شيخ لكل مواطن !
تركي الأكلبي
من المؤكد أن ثمة تحول ملموس في الخطاب الديني .
هذا التحول المتدرج ببطء وتثاقل لم يكن نتيجة لوجود
ضغط ما يُمارس على الخطاب الديني بل هو استجابة طبيعية للتغيّر الاجتماعي الطبيعي الذي يسير في الاتجاه الصحيح .
فإذا كان من الممكن تفسير مقاومة البعض للتغيير ممن وجد في الوعي الوجداني والتكوين الثقافي المجتمعي متلقيا مثاليا مشجعا لتحقيق نزعة سلطوية كامنة لدى ( البعض ) إلا أن تلك النزعة الكامنة ربما لا تفسر انشغال الخطاب الديني بالكثير من القضايا التي لا تلامس حاجة المواطن الحقيقية ولا تعود بالكثير من المنفعة الحقيقية على الوطن . وهو الانشغال حد الإغراق بمحاور الخطاب الديني وآلياته التي منها :
- التركيز على بيان خطر العلمانية ، والليبرالية ، والتغريبية ، والغزو الفكري ، والمؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والمسلمين ، لتشكل خطرا على الهوية والعقيدة !
- التركيز على محاولات كسب الانتصارات على المخالفين !
- ( الأممية ) أو ما يسمى " قضايا الأمة الإسلامية " !
- " شخصنة القداسات " وارتباطاتها وأدبياتها وأبجدياتها وتشابكاتها ..
- الإغراق والانشغال بـ " الخلافية " والأحكام الشخصية والتوقف عند نتاج السلف دون النظر إلى تأثير المكونات الأساسية لمحيط الفرد والمجتمع في كل عصر على العقل المنتج والمتلقي معا ، الأمر الذي يشكل عائقا للإبداع والاستنتاج ومرونة التفكير ، ويؤثر سلبا على طريقة وأساليب التفكير ، ويمنع كل محاولة لإعمال العقل في مقابل نشاط عملية الحفظ واسترجاع نتاج علماء السلف ، مما لا علاقة له بالعصر ومعطياته على مستوى الوطن ولا بهموم المواطن التي تشكل واقعه الحقيقي المعاصر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي .
ومن الأمثلة على آلية الإغراق والانشغال بـ " الخلافية " كأهم آليات الخطاب الديني :
أولا : التركيز على كثير من المسائل الخلافية باعتبارها محرمات أواجبات قطعية ثابتة ومن يقول بغير ذلك فهو مخالف حتى لو كان عالما من علماء الإسلام الكبار .
والأمثلة على ذلك كثيرة ، إلا أن أوفرها حظا في الجدال والنقاش بانفعال وتعصب ، وفي تسفيه الرأي المخالف بشأنها ، وفي حشد ما يُعتَقَد أنه أدلة على تحريمها أو وجوبها ، هو :
( 1 ) : الاختلاط ، غطاء وجه المرأة ، النقاب باعتباره حجاب ، صوت المرأة وصورتها ، قيادة المرأة للسيارة ، عمل المرأة والتخصصات العلمية من حيث ما يناسبها وما لا يناسبها ،
" المحرم " والمرأة بائعة أم مشترية ! وتسمى كل هذه المسائل الخلافية بـ " قضايا المرأة " ثم الإغراق والانشغال بهذه القضايا حتى ليكاد " الآخر " أن يقول : هذا المجتمع ليس لديه أي إشكالات سوى " قضايا المرأة " !
( 2 ) : الموسيقى والغناء ، الدف في " الأعراس " والاحتفالات الشعبية ، السينما ، الورد الأحمر والأعياد التي تسمى مجازا
بـ " الأيام والأسابيع " كاليوم الوطني وأسبوع النظافة – حيث يحرم يوم الوطن ويحلل أسبوع النظافة - ! وتسمى هذه المسائل الخلافية بـ " قضايا مخالفة الكفار " ثم الإغراق والانشغال بانفعال حاد وحدة في النقاش وثورة للثوائر حتى ليكاد " الآخر " أن يجزم أن هذه مسميات لأصنام تقام في السعودية هنا وهناك كما كان المشركون يسمون أصنامهم التي يعبدونها لتقربها إلى الله
زلفا !
( 3 ) : الجن والسحر وتفسير الأحلام ، وتسمى قضايا ( المس ) ، ثم الحديث عن هذه ( القضايا ) وتلقي المتلقي للحديث عنها باعتبارها مسلمات قطعية وحقائق ثابتة .!. ثم الإغراق والانشغال بذلك حتى ليكاد " الآخر " أن يجزم بوجود الجن تسكن أينما سكن السعوديون وتأكل مما يأكلون ، وتشرب مما يشربون ، وتتلبس منهم ما استطاعت ، وتختطف ما استطاعت ، وتسحر من النساء والرجال ما استطاعة !
ثانيا : قضايا المعاصي ومن الأمثلة على ذلك زلال " العيص " سببه معاصي أهل العيص ! فأي معاصي وهم الفقراء .. ؟ يقطنون العشش ، ويشربون مياه الآبار الملوثة ويعالجون أبنائهم في مستوصف يعمل به طبيب واحد وممرض واحد وسيارة إسعاف متهالكة لا تفي بنقل من يتعرض منهم لحوادث طرق وزارة النقل بينما يتنقل الشيخ المُحذّر من معاصي أهل العيص لإلقاء المحاضرات الوعظية من مدينة لأخرى وربما من دولة لأخرى بواسطة أحدث وسائل النقل !
وكل ذلك يحدث في الوقت الذي ينتقل فيه مرض أنفلونزا الخنازير من مدرسة لمدرسة ومن محافظة لمحافظة وكأنه يفعل ذلك في
( بلاد ما وراء البحار) ! ولو لم يكن وباءً عالميا لقيل أنه عقاب لمعاصي أرتكبها السعوديون !
وبصفة عامة لا تجد للوطن ولا لهموم المواطن اليومية والحياتية نصيب من كل ما يشغل ويحشى به عقل المتلقي .
فإذا كان من الممكن إرجاع التركيز على تلك المحاور والآليات إلى
" الأممية الإسلاميوية " فكيف نفسر تقبل المثقف الديني لإغراق العقل المتلقي بما لا يتفق مع منطق العقل كما في أساليب
" الدعاة الجدد " لنشر الخرافة وتسطيح العقل ؟
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
الفتاة التي تحولت إلى " عنزة " لارتكابها " معصية " ،
والشاب الذي يتشكل جسمه وفقا لما يموت عليه ، والطفل الذي حفظ القرآن الكريم في سن الثالثة من عمره . وغير ذلك من المعجزات والمكرمات والكثير من الصور الخرافية .!
ومع الإقرار بأهمية الوعظ الديني في كل حضارة عقدية
وفي حياة المسلم بشكل خاص ، إلا أنه في ضوء غزارة الإنتاج
" التدييني " والوعظي البعيد كل البعد عن حاجات المواطن الأساسية في الحياة يمكنك أن تتساءل :
أين الطوابير الممتدة إلى الشارع أمام مستشفيات وزارة الصحة المخصصة للطبقة الدنيا من الشعب ؟
أين الأمراض المنتشرة بسبب ( بمعنى السبب ليس مجهولا)
المواد الكيميائية المضافة للمواد الغذائية والوجبات السريعة ؟
أين الفساد المالي والإداري المتفشي في البلاد ينهب الأموال العامة ويقصف أرواح العباد ؟ أين دور المؤسسات الرقابية المفقود ؟
أين الأنظمة الإدارية والخدمية المتهالكة البالية وإجراءاتها المعقدة والتعجيزية ولوائحها القديمة الفاسدة ؟ أين البطالة الحقيقية والبطالة المقنعة ؟ أين دور المواطن في الرقابة والمحاسبة بدلا كونه عالة يتلقى كل شيء فحسب ؟ .
أين كل هذا وغير كل هذا من أجندة الواعظ الديني المثقلة بالمحاور والآليات الوعظية ؟ .
أين كل هذا وغير كل هذا من الانشغال والإغراق بما لا علاقة له بقضايا وإشكالات المواطن ، وبما يمكن أن يحشى به عقل المتلقي باسم الدين مهما ابتعد عن الواقع ؟ فالحشو العقلي هو السائد وهو الضارب في وعي العامة من المنبر التدييني والوعظي ، إلى المناهج الدراسية ، إلى الكتاب والصحيفة ، إلى المسجد ومواقع العمل حتى أصبح لكل مواطن شيخ ، ولم يكن لكل 1000 مواطن – كحد أدنى - طبيبا وحدا ! .
هذا هو الوضع السائد :
أعمل لآخرتك كأنك تموت غدا وأعمل لدنياك كأنك تموت غدا ! لكن من هو المتلقي لهذا الحشو الوعظي ؟ أنه المواطن البسيط المتلقي لكل شيء وهو الذي يشكل للواعظ القاعدة التي يرتكز عليها وينطلق منها نحو هدفين أساسيين :
هدف مشترك هو " الإسلاموية " ، وآخر شخصي هو امتيازات الواعظ الديني .
فهل ستظل امتيازات الوعظ والفتوى – وهما الجانب الأكثر حضورا في الخطاب الديني - مبررا قويا وحافزا أقوى للعيش في أبراجه الفوقية ؟
لا اعتقد أن الساحة الفكرية والثقافية تفتقد الآن كليا لمن يعلق
أمالا عريضة على المثقف الديني في التحول نحو القاعدة !
والشعور بالمسؤولية نحو الوطن والمواطن .. الإشكالات ،
الحقوق ، الإخفاقات ، الآمال ، والطموحات ، رغم كون هذا التجاهل الغالب للجوانب التي تسحق المواطن يأتي في سياق التطبيق للتقليد الوعظي الراسخ والذي يقتصر على جوانب الفقه والنقل فقط .
فمن غير المتوقع أن يضل الديني يرتكز على وجدان المواطن
دون أن يلتفت لهمومه وإشكالاته .
التعليقات (0)