صخور في نهر الليبرالية
كمال غبريال
GMT 15:00:00 2011 الأربعاء 23 مارس
نقصد بالليبرالية هنا نوعية الحياة التي ينشدها المصريون، والتي تنادوا بها في هتافاتهم وهم يقتلعون النظام البائد، بالشعار الذي كان الأكثر تكراراً "عدالة. . حرية. . كرامة إنسانية".. بهذه الكلمات البسيطة والمباشرة حددت جموع الشباب ومن التحق بهم من كل أعمار وفئات الشعب المصري ما يتطلعون إليه وما ثاروا لأجله. . شعب محب للحياة، يريدها حياة جديرة بأن تعاش، فماذا نفهم من هذا نحن الليبراليين، غير أنهم ينشدون الحداثة والتقدم، بمقوماتها المادية المعروفة، والتي تتحقق وتفعل عبر فكر ليبرالي يشمل كل مناحي الحياة. . ينشدون الالتحاق بالعصر الذي تخلفوا لستة عقود عن قطاره، فكان أن تقهقروا حضارياً لأكثر من قرنين في بعض المجالات، خاصة فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي الذي يربط بين أبناء الوطن بعضهم البعض، ويحدد بالتالي نظرتهم لأنفسهم وللآخر الداخلي والخارجي باتساع المعمورة. . يسمح لنا هذا التصور أن ندعي أن انتصار الثورة المصرية في مرحلة إعادة البناء يتطلب تدفق نهر الليبرالية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليروي أرضنا التي تم تبويرها عمداً مع سبق الإصرار والترصد، فلم تنبت طوال تلك الفترة غير أشواك التطرف والتعصب الديني والعروبي، حتى صارت الوطنية في شرع المثقفين ومن يتابعهم من العامة، هي أحد وجهي عملة، وجهها الآخر العداء والكراهية والتوجس من طرف ما. . قد يكون هذا الطرف لدى البعض اليهود والصليبيين، ولدى آخرين الرأسماليين والإمبرياليين، ولتتحول الساحة المصرية هكذا ليس إلى ساحة حوار بناء داخلياً وخارجياً، ولكن إلى ساحة صدام وتناحر.
الآن علينا أن نرى كيف يمكن أن يتدفق نهر الليبرالية، ليحيل بوار أرضنا إلى خضرة يانعة، ما لن يتحقق بالصورة المرضية طالما لم نزل ما يعترضه من صخور، يلوث بعضها مياه النهر، ويعوق بعضها تدفقه، ويحاول بعضها الآخر تحويل اتجاهه، ليرتد من حيث أتى، مخلفاً وادي النيل فيما يكابده من بوار.
بداية إشكاليات نهر الليبرالية ترجع إلى المنبع ذاته. . كيف يتدفق تيار ليبرالي، وهؤلاء المنوط بهم دفع دفقاته يعانون إشكاليات ذاتية وهيكلية قاتلة؟. . رموز الليبرالية المصرية المفترض قيامهم بقيادة الجماهير هم في الأغلب من ذوي الياقات البيضاء، الذين يفتقدون لمهارات العمل الميداني التواصلي، وقد تخصصوا في الدرس والبحث العلمي، منقطعين عن واقع المجتمع المصري، مركزين جل اهتمامهم على استيعاب تجارب الحداثة والليبرالية في الغرب، وأقصى فعالياتهم تأليف الكتب وتدبيج المقالات، أو استعراض مفاهيمهم في الفضائيات التليفزيونية. . ترتب على هذا استشعارهم قدراً من التعالي على الواقع المصري، كما نمت لديهم نوازع فردية ونرجسية، نتيجة لطبيعة فردية ما انكبوا فيه من بحوث ودراسات، وأيضاً لا نبرئ الطبيعة الفردية للفكر اليبرالي من تعميق هذا التوجه، فصار كل مفكر ليبرالي أمام نفسه وكأنه عالم قائم بذاته، وكأن التحاقه بأي فريق عبر عمل جماعي توافقي، بمثابة اقتلاع لهذا المفكر من جذوره التي نما على التغذي منها، خاصة على ضوء ما يقتضيه هذا العمل الجماعي من تنازلات حتمية، بدونها لا يمكن أن يصمد أي تجمع أمام تحديات الاختلاف!!
نستطيع أن نرصد هنا أيضاً، أن تلك الفردية النرجسية تؤدي عند محاولة انخراط المفكر الليبرالي في تجمع، إلى أن ينحو منحى أبوياً بطريركياً، يحاول تجميع الجماهير حول ذاته المتضخمة، بما يتضاد مع الفكر الليبرالي ذاته، ما يدفع أقطاب أخرى إلى النفور، والسعي لتشكيل تجمعات أخرى حول ذواتها. . يفاقم من هذا بالطبع كون أن الليبراليين المصريين والشرقيين بعامة قد تعرفوا على الليبرالية عن طريق المراقبة الخارجية والدراسة، ولم يعايشوها أو يمارسوها كسلوك تلقائي في حياتهم العملية واليومية، بحيث نستطيع باطمئنان نقول أن أغلبهم ليبراليون فكراً محافظون أو حتى سلطويون سلوكاً، مع التحرز بالطبع من إطلاق التعميمات، التي لا يعني ورودها لفظياً، أننا بسبيل سن قوانين صارمة، تنطبق آلياً وحرفياً على كل كائن ليبرالي!!. . لكن ما يؤكد ما ذهبنا إليه كظاهرة عامة، هو ما نرى الآن بعد يقظة الشعب المصري من غفوته، من عشرات وربما مئات التجمعات الليبرالية، أغلبها يقوم على أساس الالتفاف حول نجم من نجوم الفكر الليبرالي، سواء كان هذا النجم كبيراً متألقاً أم صغيراً يجاهد في إثبات ذاته. . هنا بالتحديد نكتشف الصخرة الكبرى أمام محاولة تجميع تلك الشذرات الليبرالية المتناثرة. . فبدون هذا التجمع لن يكون هنالك أساساً تيار ولا ليبرالية!!
الصخرة الثانية يتشارك في كتلتها النخبة الليبرالية والجماهير، فالنخبة بخطابها الفوقي التنظيري، بمصطلحاته التي تبدو مبهمة وربما مرعبة أمام الجماهير، في مقابل تفشي أمية أبجدية وسياسية وثقافية، تسد في ريف مصر كل المنافذ انسداداً كاملاً، وتشكل في الحضر بأحيائه الشعبية والعشوائية عقبة لا يسهل التغلب عليها، وهي الحالة التي تندرج ضمن ثوابت الواقع المصري، هذا الذي أصابه بالطبع التصدع نتيجة للثورة، مما يعطي الأمل أنه يمكن بالجهد فتح آفاق غير مسبوقة لإمكانية التغلغل الليبرالي، وإن بنسب تتفاوت وفق حقائق الديموغرافية.
نوعية أخرى من الصخور تحتل منتصف مجرى نهر الليبرالية وتلوث تياره، ناتجة عن امتداد الطيف الليبرالي المصري، ليشمل بالإضافة لليبراليين الأصلاء، أجنحة اشتراكية وعروبية وحتى من تيار التأسلم السياسي، علاوة بالطبع على مدعي الليبرالية من الأقباط، الذين ربما هم الأبعد في تكوينهم الثقافي ودخيلة نفوسهم عن الليبرالية. . هذه الأجنحة تدعي لنفسها ليبرالية، ويعجز الليبراليون عن انكارها عليهم، وإلا تحولوا إلى استئصاليين متناقضين مع منطلقاتهم. . هنا تظهر نتيجتان لهذا التنوع، أولهما صعوبة تكوين كيانات ليبرالية كبيرة موحدة توحداً فكرياً موضوعياً، أي لا يقوم فقط على مجرد النية المخلصة في التوحد، فمثل ذلك التوحد المعلن إن حدث، لن يلبث أن يتصدع عند أقرب اختبار عملي تطبيقي، يتعرض فيه لقضية من القضايا محل الاختلاف. . النتيجة الثانية هي أن الاختلاف بين المكونات التي نعدها صخوراً وليس تدعيماً للتيار الليبرالي الحقيقي، تصل في بعض الأحيان إلى تفريغ الليبرالية من مضمونها، سواء على مستوى الفكر أو مستوى التطبيق العملي. . فالعناصر العروبية المعادية أبداً لما تسميه الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، والمصممة على العداء والصدام الدائم معها، تفرغ الفكر الليبرالي من انفتاحه، كما تؤدي على المستوى التطبيقي لفقدان المميزات الثقافية والاقتصادية من الانفتاح على العالم الحر والمتقدم، وكأن لسان حالنا يقول نحن نحب الحرية ونكره الأحرار، ونريد التقدم والحداثة ونعادي المتقدمين. . ينطبق ذات المنهج على سائر المكونات الأخرى في التيار الليبرالي، مما يحول ميزة التنوع والتمدد الليبرالي إلى نقمة ترتد على الليبرالية تعويقاً وعجزاً عن السير باتجاه ما يؤمل منها تحقيقه من تحديث ونهضة في سائر ميادين الحياة المصرية. . فالاشتراكيون المصريون لم تصل إلى أسماعهم بعد أخبار انهيار النظرية والمنظومة الاشتراكية في كل أنحاء العالم، بما فيها مراكزها في روسيا والصين، ويصرون في تنظيراتهم على خلع صفات وحشية على الرأسمالية، دون الالتفات إلى أرض الواقع في معاقل الرأسمالية، ليكتشفوا أن تلك الصفات المرعبة التي يخوفون منها شعوبهم، لا توجد إلا في رؤوسهم التي تيبست على ما بها من تنظيرات سقطت في زمانها، علاوة على تجاوز الزمن لكل محاولات ترميمها.
هذه الشوائب في مصهور الليبرالية المصرية إن صح التشبيه، تمنع اندماجها في سبيكة تصلح لتشكيل أي بنيان ذي ملامح محددة، كما لن تقوى على تحمل أي طرقات أو تحديات خارجية، خاصة إذا ما كانت في مواجهة حادة وساخنة مع تيار موحد بيقين الفكر الديني، وصلابته المستندة لقيامه على الطاعة والحاكمية لله، ولنائبه على الأرض المفسر أو الفقيه.
اذا كنا لابد وأن نعرض حلولاً لهذه الإشكاليات، حتى لا نقع ومعنا القارئ في هاوية اليأس، فإن الحلول الحاملة للأمل ماثلة بالفعل وتجري الآن - وإن تحت السطح - أمامنا، وتحتاج فقط لبعض من الوقت، ولمزيد من الوعي والجهد للتغلب عليها. . الأمل في سقوط ما سبق وأوردنا من تنظيرات، نتيجة للتفاعلات الحادثة الآن في مصر ما بعد الثورة، فمن الخطأ الجسيم في حالات الثورات الشعبية، الاعتماد المطمئن على حسابات الواقع القائم وفق الرؤى القديمة، دون انتظار الحقائق الجديدة التي ستتولد نتيجة الصراع المجتمعي والفكري.. في هذه الحالات لن يكون أبداً حاصل جمع واحد زائد واحد يساوي دائماً اثنين، فالأغلب أنه سوف يكون شيئاً مختلفاً تماماً. . هنا والحالة هذه لا يكون لما أسلفنا من عرض في السطور من فائدة، أكثر من نعي جيداً ما لا نريده، وما يتحتم علينا بذل كل الجهد لتغييره، فهذا الوعي هو الكفيل بتنشيط وتسريع التفاعلات المرجوة، والكفيلة بالفعل بالوصول بنا إلى شواطئ جديدة، لم يسبق أن وطأتها أقدامنا.
مصر- الإسكندرية
التعليقات (0)