق هذه الحضارة بحمولتها الفلسفية متجردا من التحيزات التي فرضتها المناهج العلمية الغربية، فقد أحكمت هذه المناهج قبضتها على المعارف الإنسانية المعاصرة، حتى أصبحت العملية الإبداعية أمرا مستحيلا ما لم يسْعَ الباحث أولا كشف هذه التحيزات.
ومن ثَـمَّ، تكمن أهمية ما يقدمه الدكتور عبد الوهـاب المسيري. فهو يستند في نقده للخطاب الغربي إلى أدوات تحليلية مقاومة ومؤسسة في الوقت نفسه لمسار جديد في الخطاب المعرفي الإسلامي المعاصر، يضمن للمناهج العلمية الإسلامية استقلالا من القفص الحديدي الأكاديمي الغربي وتحررا منه؛ وهذا لا يعني قطيعة معرفية مطلقة مع ما أنتجته الحضارة الغربية، بل يُعَدُّ من قبيل الاستيعاب والتجاوز.
وتعد موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد من أهم الأعمال التي قدمها المسيري وأبرزهـا. ولا تكمن أهميتها في كَـمّ المعلومـات المُقـَدَّمة فقط – وإن كان هو نفسُه يقلل من أهمية هذا البعد – بل تتعداها أيضا إلى النموذج التفسيري التي تقدمه بالاستناد إلى آليات تحليلية ونماذج تفسيرية متميزة. وتتسمم الأبحاث والدراسات في مجال العلوم الإنسانية باحتوائها العديد من المفاهيم والمصطلحات، والتي يسعى الباحث من خلالها إلى تفسير الظاهرة الإنسانية موضوع الدراسة. بيْد أن عملية التفسير – هذه – لا تستقيم دون تحديد وإيضاح معاني ودلالات هذه المفاهيم قبل الخوض في دراستها ونقدها. فالمفاهيم والمصطلحات تساعد في فهم وتفسير الظواهر بقدر ما توقع في الوهم والغموض الشديدين إذا ما تجاهل الدارس أو الباحث تحديد دلالات هذه المفاهيم.
ويبدو أن هذه الرؤية المنهجية قد تعمقت بشكل كبير عند عبد الوهاب المسيري، فكانت إسهاماته الأساسية في مجالات الفكر العربي تكمن أساسا في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدواتٍ تحليليةً، وهي إضافة منهجية ونوعية أنتجت عملا فكريا متكاملا في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وفي أعمال أخرى تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو "يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطا مركبا عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة وفي العلمانية كنموذج معرفي وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد... وأخيرا يكتب كتب متميزة للأطفال تنال جوائز، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة".
ويعد مفهوم النموذج التفسيري عند عبد الوهاب المسيري أهم مفاتيح فكره في قضية المنهج وهو يعرف النموذج التفسيري، والنموذج التفسيري يتأسس وَفْقـًا لعمليات التجريد والتنسيق وهي عمليات تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي، ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بدون أدنى عمليات التنسيق والربط. بل، إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع. وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين: مرحلة الوصف، وتتحقق عبر تفكيك الظاهرة إلى مفاهيمها الأساسية. ثم، مرحلة التركيب، أي تركيب المفاهيم وكشف متغيرات الظاهرة وتفاعلاتها عبر الزمن. وتكون بذلك خلاصة هذه العملية اكتشاف النموذج الأكثر قدرة على التفسير.
ويرى باحثون كثيرون أن عبد الوهاب المسيري استطاع أن يتخلص من القبضة الحديدية التي تفرضها النماذج المعرفية الغربية، بسماتها التفكيكية المعلوماتية المتحيزة، وأن يخلق إطارا معرفيا يرتبط بالحقل التداولي العربي المتجاوز، تتم من خلاله عملية اكتشاف الذات والآخر معا، الأمر الذي دفع بمؤرخ غربي بارز هو كافين رايلي إلى أن يصف المسيري بأنه "مفكر عربي في سياق عالمي".
ويتأسس مفهوم النماذج التفسيرية، عند المسيري على بناء ثلاثي الأبعاد: العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية والجماعات الوظيفية. وعملية الفصل بينها عند دراستها لا تعني انفصالها، وإنما الضرورة المنهجية هي التي تفضي إلى ذلك. فالنماذج الثلاثة متصلة ومتداخلة، كما أن عملية التحليل والتركيب التي يقدمها هذا الإطار المعرفي عملية في حالة تفاعل مستمر، فهي تتطور من خلال اكتشاف كل جديد أو إضافة للظاهرة موضع الدراسة، وهو ما يعني أن النموذج ليس ثابتا وإنما هو في حالة حركة مستمرة، وبذلك فان عملية ضبط النموذج في حالة تاريخية معينة تعني اغتياله.
الفصل الثاني عنوانه: عبد الوهاب المسيري وقضية الموضوعية والتحيز، وفيه يؤكد ممدوح الشيخ أن قضية المنهج لا تنفصل عند عبد الوهاب المسيري عن قضية المصطلح والانحيازات المسبقة التي تنطوي عليها المصطلحات وقد كان أول مصطلح "يقهر" عبد الوهاب المسيري مبكرا مصطلح "الوحدة العضوية" في النقد الأدبي فقد كان في صباه معجباً للغاية بالشعر الجاهلي، وبخاصة مسألة الوقوف على الأطلال، وكان يراها تعبيرا عن الوفاء الإنساني، وعن صمود الإنسان في مواجهة الطبيعة ولكن مع الأسف كان الجميع يهاجم هذا التقليد الشعري الجميل، وحين ذهب للجامعة بدأ يسمع عن الوحدة العضوية. وفي الستينات كان الجميع يتحدث عن الوحدة العضوية والتحام الشكل بالمضمون وعن المعادل الموضوعي، وهو ما يعني أن كثيراً من الأعمال الفنية العربية والإسلامية، التي أحبها، تعاني من انعدام الوحدة العضوية! فبدأ يبحث عن منهج آخر وبدأ في تطوير ما يسميه "مفاهيم للوحدة الفنية" مختلفة.
ولبداية المسيري بشكل منظم سياقان: وجداني إيماني تمثَّل في تغير الرؤية الدينية والفكرية صاحبه تغير في فسفة المنهج وأدواته، فمن المستحيل أن يتم أحدهما دون الآخر.
ويعتبر المسيري أن الحدث الفكري المفصلي في حياته كان كما يروي هو شخصيا عندما حاول تعريف الصهيونية، يقول المسيري: "لكن أهم الوقائع في حياتي الفكرية، هي محاولة تعريف الصهيونية. إن فتحت أي معجم عربي أو صهيوني، وإن طالعت أي موسوعة علمية أو غير علمية، غربية أو صهيونية، لوجدت أن هذه المعاجم والموسوعات تعرّف الصهيونية بأنها "القومية اليهودية" و"عودة اليهود إلى أرض الأجداد أو أرض الميعاد"، إلى آخر هذه التعريفات التي أعرف جيدا أنها عبارة عن أكاذيب، فتساءلت هل الموضوعية تتطلب أن أقبل هذه التعريفات؟ وهل إن رفضتها أصبح ذاتيا؟ وهناك تساءلت: كيف أخرج من هذا المأزق، فكل من حولي يتحدث عن الموضوعية والحياد وضرورة الالتزام بهما والابتعاد عن الذاتية".
ويعلق ممدوح الشيخ على رؤية المسيري في هذا الشأن قائلا: "لا نبالغ إذا قلنا إن دراسات عبد الوهاب المسيري حول التحيز والمصطلح من منظور إسلامي كانت أشبه بحجر كبير ألقي في بحيرة راكدة، فقد فتحت كتاباته الباب أمام موجة لم تنقطع من الدراسات حول هذه القضية المنهجية المهمة، وهو استمرار أكثر عمقا لمحاولات سابقة قام بها مفكرون إسلاميون لكشف الخلفيات الحضارية لحصيلة العلوم الإنسانية الغربية التي اجتاحت العقل الإسلامي في حقبة ما بعد التحرر الوطني الذي بقي ناقصا لأنه لم يؤسس لتحرر من التبعية الثقافية للغرب".
الفصل الثالث في هذا الباب عنوانه: "الخريطة الإدراكية والنماذج: (نموذج العلمانية الشاملة مثالا)، أما الباب الأخير من الكتاب: "المشروع الفكري لعبد الوهاب المسيري"، فيتضمن فصلا عنوانه: "الإطار العام والملامح الرئيسة"، وآخر عنوانه: "عبد الوهاب المسيريفي سياق الفكر الإسلامي".


الكتاب: عبد الوهاب المسيري: من المادية إلى الإنسانية الإسلامية
المؤلف: ممدوح الشيخ
الحجم: 286 صفحة من القطع المتوسط
الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي
سلسلة: أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي – العدد 7
مكان النشر: بيروت - لبنان
سنة النشر: الطبعة الأولى 2008


نقلا عن جريدة الراية القطرية




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !