يقول الاستاذ الكبير طه حسين في كتابه الشهير الفتنة الكبرى جزء (علي واولاده ) شارحا سياسة الخلفاء الراشدين - لم يستقبل المسلمون خلافة علي بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان من رضى النفوس وابتهاج القلوب واتساع الامل وانبساط الرجاء , وانما استقبلوها بالكثير من الوجوم والقلق والاشفاق ص2 .... فقد نهض عثمان بالامر بعد خليفة شديد صعب المراس ارقهم من امرهم عسرا بما كان يسلك بهم من طريق وعرة خشنة لايصبر عليها الا اولو العزم واصحاب الجلد من الناس ... واقبل علي بعد مقتل عثمان ولم يوسع للناس في العطاء ولم يمنحهم النوافل من المال ولم ييسر لهم امورهم , وانما استأنف فيهم سيرة عمر من حيث انقطعت... اما سيرة علي في عمال الاقاليم وولاتها فلم تنحرف عن سيرة عمر قليلا ولا كثيرا وانما هي سنة سنها النبي والشيخان واحياها علي بعد ان ادركها شيء من الضعف والاهمال في الاعوام الاخيرة لخلافة عثمان . كان علي شديد المراقبة لعماله يشدد عليهم في الحساب وفي استيفاء ما يلزمهم من حقوق الناس ص38 . يقول المدائني - ((ان طائفة من اصحاب علي مشوا اليه فقالوا يا امير المؤمنين اعط هذه الاموال وفضل هؤلاء الاشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم واستمل من تخاف خلافه من الناس )) . ويستطرد المدائني وانما قال له ذلك لما كان معاوية يصنع بالمال . فقال لهم (( اتامرونني ان اطلب النصر بالجور )) . ويكمل المدائني – ان من اهم اسباب تخاذل العرب عن علي بن ابي طالب كان اتباعه لمبدأ المساواة بين الناس حيث لايفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على اعجمي ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل .
اذا وعلى عكس ما يشاع فقد حض الاسلام على مبدأ المسائلة والمراقبة الشديدة للولاة وطريقة جبايتهم لاموال الدولة ( اوصى عمر لاهل الامصار خيرا وقال عنهم - فانهم ردء الاسلام وجباة الاموال وغيض العدو , وان لا يؤخذ منهم الا فضلهم عن رضاهم , واوصيه – اي الوالي – بذمة الله وذمة رسوله ان يوفي لهم بعهدهم وان يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم الا طاقتهم ) . وكذلك المراقبة الصارمة لاوجه الانفاق لاموال بيت المال او ما نسميه الموازنة العامة الان .
ومن النصوص القليلة اللتي اوردتها في بداية الحديث نفهم ان الرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) قد اسس دولة هو رأسها وعاصمتها المدينة المنورة قد اسسها صلوات الله عليه على النظام الجمهوري بدون توريث ومع احترامي لجميع المذاهب فان المسلمين وان اختلفوا بعد وفاته ( صلى الله عليه وسلم ) الى عدة احزاب منهم الانصار والمهاجرين واهل البيت الا انهم اخيرا اتفقوا في البرلمان الاول ( سقيفة بني ساعدة ) على اختيار ابو بكر (رض) رئيسا للجمهورية واستمروا بعد ذلك بأنتخاب رؤساء الجمهورية اللتي سميت فيما بعد بالخلافة الراشدة , واسسوا برلمان جديد (الصحابة الستة اهل الشورى) لهذه الدولة يقوم بالعملية الرقابية بالاضافة الى المجلس الموسع اللذي يقام كل يوم جمعة بعد الخطبة اللتي كان الشق السياسي منها يمثل (خطاب اسبوعي عن حالة الدولة) . وكثيرا ما احتدمت معارك برلمانية بين الصحابة ورؤساء الجمهورية (الخلفاء) حول سياساتهم كما يخبرنا التاريخ . اذا فالاجواء كانت ديمقراطية فيها من حرية التعبير والانتخاب ما يملاء ملايين الكتب التاريخية وكانت العدالة الاجتماعية عنوان هذه الدولة حتى ان الانتعاش الاقتصادي قفز قفزة نوعية بالجزيرة العربية والامصار المفتوحة . الا ان العقلية القبلية اللتي تتمثل باحترام وتمييز شيخ القبيلة , ووجوب تسليم دخل القبيلة من الاموال الى هذا الشيخ وهو اللذي يوزع هذه الاموال حسب ما يراه هو وفقط هو , هذه العقلية هي اللتي فازت في اخر الامر وهي اللتي كان يريدها اكثر العرب انذاك وطالبوا الخفاء الراشدين بها بصورة خافتة ايام ابو بكر وعمر حيث كان الصحابة لايزالون مجتمعين في العاصمة ولم يتفرقوا الى الامصار ومن ثم ازدادت هذه المطالبات على ايام عثمان حتى حسم المسلمون وخصوصا العرب منهم امرهم باختيار الدكتاتورية والرجوع الى النظام الملكي ( الدولة الاموية وكل ما بعدها حتى سقوط الدولة العثمانية) حيث الدولة تحابي الاقوياء من شيوخ القبائل باكثر الاموال العامة , يوزعونها على اتباعهم وبالمقابل يحمي هؤلاء الاتباع الدولة ويتبوئون المناصب العليا فيها . وهذا ما نراه اليوم في كل دولنا العربية واضحا . ففي دول المشرق العربي لاتزال دولة العشيرة الاقوى هي السائدة في جزيرة العرب والشام توزع الاموال حسب ما يراه الملك او الامير او السلطان دون حسيب ولا رقيب . اما الجمهوريات الملكية العربية فرئيس الجمهورية وعشيرته يوزعون المناصب والمشاريع الاستثمارية بنفس طريقة ملوك بني امية وبني العباس على انفسهم وقادة جيوشهم وشرطتهم ومحافظيهم اللذين اخذوا مكان رؤساء القبائل . ووصل الامر في العراق بعد حرب الكويت وضعف الدولة العراقية وجيشها ان يقوم صدام حسين بجمع رؤساء العشائر العراقية الكبرى واغداق الاموال على رؤسائها وعلى ذويه لتامين نظامه . وكم هي الصور الكثيرة اللتي رأيناها لرؤساء العشائر هؤلاء وهم يهتفون بحياته ويتعهدون بحمايته شعرا وهم يرفعون العقال . وها هو المشهد يتكرر الان حيث اموال الدولة يوزعها المالكي والحكيم والهاشمي وعلاوي على رؤساء العشائر نفسها ومجالس اسنادها ومجالس صحوتها اما من التخصيصات لرئاسة الوزراء او تخصيصات المجالس المحلية , ويوزع البرزاني والطلباني اللذي استقال نصف اعضاء حزبه بسبب الفساد الاموال على رؤساء العشائر الكردية الموالية لهم وعلى ذويهم. وكل ذلك بمباركة البرلمانات ممثلي الشعب , وعلى حساب الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع المدني اللذي يأبى الا ان يكون مجتمع عشائري .
وبذلك يكون لافرق في التفكير بين مسلم عربي ولا اعجمي فنحن ايها السادة صناع دكتاتوريات بامتياز ؟ .
التعليقات (0)