صداقة أدبية نادرة المثال
هذا مقال جميل كان الكاتب الكبير رجاء النقاش قد كتبه منذ أكثر من سنتين، وهاأنذا أقدمه لقراء مدونتى لما يتسم به من معنى إنسانى نبيل
محمد بن خليفة العطية
هذه قصة واقعية من قصص التاريخ الأدبي العربي, وهي قصة صداقة حميمة مخلصة بين أديبين كبيرين من الأدباء العرب المعروفين, ويمكننا أن نقول إنها قصة نادرة المثال, لأن الطرفين في هذه القصة كانا مستعدين للتضحية بنفسيهما في سبيل هذه الصداقة, ونحن نعرف بالطبع أن هناك من هو مستعد للموت في سبيل حبه وهوي قلبه, أما من يكون مستعدا للتضحية بحياته في سبيل صداقته, فهو نوع من الفرسان قليلا ما نجد له نموذجا حقيقيا في واقع الحياة.
وموضوع الصداقة في الشعر والأدب هو موضوع كريم ولطيف وعذب وفيه نوع من قوة العواطف الإنسانية الصافية, وكان من أشهر شعراء العربية القدماء الذين تغنوا بالصداقة شاعرنا الكبير أبو تمام (788 ـ846) وقد قال بعض المؤرخين والنقاد عنه إنه شاعر الصداقة, في الوقت الذي يوصف فيه آخرون بأنهم شعراء الحب, ومن أشهر ما قاله أبو تمام في موضوع الصداقة بين الأدباء, هذان البيتان اللذان قالهما في وداع صديقه الشاعر علي بن الجهم (804 ـ863) حين اضطر ابن الجهم إلي السفر بعيدا عن صديقه.. يقول أبو تمام:
إن يختلف ماء الوداد فماؤنا .:. عذب تحدَّر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا .:. أدب أقمناه مقام الوالد
وهذان البيتان هما من أجمل وأصدق ما قرأته في الصداقة الحميمة والقرابة الروحية بين اثنين, وفي هذين البيتين نقرأ كلمة يختلف, وهي في وصف الماء, ومعناها أن الماء يتغير طعمه ويفقد عذوبته, وهناك كلمة تحدر أيضا, وكلمة تحدر هي من الانحدار, وتعني هنا سقوط المطر ونزوله من السحاب إلي الأرض.
ونعود إلي قصة الصداقة التاريخية بين أديبين كبيرين هما عبد الله بن المقفع (724 ـ759) وعبد الحميد الكاتب الذي تم قتله سنة750, وليس معروفا تاريخ ميلاده بدقة, وقصة الصداقة بين الأديبين الكبيرين لها روايات متعددة, خاصة فيما يتصل بقتل عبد الحميد الكاتب, لكنني أري أن أقربها إلي الصواب هي الرواية التي نتحدث عنها استنادا إلي مرجع موثوق هو كتاب تاريخ الأدب العربي للأستاذ أحمد حسن الزيات.
كان عبد الحميد الكاتب وزيرا أو في مقام الوزير عند مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين, والمؤرخون يصفون هذا الخليفة بأنه كان من أعظم الخلفاء. وأنه كان من أكثرهم اجتهادا ويقظة وصبرا علي الشدائد, لكنه كان في الوقت نفسه من أسوأ الناس حظا, وكانت الظروف تميل عليه ولا تميل إليه, وقد حاول هذا الخليفة الكبير أن ينقذ الدولة الأموية من السقوط علي يد العباسيين, لكن الخليفة الأموي المجتهد لم يستطع النجاة من سوء حظه, وانفضاض الناس من حوله, واكتمال الأسباب لقيام دولة أخري علي أنقاض الدولة الأموية, وهي الدولة العباسية, وهكذا تجمعت بالتدريج ظروف قاهرة هيأت بوقوع المشهد التاريخي الكبير, وهو سقوط الأمويين, وقيام الدولة العباسية.
لم ينجح مروان بن محمد برغم قوة عزيمته وشدة اجتهاده في إنقاذ الدولة الأموية, لأن التاريخ يتحرك أحيانا بصورة أقوى من قدرة الأشخاص مهما كانوا عظماء, ولقد كان مروان بن محمد من عظماء التاريخ, وكان جادا ومثابرا وصبورا حتى لقد أطلق عليه بعض المؤرخين اسما طريفا هو مروان الحمار وأصبح مروان مشهورا بهذا الاسم, ولم يكن تشبيه هذا الخليفة بالحمار احتقارا له وتقليلا من شأنه, بل كان الأصل في هذا التشبيه هو أن مروان كان قادرا علي التحمل وكان يعمل كثيرا ولا يشكو, وكان صبورا علي الشدائد يحاول أن يعالجها بإرادة حديدية, ولم يكن مروان غبيا بل كان من أذكي الأذكياء, لكن الظروف كانت أقوى منه ومن أي رجل آخر في مكانه.
كان مروان قد اتخذ أديبا مشهورا شهرة واسعة في تاريخ الأدب العربي هو عبد الحميد الكاتب في منصب الكاتب وهو منصب يساوي منصب الوزير في مصطلحاتنا الحديثة, ولا تزال بعض الدول العربية تستخدم كلمة كاتب الدولة بدلا من كلمة الوزير, والكلمتان بمعني واحد. وعندما اقتربت جيوش العباسيين من الشام قال الخليفة الذي تقترب الهزيمة النهائية منه بخطي سريعة لوزيره عبد الحميد الكاتب اتركني واذهب للبحث عن نجاتك, ونتابع هذه القصة كما يرويها لنا الأديب العربي الكبير أحمد حسن الزيات في كتابه «تاريخ الأدب العربي» حيث يقول:
قال مروان لعبد الحميد: قد احتجت لأن تتحول إلي عدوي وتظهر الغدر بي, فإن إعجابهم بأدبك, وحاجتهم إلي كتابتك, تدفعهم إلي حسن الظن بك, فإن استطعت أن تنفعني في حياتي فسوف تفعل, وإلا لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد مماتي, فقال عبد الحميد الكاتب للخليفة: إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي, وليس عندي إلا الصبر, حتى يفتح الله عليك, أو أموت قتيلا معك, ثم أنشد عبد الحميد:
تُسِرُّ وفاءً تم أضمر غدرة .:. فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
وبقي عبد الحميد الكاتب مع الخليفة مروان إلي أن تم قتل مروان في مصر, فلجأ عبد الحميد إلي صديقه ابن المقفع وكان يقيم في البحرين في ذلك الوقت, ولكن العباسيين طاردوه وفاجأوه في بيت ابن المقفع, فقال الذين دخلوا عليه: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: أنا عبد الحميد مخافة علي صاحبه, وأوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع, لولا أن صاح بهم عبد الحميد قائلا: ترفقوا بنا فإن لكل منا علامات, فوكلوا بنا بعضكم للحراسة وليذهب البعض بالعلامات التي لديه للشخص المطلوب ويحدد من هو. وعلي ضوء تلك العلامات قبضوا علي عبد الحميد وقتلوه في سنة 132 هجرية الموافق سنة750 ميلادية.
تلك هي قصة عبد الحميد الكاتب الذي أراد صديقه عبد الله بن المقفع أن يفتديه بحياته فقال: اقتلوني بدلا منه.
وقد يكون من الاستطراد هنا أن أقول إن هذه القصة تصلح مادة إنسانية رائعة تتوافر لها كل العناصر الأساسية في مسرحية عربية من الدرجة الأولي فهل يدرك كتاب المسرح والشعر والرواية أيضا, هذه الحقيقة ويمدون أيديهم إلي هذا الكنز من تراثنا ليبعثوا فيه بالحياة من جديد؟
لكن هذه القصة بوضعها الحالي, وقبل أن تمتد يد فنان مسرحي أو شاعر أو روائي إليها, تقول لنا أشياء كثيرة, أهمها أن الأديب الحقيقي لصاحبه هو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر.
ومن أهم المعاني في هذه القصة أن العصر كان عصر فتنة هائلة وانقلاب سياسي رهيب, حيث كان هناك دولة جديدة تظهر, وتختفي من الوجود دولة أخري, كانت من أقوى دول العالم هي الدولة الأموية, وفي مثل هذه الفترات من التاريخ يصاب الناس بالخوف الشديد, ويلتزمون الحذر, وينطوون علي أنفسهم, ويبتعدون عن الآخرين, التماسا للنجاة من الفتنة الكبيرة القائمة والانقلاب الكبير الهائل في محيط الحياة.
تلك هي الظروف التي تغري بالأنانية وعدم التفكير في مد يد العون للآخرين, لكن عبد الله بن المقفع خرج علي القاعدة, ورفض أن يفقد إنسانيته أو يتنكر لفضيلة الوفاء, وقام باستقبال صديقه عبد الحميد الكاتب في بيته, ولولا أن أحدا قد دل جنود العباسيين علي مكان عبد الحميد الكاتب فربما كان عبد الحميد قد نجا من القتل, لكن أوقات الفتنة دائما تكون مليئة بالرجال الصغار الذين يعرضون خدماتهم علي رجال السلطان, ولا يترددون في العمل كجواسيس ومخبرين يطاردون الناس, ويبحثون عن أي معلومات يمكن بيعها والانتفاع بثمنها الحرام, وهؤلاء الصغار هم بالقطع الذين دلوا جنود العباسيين علي المكان الذي يقيم فيه عبد الحميد الكاتب, وهو بيت صديقه ابن المقفع.
كان موقف ابن المقفع موقف رجولة وشجاعة ووفاء خالص, فقد كان بحمايته لصديقه يعرف أنه يتعرض للقتل, لكنه لم يتردد مما يعني أن فضيلة الوفاء عنده كانت أعلي بكثير من حبه لحياته.
أما عبد الحميد الكاتب فقد كان هو الآخر مثالا للصبر علي المحنة والرفض التام للوسائل الملتوية التي كان يمكن أن تنجيه من القتل, فقد اقترح عليه الخليفة مروان أن يعلن الغدر به وأن يتقرب إلي المنتصرين الذين يعرفون قدره, فإن سمعوا أنه يسب الأمويين ويمدح العباسيين فإن العباسيين علي الأغلب سوف يبقون علي حياته للاستفادة من مواهبه وكتاباته, لكن عبد الحميد أبى أن يتصرف بهذا التقلب السياسي الرخيص الذي ينتقل فيه من الحزب الأموي إلي الحزب العباسي في غمضة عين, وهذا التقلب السياسي هو من أسوأ الأمور التي تحط من قدر صاحبها, وتطعن في أخلاقه وشخصيته, وتنزل به من مقام الكبار إلي مقام الصغار.
ولعل من عبث الأقدار أن يموت ابن المقفع مقتولا علي يد الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور, وكان ذلك سنة 759 ميلادية أي بعد مقتل عبد الحميد الكاتب بتسع سنوات فقط, وكان عمر ابن المقفع حين مقتله بالبصرة خمسة وثلاثين عاما.
والجريمتان هما من أسوأ الجرائم, لأنهما جريمتا قتل بطريقة عبثية عشوائية لعبقريتين كبيرتين من عباقرة الأدب العربي. والحق أن القتلى في تاريخ الثقافة العربية من الشعراء والأدباء والمفكرين يملأون قائمة طويلة تثير سؤالا هو: لماذا كل هذه الكراهية للأدب والأدباء والشعر والشعراء, والفكر والمفكرين؟
التعليقات (0)