قد يشي هذا التزاحم المربك للسادة علماء الدين الاعلام على ابواب الفضائيات بان التصدي لمهمة الوعظ والافتاء قد اصبحت من اليسر حتى غدت مهنة لمن لا مهنة ولا شغل-ولا حتى لزوم-له..فبشروط عيانية ميسرة لا تتعدى اللحية المرجلة بعناية وحف الشارب وارتداء الجبة او القفطان وحمل المسبحة واضفاء بعض الورع على سيماء الوجه,تفتح للمرء شاشات الفضائيات ويمنح على اثرها فورا لقب المشيخة الغالي بدون ادنى تدقيق في ماضيه العلمي الفقهي، ودون ادنى سؤال عن خلفيته البحثية اوعن مصادر فتاواه.
وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان استيعاب امكانية التوفيق ما بين كل هذا التساهل الكبير والتبسط الكامل مع مسألة الافتاء-رغم خطورتها- وما بين التباكي الدائم والادعاء والتشكي بعالي الصوت من الهجمات وسوء الفهم والضغائنية المبيتة التي يتعرض لها الاسلام من كل حدب وصوب..
ان مثل هذا التبسط في انتقاء الدعاة الذين يقدمون للناس كفقرة فاصلة ما بين آذان المغرب والمسلسل الطويل من البرامج والمسلسلات المستمر حتى يتبين الخيط الابيض من الاسود من الفجر,احدثت نوعا من الارباك في اصدار الفتاوى في المسألة الواحدة ما بين المنع والاباحة,والاهم هو ان مثل هذه البرامج التي تبث عادة على الهواء,تستدعي من المتصدي لهذه المهمة سعة الاطلاع والتمكن من الاستحضار الآني للأحكام الفقهية وأدلتها، وهذا ما لا يتوفر الا لمن يتحصل على ممارسة طويلة في الافتاء تكفل له الدربة على مواجهة المواقف المفاجأة وهو ما يبدو انه لا يعتنى به كثيرا في اختيار الشخصيات التي تقدم تلك البرامج.
ويشهد رمضان هذا العام تسابق القنوات على تلقط وجلب المشايخ الى فضائها حتى تلك التي لم يعرف عنها اهتماما بالوعظ والارشاد,بل حتى تلك التي كان نفس هؤلاء الدعاة الاجلاء يلعنونها ويحرضون عليها ويتحدثون عن مفاسدها وتأثيرها المدمر للأخلاق والأسر،مما يثير الحيرة في كل ذلك التطير الذي كان يتخلل فتاواهم من مشاهدة تلك الفضائيات وبين الاندفاع نحو الظهور على شاشاتها متغاضين عن "اللهو والغناء بآلات الفجور"الذي تبثه تلك القنوات.
ان مثل هذه التفلتات لا يمكن ان تؤدي الا الى اخراج المجتمع الاسلامي من سياقات الحياة المعاشة المعاصرة ودفعه تجاه ارتكاسات متوالية الى دفات الكتب العتيقة المصفرة ضمن ممارسة طويلة من تغليب النقل على العقل بلا تمحيص او استدراك او مراعاة للظروف الزمكانية للبيئة التاريخية التي افرزت المنقول.
فمن المؤلم ان نجد العلماء يفتون في عهد الخديوي اسماعيل ب" جواز الاختلاط بين الرجل والمرأة بهدف تلقي العلم، ما لم يتم الخروج على محارم الله"بينما نجد فقهاء ثورة الاتصالات وعصر المعلومات مشغولين في تثبيت تقنيات ارضاع الكبير ..وحصر منتهى العلم بقضايا الطهارة والحيض والنفاس.. خصوصا مع اقتصار تدخل المؤسسات الرسمية على ما يمكن ان يمس بالحكم من قريب او بعيد وترك ما دونه,فاسحين المجال لكل من يعاني من هوس مرضي من حب الظهور.
انَّ فوضى الافتاء التي نشهدها تقترب من مستوى الازمة ..وهي ازمة جادة وحقيقية تستدعي وقفة شجاعة تتعاطى مع ما ينفع الناس ويحقق مصالحهم وتتصدى لكل الزبد من فتاوي التخدير الغرائزي والترويج بالغريب من المسائل الاقرب الى الحيل الشرعية ..والا فالاسلام سيخسر الكثير الكثير من مواقعه ويتضاءل تأثيره باضطراد ويزداد تقوقعه في خندق المدافع المحاصر اليائس..وعندها لن يجد فضيلة الشيخ من يسمعه ,ولن يجد من يهلل له,ولن يجد من يدفع اليه اجره,وبالتأكيد,لن يجد شاشة يطل على الناس من خلالها .
التعليقات (0)