صادق جلال العظم: الحداثة أوروبية أساسا غزت العالم مع الرأسمالية
(إعداد سعيد الرفاعي)
عن عالمية الحداثة وقاعدتها الرأسمالية وعن شموليتها، وكذا عن الإسلام في مختلف تجلياته في العصر الحديث تمحورت أشغال لقاء حواري في بيروت مع المفكر العربي صادق جلال العظم.
وبالرغم من كون حاستي البصر والسمع قد بدأتا تخونانه، ظل سجاليا ومثيرا للجدل كعادته، ثابثا على مواقفه، لا يحيد قيد أنملة عما يراه عين العقل والمنطق، يختلف معه العديدون ولكنهم لا يملكون إلا احترام وضوح أفكاره وجرأته في الدفاع عن آرائه.
صاحب مؤلفات (الاستشراق والاستشراق معكوسا) و(ذهنية التحريم) و(ما بعد ذهنية التحريم) لم يتب عن الأفكار المخلخلة والمزلزلة التي تعيد النظر في الأفكار المسبقة والمسلمات الجاهزة والقوالب المعدة سلفا.
رفض مصطلح النكسة بعد يونيو 1967 ورآها هزيمة في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1968) ، لأن إطلاق مصطلح نكسة "ينطوي على الكثير من منطق التبرير والتهرب من المسؤوليات والتبعات"، كما انتقد قادة الفصائل الفلسطينية في مرحلة ما في كتابه (دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية) ففصل من مركز الأبحاث الفلسطينية) الذي ساهم في تأسيسه.
وفي اللقاء الحواري حول (حداثة وإسلام ... إسلام وحداثة)، الذي دعت إليه مؤخرا ، جامعة البلمند اللبنانية ببيروت، ناقش وطرح رؤى جريئة في مدينة أقالته جامعتها الأمريكية من التدريس بها عام 1968 لأنه كتب ما يناقض التيار العام آنذاك.
صادق جلال العظم، الذي يعتبر نفسه أمميا بالمعنى "الإغريقي الأصلي" للكلمة كما قصدها الفيلسوف ديوجينوس، شدد على أن "الهويات ليست جواهر ميتافيزيقية ثابتة بل هي تتشكل في التاريخ وتنحل فيه".
يرفض قطعا ما يسميه "التهوين على النفس" و"تعزيتها" من خلال التغني بالأمجاد العربية الإسلامية السالفة (ابن رشد، ابن سينا...) ، التي يفترض أن الحداثة استقت منها، إذ كانت هناك دائما ديانات أخرى وإمبراطوريات عظيمة منذ ما قبل بزوغ فجر الإسلام.
وشهد العالم القديم أيضا حضارات عالمية عرفت، على غرار الحضارة الإسلامية، طبقات وحرفا ومهنا واكتشافات علمية واختراعات وفلسفات.
يشدد صاحب المؤلفات المرجعية (ذهنية التحريم) و(ما بعد ذهنية التحريم) و(الاستشراق والاستشراق معكوسا) على أن الحداثة، باعتبارها البنية الفوقية المتطورة للرأسمالية التاريخية، أوروبية أساسا غزت العالم مع الرأسمالية. والحداثة الأوروبية، نشأت من أصول متواضعة وشهدت بدايات مهتزة قبل أن تكتسب عالميتها.
وعرفت الحداثة اندماجا عضويا على مراحل مديدة بين الثورة العلمية في القرن السابع عشر وتطبيقاتها واكتشافاتها والمصالح الحيوية للرأسمال التجاري الصاعد يومها. وقد تكون شخصية أنطونيو في مسرحية "تاجر البندقية" لوليام شكسبير النموذج الأمثل لهذا الاندماج.
وهكذا تحولت المعارف إلى رأسمال، وبحث الرأسمال عن التقدم العلمي والاستكشاف، إذ أصبحت له مصلحة في العلم كما أصبحت للعلم مصلحة في الرأسمال دعما وتحفيزا وتمويلا.
وسرد العظم عددا من القوى التي أسهمت في صنع التاريخ العربي الحديث من قبيل الاستعمار والقومية والليبرالية والاشتراكية والشيوعية والحداثوية (بالمعنى الأدونيسي للكلمة) والتطورية والتقدمية والمعرفة العلمية والتكنولوجيا التطبيقية (على المستويين المدني والعسكري) وبناء الدولة الوطنية.
واستخلص أن قوى الحداثة التي صنعت التواريخ في العالم برمته (الهند، الصين...) أوروبية المنشأ والأصل لا تحدها الحدود ، سياسية كانت أو دينية أو جغرافية أو ثقافية ...
وبنظر العظم ، يبقى التاريخ العربي الحديث "غير مفهوم وغير ذي معنى" دون أوروبا ، كما أن تاريخ العرب الوسيط لا معنى له دون الفتوحات العثمانية ، ويبقى تاريخ إيران (بلاد فارس) غير مفهوم دون الفتح العربي في 637 ميلادية.
أما بخصوص الإسلام ، فقد استهل صادق جلال العظم الحديث بعنوان كتاب للمستشرق برنار لويس ، المزداد بلندن سنة 1916 ، بعنوان (عودة الإسلام) متسائلا إلى أين رحل الإسلام حتى يتم الحديث عن رجوعه .
ولأن برنار لويس، المعروف بعدائه لكل ما هو عربي وإسلامي ، لم يطرح هذا السؤال لكن إجابته متضمنة في بحوثه وهي إجابة " لا تاريخية لها طابع ميتافيزيقي فاقع"، أراد صادق جلال العظم لرده على برنار لويس أن يكون "تاريخيا سوسيولوجيا سياسيا".
واعتبر صادق جلال العظم أن الصفة الدينية انحسرت عن الدولة وأجهزتها منذ إلغاء نظام الخلافة العثمانية وذلك في المحاكم والقضاء والقانون ، وبالتدريج في مسائل الأحوال الشخصية والتعليم.
كما انحسرت هذه الصفة عن الجيوش لصالح عقائد دفاعية وهجومية تحريرية حديثة، وكذا عن الثقافة والإعلام وأنماط الحياة اليومية والمجتمع المدني بشكل عام ، وبقيت حاضرة فقط في المساجد وكليات الشريعة والأزهر والحوزة ...
وحدث تحول في المعنى الجوهري للعلم والمعرفة، حسب صادق جلال العظم، من الفقه والشريعة إلى العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية والتجريبية، و"من علم الكلام إلى علم الأفعال" (التاريخ).
وفي هذا السياق، تحدث المفكر السوري عن مفارقة تتجلى في كون العالم العربي لم ينتج أي معرفة علمية حقيقية منذ قرون، ومع ذلك نشأت فيه مشكلة التصادم بين الدين والعلم ومحاولات التوفيق فيما لم تنشأ في مجتمع فيه تراكم للمعرفة بشكل متجدد.
وصبت الانحسارات الآنفة الذكر كلها في مصلحة الحداثة، الأوروبية تحديدا، وأعطت "مزيجا مريضا ورجراجا" على طول الخط يطلق عليه "الحداثة العربية" أو "الحياة العربية المعاصرة". ف`"الرجل المريض ما زال مريضا" حسبما نقل العظم عن مواطنه محمد كامل الخطيب.
إذن فعودة الإسلام، التي قصدها برنار لويس، تعني في هذا السياق التاريخي الاجتماعي، الحركات الاجتماعية ذات الصبغة الإسلامية، عنفية كانت أو سلمية، الساعية لاسترداد ما تعتبرها مواقع ضائعة للإسلام (استرجاع الخلافة، أسلمة المجتمع، الحاكمية، ولاية الفقيه، الفريضة الغائبة ...).
ولاحظ صادق جلال العظم وجود علاقة تناسب بين تجذر الحداثة والنكوص في العمل الإصلاحي العربي. فالإصلاح الذي كان ثوريا راديكاليا مع جمال الدين الأفغاني تحول إلى إصلاح توفيقي تصالحي ذي طابع تربوي مع محمد عبده.
ثم تحول إلى إصلاح مضاد وسلفي مع رشيد رضا الذي ناصب العداء علي عبد الرازق وكتابه (الإسلام وأصول الحكم)، قبل أن يتحول إلى إصلاح استعادي استرجاعي مع حسن البنا، وبعده إلى (جاهلية القرن العشرين) مع السيد قطب وشقيقه محمد قطب، ف`"عقيدة التكفير والتفجير" مع أسامة بن لادن.
ورأى العظم أن نقطة الضوء في هذا "الديالكتيك النازل" عربيا هي التطورات الحاصلة في "الإسلام التركي" ، مشيرا إلى الانتصار البين للحداثة من خلال تخلي العديد من التيارات عن الخطاب التقليدي وتبنيها هذا الفهم المتقدم للإسلام.
وخلص صادق جلال العظم إلى أنه إذا كان الأدب المهجري قد أحدث ثورة في الأدب العربي عامة في موطنه الأصلي، فإنه من الممكن التعويل على تطور "فقه إسلامي مهجري حديث" وتبلوره في الغرب.
يذكر أن صادق جلال العظم، المزداد بدمشق عام 1934، حصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة يال بالولايات المتحدة بعد أن أعد أطروحة عن إيمانويل كانط، ودرس بالجامعة الأمريكية ببيروت (1963-1968) ثم جامعات الأردن وسورية وبألمانيا والولايات المتحدة.
عن و م ع
التعليقات (0)