عندما يأخذ المرء جهاز " الروموت كونترول " بين يديه، وهو جالس أمام شاشة التلفزيون ، ثم يبدأ في الكبس باحثا عن لحظة للفرجة، يجد نفسه مرغما على اختيارين لا ثالث لهما. ذلك أن نسبة عالية من القنوات الفضائية العربية تخاطب في المشاهد الجانب الغريزي وحده. وهكذا أصبح المتلقي بين تيارين يبدوان في الظاهر متخاصمين، ولكنهما في العمق متفقان ومنسجمان.
في العالم العربي اليوم أكثر من 600 قناة فضائية، وهو عدد كبير جدا، ويفترض فيه أن يكون حافزا للمنافسة على تقديم الجودة وانتزاع ثقة المشاهدين المتعطشين لمتابعة برامج تقترب من همومهم و تخاطب عقولهم قبل قلوبهم. غير أن واقع الحال مختلف تماما. والمشهد التلفزيوني العربي يتقاسمه على الأرجح قطبان هما: شيوخ الملهاة، وشيوخ المأساة. ولكل منهما دوره في دق مزيد من المسامير في نعش العقل الجمعي. وبين هذين النقيضين قواسم مشتركة أساسية تتمثل في تبليد المشاهد وتخديره وشل حركة العقل والنقد لديه. والملهاة كما المأساة شكلان فنيان ظهرا في اليونان القديمة، ومنهما انبثقت التسميات المتعارف عليها اليوم في المسرح، فنتحدث عن الكوميديا في مقابل التراجيديا. والظاهر أن المفهومين متناقضان، وبذلك فهما لا يقبلان الاجتماع نظريا على الأقل. لكن الواقع أحيانا لا يتقوم بما هو نظري فنحن مثلا نقول: " شر البلية مايضحك "، وهاهو الضحك الذي هو في العادة علامة على الفرح يجتمع مع البلية التي هي مرادف لكل غم وهم. والأمر منطبق تماما على تلك الفضائيات.
شيوخ الملهاة لا يرون في الحداثة سوى التعري وهز البطون ومخاطبة الغريزة البشرية، لذلك أمطروا سماءنا بوابل من القنوات التي تشبه " كباريهات " تنتج كل أنواع الخلاعة، وتمتلئ ضجيجا في زمن عز فيه الفن الصادق و الاحساس المرهف والكلمة الشاعرية، وفتح الباب فيه على مصراعيه أمام الرداءة والدناءة والبذاءة بكل أنواعها. و بين العشرات من القنوات المتخصصة في الغناء لا يجد المتتبع أي اختلاف سوى في الأسماء التي اختلطت علينا فلا نكاد نميز بينها، حتى أصبح فضاؤنا يعبق بالغناء الهابط ، وباتت التفاهة نموذجا يقتدى بين أوساط الشباب على الخصوص، لأنهم المستهدفين الأساسيين من نشر الغسيل الوسخ... أما شيوخ المأساة فقد اختاروا سبيلا آخر،( لكنه لا يقل خطورة عن السابق) من أجل مزيد من الاجهاز على هذا المتلقي المسكين والفاقد لكل شروط الوعي. انه غسل دماغ من نوع مختلف. ومرة أخرى لا يوجد من وسيلة أفضل من تحريك الغرائز والعواطف، عبر نهج الترغيب والترهيب. فالدنيا كما يحاول أن يصورها شيوخ الفتاوى الفضائية لا تستحق أن نعاني من أجلها، ولا داعي للتفكير في واقعنا، لأننا في نهاية الأمر مأمورون في الدنيا الفانية بعمل واحد هو " عبادة الله تعالى " من أجل النجاة في الدار الآخرة. وكل من يعاني من ضنك العيش و ظلم ذوي السلطان، سيجد في الآخرة ما يعوضه عن كل هذه المعاناة اذا اختار طريق الرشاد وسلم بأمر الله. أما الذي يغرق في الملذات و يقبل على الدنيا، فله سوء العاقبة هناك... نعم انه الهروب الى الفردوس المفقود. انه قتل للعقل و الابداع مع سبق الاصرار والترصد، لأن هذه الفضائيات نجحت في فصل من يشاهدها عن الدنيا، وألقت به في غياهب دار البقاء. وبات الانسان المسلم المتأثر بمثل هذه الأفكار المدمرة في معتقل كبير اسمه الدنيا. وهو في استعداد دائم للالتحاق بركب السابقين الى جنة الخلاص. وهكذا تموت ارادة الانسان ويصبح عاجزا عن الفعل والحركة لأنه غير قادر على التغيير. وكيف يغير أمرا كان مفعولا.؟؟.
بين الملهاة والمأساة اذن يجد الانسان المتتبع للقنوات الفضائية نفسه في وضع يشبه حفلة تعذيب جماعية، تختلف فيها الوسائل، لكن الهدف واحد: قتل العقل والذوق والاحساس.
محمد مغوتي.14/05/2010.
التعليقات (0)