يمشي مشيته المعهودة كلّ يوم ، خارجًا من حدود الزمان والمكان ، يقترب من واجهة المقهى الشرقية ، في الوقت الذي بدأت الشمس تلملم خيوطها الذهبية في رحيل بطيء إلى الغرب . يعرفه الطريق جيدا ، فيفسح له جنباته ليسمع وقع عكازته على أسفلته القديم كترنيمة لها ذات الطعم واللون ، يقترب من الباب بتؤدة يهشّ الباب لمقدمه ، ويهيّئ نفسه لحسن الاستقبال ، تنفرج مصاريعه بترحاب أصيل ، عمره عشرات السنين قضاها في صحبة العجوز، خطواته المعدودة بين الباب و كرسيه المعتاد تنحسر شيئا فشيئا ثم تتوقف ، لقد تلبّث الزمن الرتيب فجأة أمام طاولتي ، تنبهتُ إلى عينين صغيرتين تحدّقان إليّ ، كانتا ساكنتين لا تدوران في محجريهما ، ولا تنبئان عن مشاعر عدائية . العجوز ، وقد انطوى بعضه على بعض ، حيث لم يقوَ عموده الفقري على شدّ قامته ، يقف قبالتي ، يده المعروقة ترتجف قليلا ، لكنها تمسك بشدة عصا آبنوسية حافظت على توازنه مسافة ما بين الباب والمقعد ، ولا ينقصها عزم على متابعة رحلة العمر ، الرأس تغطّيه قبعة بيضاء من طراز غربي ، بدت كحمامة فوق بدلة رمادية أنيقة أعطت لهيكله العظمي قواما .
تلفتّ حولي أتفحص المكان ، لعل شيئا بجانبي استوقف صاحبي الثمانيني ولم أتفطن له ، لم يكن ثمة شيء ، فالزاوية التي تحتلها طاولتي محدودة مترا بمتر . وهو ما شدّني إليها لما توفره من عزلة أستسيغها خلف الواجهة الزجاجية ، لم يعد لدي شك أنني المستهدف بالنظر ، أو أنني بؤرة المشهد بالنسبة إلى العجوز .
تساءلت في نفسي إن كنت أعرفه ، وحال ضباب السنين دون تذكره ، لكن الذاكرة لم تسعفني بأي دليل ، ساد الموقف صمتٌ ذاهل سببه عجز محركات البحث في الذاكرة ، وعجزي عن تفسير هذه الوقفة الجليلة المجردة من الحركة والكلام . كدت أتجاهل الموقف وأعود إلى كتابي المفتوح الذي كان بدوره ذاهلا ، لكن في اللحظة التي أوشكت أن أتخذ هذا القرار، برق حدس من حدوس الألفة بالمكان في خاطري ، لعله يريدني أن أتنازل عن مكاني له ، وأنسحب من زاويته الأثيرة لديه، فطنت إلى أنني استوليت عن غير عمد على زاويته الجميلة التي لا أعرف منذ متى يبسط سلطاته عليها ، وأفسدت عليه ممارسة شعيرة من شعائر حياته اليومية اعتاد أن يقيمها في هذه الزاوية بالذات .
تطلعت إليه بمودة أعرض عليه الجلوس مكاني ، أجابني بهزة رأس خفيفة تحمل معنى الموافقة والشكر الضمني ، وبقدر كبير من الإحراج سارعت فأطبقت كتابي الذي مازال ذاهلا ، وانسحبت إلى مقعد مجاور ، تقدم صاحبي بحيوية ونشاط إلى مقعده الأثير ، وطاولته المفضلة في الزاوية الجميلة التي تهيأت لاحتضانه ، خلع سترته ، علّقها على كرسي آخر ، نزع قبعته ، أخرج نظارة القراءة ، فتح كيسا صغيرا وأخرج كتابا حديث الغلاف ، ثم تهادى فوق المقعد ، تنفس بعمق ثم شرع يقلب صفحات كتابه بهدوء ، غير عابئ بما يجري حوله من حيرة الفكر وصخب المكان .
عدنان كزارة
التعليقات (0)