لو افترضنا جدلا ان احداً ما..اتاه الله بسطة من العلم والمعرفة..والرغبة في تلقط هوية فكرية محددة ومقننة للتشكيل البعثي ..فأن تلك الهوية الملتقطة لن تتجاوز الاسلوب المتفرد والتمكن العالي في التلبس المنتحل للافكار والانتماءات الايديولوجية المستعارة باعتبارها احداث تاريخية مشاعة حسب المعطيات الآنية واللحظوية..واخضاعها القصدي للاشتراطات النفعية والقابلة للانتاج المستمر والتدوير..وتسويقها كشعار سياسى/ أيديولوجى محصن بدفاعات معنوية يراد لها ان تبدو محملة بشحنات اخلاقية ..مستمدة من ادعاءات القيمة العليا المطلقة للهوية المستهدفة ..
وعلى نفس الاسلوب جاءت الممارسة المرتقبة والمتاخرة جدا عن زمنها باعلان النية لاطلاق قناة فضائية خاصة برئيس النظام السابق صدام حسين..تحمل اسمه وتستهدف كونها"منبر اعلامي يعبر عن فكر صدام حسين وتكشف ابعاده وتبلوره امام الجماهير التي امنت به، واعلنت انها متمسكة بالسير على هداه وفي طريقه وعلى ضوء مبادئه"..
ولكون هذا التوجه يدخل ضمن حرية الراي والتعبير..وباعتبار ان للسفه مجالات كثيرة للتشكل والبروز وبمختلف الصور..فلن يكون من المفيد هنا التوقف كثيرا امام توجه يحمل عوامل فناءه واضمحلاله الحتمي في بيان ولادته..ولكننا قد لا نمتلك ترف تجاهل العبارة الاخرى التي تصف القناة بانها"ذات توجه اسلامي"..
فمن المعروف ان البعث غالبا ما كان يستهدف الفضاء الخارجي في طروحاته الفكرية والاعلامية..متجاهلا الرأي العام الداخلي لانتفاءه وخفة وزنه كقيمة وقوة متقاطعة مع آلة قمعية مدمرة تتفوق عليه بمراحل .. وكمعارضة مبوبة سلفاً ضمن الفئات المخونة والمغرر بها وإلى غير ذلك من الاتهامات الجاهزة والتى تشكل جزءا لا يتجزأ من واقع الإنتاج الاعلامي والثقافى البعثي..
ولكن استمرار هذا التوجه –راهنا وبعد الذي كان – يشير بوضوح الى عمق المازق الفكري المأزوم بفقدان الشعور بمعطيات الزمان والمكان وحركة التاريخ الذي يعيشه ما تبقى من البعث وانفصال قياداته عن الواقع بصورة مثيرة للرثاء..
فمشكلة هذه القيادات لا تقتصر على الغفلة عن فقدان مصطلح "الاسلمة" للوهج السحري الذي كان يضفيه على الاشياء بسبب ممارسات لا تبتعد عن مجال نشاط امثال تلك القيادات نفسها..بل من حالة التضليل الذاتي وخداع النفس المغرق في الاستنزاف المسرف للجهود والثروات الذي ما زالت تنعم به الجهات المتصدية لمثل هذه الممارسات..وخصوصا ان للبعث موقفا معلنا مناهضا للاسلام عبر عنه مرارا في ادبيات الحزب المسكنة في منزلة المقدس لدى الرفاق..والتي لن يكون من السهل تجاوزها حتى لو اعلن ميشيل عفلق اسلامه "بقرار"وحتى لوكان اعدام صدام حسين تم في صبيحة عيد الاضحى..
فلو وضعنا جانباً القمع المنظم والروتيني والرتيب حد الملل لكل الحركات الاسلامية في العراق طوال سنين حكم البعث..ولو تجاوزنا عن الوقائع المغرقة في التناقض مع كل ما هو ديني في ممارسات رموز وعناوين النظام المهمة والمؤثرة والمفصلية ضمن ما كان يدعى حياة سياسية في تلك الفترة..فاننا نجد في بعض الطروحات الفكرية لـ"منظري" الحزب تناقضا واضحا مع الاسلمة والحكم الديني بما يدمغ اي محاولة لاضفاء سيماء الخشوع والتقوى على البعث بطابع التدليس الاقرب الى السخرية من الذات..
فنرى ان "احمد"ميشيل عفلق يتكلم في مقاله "معالم الاشتراكية العربية" عن "إن النظريات الاشتراكية لا تعترف بالوطن، منفصلة عن كل رابطة تاريخية واجتماعية، متمردة على الدين السائد، والأخلاق المعروفة، بالجملة كانت ثورية إلى أبعد حد ... واليوم المحرك الأساسي للعرب، التي هي كلمة السر، التي تستطيع وحدها أن تحرك أوتار قلوبهم، وتنفذ إلى أعماق نفوسهم، وتتجاوب مع حاجاتهم الحقيقية الأصيلة .. لا يمكنهم أن يفهموا لغة غير لغة القومية"
اما التقرير السياسي للمؤتمر القطري التاسع لحزب البعث-1982-وهو النص الرسمي المعبر عن توجهات الحزب واطاره النظري..فيعبر بوضوح:"أن الظاهرة الدينية ظاهرة انقسامية، وليس توحيدية للشعب العربي، في حين أن حركة القومية العربية أثبتت قدرتها، في الخمسينات والستينات، على حشد كل الشعب العربي، بكل أديانه وطوائفه في النضال، ضد القوى والدوائر الاستعمارية، في بلدان العالم الثالث، والمصالح الاستعمارية، والأخطار الصهيونية. كذلك، فإن الظاهرة الدينية في العصر الراهن، ظاهرة سلفية ومتخلفة في النظرة وفي الممارسة، وهي تأتى في عصر سمته الأساسية، وشروط التقدم والقوة فيه، هي العلم والتكنولوجيا، وخلق الثروة واستخدامها استخداما كاملا، وتوزيعها على أسس عادلة"
ويضيف:" إن النضال ضد انحرافات الظاهرة الدينية، هو اليوم في مقدمة المهمات، التي يتعين على حركة الثورة العربية خوضها، وإن الذي لا يدرك هذه المهمة، إما سطحي وعاجز عن التحليل العميق للأمور، وبالتالي لا يصلح للقيادة، أو مشبوه ومتآمر، يريد تقويض الكيانات العربية، وتقسيمها بين الكتل الدولية. لذلك، وقياساً على هذه الحالة، وحالات أخرى، قد يصلح التيار الديني في حالة، أو حالات خاصة، لإسقاط الأنظمة المعادية للشعوب، ولكنه لا يصلح في قيادة الشعب، من خلال ناحية السلطة السياسية، وفي إدارة شؤون البلاد، وبخاصة عندما ينفرد بالسلطة ويفرض سيطرته، بالقوة والإرهاب"
وفي موضع آخر ": إذا كانت مفاهيم وممارسات التدين، قد اعتبرت من قبل بعض الرفاق، بديلاً أخلاقياً أو عقائدياً عن حزب البعث العربي الاشتراكي، وسبيلاً لحل المسائل الجوهرية في الحياة، فلماذا اختاروا حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ولماذا بعد أن قطعوا شوطاً طويلاً في الحزب، يريدون فرضها عليه، أو إشاعتها فيه، من دون أن يكون لذلك أساس في عقيدة الحزب، وفي تقاليده".
اما صَدّام حسين، فيقول في )نظرة في الدين والتراث":(عندما نتحدث عن الدين والتراث، يجب أن نفهم أن فلسفتنا ليست التراث ولا الدين بحد ذاتهما، إن فلسفتنا ما تعبر عنه منطلقاتنا الفكرية، وسياستنا المتصلة بها، وأن من الأمور المركزية في مجتمعنا، والمؤثرة في خلقنا وتراثنا وتقاليدنا، هو الماضي بكل ما يحمل من عوامل الحياة وتقاليدها، وقوانينها، وكذلك الدين، ولكن عقيدتنا ليست حصيلة كل ما يحمله الماضي والدين، وإنما هو نظرة شمولية متطورة للحياة، وحل شمولي لاختناقاتها وعقدها، لدفعها إلى أمام على طريق التطور الثوري، إن حزبنا ليس حزباً دينياً، ولا ينبغي أن يكون كذلك "
وقد اعترف الدكتور سامي الجندي، في كتابه "البعث"، بتلك الحقيقة، حيث قال:
"لقد ألحدنا بكل الطقوس والعلاقات والأديان، بحثا عن المعركة في كل مكان. كان في حكامنا عنف كثير، يضللنا في كثير من التفاصيل، مطلقة نرى الجهل والغفلة خيانة، مادامت نتائجها متساوية. اُتهمنا بالإلحاد، وكان ذلك صحيحاً أيضاً، رغم كل ما زعم البعثيون فيما بعد من مزاعم التبرير، نؤمن بالشعور الديني، بصوفية الأديان ونزعتها الكلية للإنسانية، أما دين الآخرين فقد كنا ضده، وعندما أصبح لدى حزب البعث العربي الاشتراكي فعالية في الحكم، أخذ ينشر علنا مبادئه العلمانية، لفرضها على مجتمع مسلم محافظ"
هذا والكثير غيره يجعل من تقمص البعث-من خلال قناته الموعودة- للخطاب الاسلامي ..وخصوصا مع الافلاس الدراماتيكي والمعلن والمدوي لحركات الاسلام السياسي في الراهن المعاش من ايامنا ..يدفع الى الظن-غير الآثم- بان الهدف الاسمى للقائمين على المشروع هو استدرار رضا الجهات الممولة واستمطار سخائها اكثر من محاولة نشر فكر ما او قيم اخلاقية او مباديء قد لا تجد لها موطئاً خارج جدران مكاتب القناة المرتقبة..كما ان مناشدة المشاهدين بارسال ما يملكونه من"ارشيف"صدام حسين عن طريق الايميل قد يقدم صورة عن المنتظر من تلك القناة التي قد تتحول الى واحدة من اكثر المشاريع الاعلامية هدرا للمال ونزفا مؤسفا لوقت الرفاق وجهدهم..
التعليقات (0)