انتَشرَت في فترة من الزمن بالحجاز مساكنُ تسمى "الصَّنادِق" وهي بيوتٍ مُعدّة من صفائح معدنية كانت في الأصل تحوي بعض المواد الاستهلاكيّة الضروريّة كالزّيت أو الجُبن،وبرَعَ بعض الحِرَفيّين حينها في صناعة هذه النّوع وكانوا يستغلّون بعض المهارات المتعلّقة بتناسق نوعيّات الصفائح مع بعضها البعض ليكونَ شكلُ "الصّندَقَة" جميلاً جذّاباً من خلال تجميع أكبر قدر من صفائح تلك المواد وفكّها لتُضحي شكلاً مربّعا يسهُلُ تقطيعه ولصقُه بمسامير مع مُربّعاتٍ أخرى ..
استخدَمَ الفقراء هذه الطريقة في السابق كما يُخبرنا من عاصروا تلك العهود واستخدمَ هذه الوسيلة أيضاً فقراء أتذكّرهم وأنا صغيرٌ في تجمّعات بالمدينة المنورة ومكة المكرمة يقطُنها مساكينُ أتوا من أفريقيا ومن جنوب شرق آسيا إلى عهدٍ قريب،ومن الطّبيعي أنّه بداخل تلك الأحياء تنشَطُ الأعمال الحرفيّة التي يحتاجها هؤلاء ومنها بناء "الصّنادق" على هذا المنوال مستخدمين ما يُلقيهِ الأغنياء بعد أن يُفرغوا ما في بطُونِ الصّفيحة في بطونهم هم غير مكترثينِ بآنيةٍ لم يعُد لها نفعٌ عندهم ..
بالأمس القريب وضمن الاحتفالات أو التظاهرات العالمية بسبب اليوم العالمي "للجوع" أو لفاقدي الغذاء في العالم قامت إحدى المنظمات في دولةٍ ما بتنظيمِ مهرجانٍ للتسابق نحو بناءِ أشكالٍ جمالية من عُلَبِ المواد الاستهلاكية والأغذية المحفوظة مشترطينَ لذلك أن تكون مليئةً بما في جوفها من غذاء غير منتهي الصلاحيّة على عكس استخدام فقراء الزمن الماضي للعلبِ الفارغة والآنية الخاوية،وأظهرِتْ القناة التلفزيونية التي عرَضَت هذا الخبر أشكالاً وتصميمات رائعة قدّمَتْ للشركات التي تُنتج هذا النوع من الأغذية دعايةً كبيرة على حساب الجائعين في العالم ..
لم ينتهِ الخبر حتى جاءَ في آخره بأنّه بعد انتهاء أيام العرض وتكريم الفائزين سيتم توزيع هذه الأغذية ومعلباتها مجاناً على الفقراء وتسليم قدرٍ كبيرٍ منها للجمعيّات الخيريّة،وبدا ذلك طريقاً لتعذيب الجائع برؤية الطعام وانتظاره أياماً وساعاتٍ حتى يحصل عليه ريثما يثبُتُ للمتلذّذين بألم البطون بأنّه جائعٌ حقيقي وليسَ مُدّعي جوعاً لا يعرفه من يبني من المعلّبات بيوتاً للترفيه واللعب ..
توقّعتُ وأنا أسمع هذا النّبأ بأن المنظّمين فكّروا كما يفكّرُ الفقراء أنفسهم وبأنّ هذه العلب فارغة ورَصّها والبناءُ بها طريقة ليُكسبوا الفقير مهارة بناءِ بيتٍ له من خلال استغلال النفايات التي يُلقيها المجتمع المتحضّر في قارعة الطريق ولا يلقي لها بالاً،ويضربوا بذلك مائة عصفورٍ بأصغر الحجارة وأضعف الموازين،فالقضاء على النفايات بحرقها أو دفنها أو إعادة تدويرها صناعياً أثبتَ عدم جدواه في زمنٍ امتلأ باعتداءٍ سافرٍ على الجوّ والمناخ بلا مراعاةٍ لأمراضٍ أو ملوّثات ..
ما يعتبرُه شخصٌ نفايةً هو في اعتبار جَوْعى العالم وعراة الكون ومساكين الدنيا كنوز في الأرض،وما يظنّه المُرَفَّهون من الناس زائداً عن الحاجة وأكلَ الدّهر عليه وشربَ يعتبره الكثير من فاقدي الأمل في العثور على فُتاتِ خُبزٍ أو جُرعة ماءٍ عكِر فرصةً لا تتوفّر في كل وقت وحظّاً لا يتسنّى لكل باحث،ومن العُلبِ الفارغة التي يستهلكها الناس بشكل مهول في هذا العصر يستطيعُ من أوتي تفكيراً سليماً ويداً "تُلَفُّ في حَريرٍ" كما يُقال أن يصنعَ منها جدراً لبيتٍ يحميه من البقاء في العراء وسقفاً لُحُجْرةٍ تُشعرُ الكادحين بالأمان في وقتٍ هم أحوجُ ما يكونُ إليه ..
ولكنّي قُلتُ لنفسي كيفَ يحلو السكن في منازلَ كهذه تفرضُ على ساكنيها عدم نسيانِ جوعهم بما كانَ يدورُ في خلدِ الأطفال قديماً وهم يسكنون بيوتَ الصفيح المُجمّعِ من أواني الزّيت والسّمن الكبيرة حيثُ كانوا يفكرون في الجوع والرغبة في الغذاء واشتهاء الأكلات التي يُذكّرهم بها زيتٌ خاص في ذلك الحين يُسمّى "زيت الشّوكة والملعقة" لما يظهر على صفيحَته من صورة لشوكةٍ وملعقة متقاطعتين كأنّهما دعاية لالتهام ألذّ الطبخات المُستخدم فيها زيتٌ لا مَحالة ..
اشتهرَ هذا النوع من الصّفيح بالذات المختوم بعلامة الجودة "شوكة وملعقة" ليكونَ الأكثر شيوعاً في عالم بناء "الصّنادق" واستفادت الشركة المصنّعة لهذا النوع من الزيت فائدة لم تكن تتوقّعها على أثرِ تصرّف هؤلاء الفقراء العفويّ،وربما يكونُ استمرار إنتاج الزّيت للأغنياء والصّفائح للفقراء مُعادلة عجَزَ عن الالتزام بها رُعاة الاقتصاد اليوم،وكم كانَ صبرُ الرجل في انتظاره لأن تُجهّزَ "صَندقته" بعدَ أن يقضي أياماً وشهوراً في تجميع أكبر قدرٍ من الصّفائح ..
الجيّدُ في الأمر أن صانعي "الصّنادق" تلك كانوا يجعلون وجه الصّفائح التي عليها كتابات الشركة الصانعة وشعاراتها للخارج ويجعلون الوجه الخالي من أي كتابة للداخل معتبرين بأنّ تلك الجهة التي كانت تُلامس الغذاء وتحفظه من التّلف هي الأصلح لأن تحفظَ أجسادهم وأبدانهم من المرض والحرّ والقَرّ،ومَن يمرُّ ببيوتهم ويرى ذلك التجمهر الكبير من العلامات التجارية بادية في أعالي غرفهم وحجراتهم سيعلمُ بالتأكيد بأنّ هؤلاء قومٌ أظهروا حاجتهم وفاقتهم بطريقتهم الخاصة لمن كانَ لهُ قلبٌ أو شعور ..
لن تسمحَ الجهات الرسميّة اليوم أبداً لابتكارات الفقراء واختراعات المحتاجين أن تكونَ طريقة للعيش وبناء البيوت أو تجهيز الحاجيات لأنّ أي ممارسة لفقير لا يملك أدنى مقومات الحياة الكريمة لن يكونَ فيها ما تشترطه الهندسة الحديثة والأشكال الجمالية من شروطٍ بعيدٌ هو عنها بُعدَ الشمس عن الأرض ولكنّه مع ذلك مُحترقٌ بلظاها كما يفعلُ بنا شُعاع الشمس القصيّ،فماذا يفعلون وإلى من يشتكون؟ وهم محرومون حتى من التشبّه بالإنسان القديم الذي كانَ يوقدُ ناره من الطبيعة ويستخرج الماء من الأرض ..
عدمُ وجود المواد الأساسية والأولية ليسَ هو المشكلة ولا هو السبب بل إنّ السبب هو ما تُكرّره هيئات الأمم المتحدّة ونعرفه نحنُ بفطرتنا السويّة بأنّ سوء التوزيع والامتناع عن الشعور بالآخرين هو ما يجعلُ الموتَ أمنيةً لمن يرى أطفاله يموتون جوعاً وهو صفر اليدين نحيل الجسد فاقد للحيلة،والعائق الآخر هو سدّ أبواب التصرّف أمام المحتاج والجائع والفقير أن يبحثَ لنفسه عن ضوءٍ يرى منه جمالَ الإنسانية من جديد ويأكل ويشرب من مخزون الأرض ورزق الله ..
كلّ الحياة دائرة وكلّ الدنيا دوّارة فما تُلقيه أيدي تتلقّفُه أخرى وما يستغني عنه بدَن يصلُحُ لأبدانٍ أخرى وما يزيدُ عن شراهة المُترفين يكفي لأن يكونَ قوتاً لأعمار الفقراء كلهم أجمعين،وليس من العيبِ أن تكونَ السيارات القديمة المتعطلة التي يتركها أصحابها بيوتاً لأناس يفترشون الأرض ويلتحفون السّماء،وليس من الغريب أن تكونَ صفائح زيت "الشوكة والملعقة" موادَّ هامّة في صُنع عُش زوجيّة لمن ولد في رُكنٍ من أركانِ مقبرة أو بجانب جدارٍ من جُدرانِ جامع ..
وهاهيَ "شوكةٌ وملعقة" حقّقَت مقاصد اجتماعية وشرعية وإنسانيّة من مسكنٍ وفرصِ عملٍ والتخلّص من نفاياتٍ ولُحمةٍ مُجتمعيّة نتمنى نحن الآن أن تتحقّق في برامج ومؤتمرات وصناديق وأُطروحات أضنَتْ مُنظّميها ومموّليها ولم يجد المستهدفون إليها طريقاً ..
التعليقات (0)