مواضيع اليوم

شهادة قصة قصيرة حمادي بلخشين

حمادي بلخشين

2011-09-02 09:30:29

0

شهادة

لم أفاجأ كثيرا حين بلغني مقتل صديقي و زميل دراستي رشيد سلامة.. غير أنني صعقت حين قيل لي أن تهمته كانت الانتماء لتنظيم القاعدة، فقد عرفت الرجل شيوعيا، و لكن شجاعا الى حدّ التهوّر و نبيلا الى حدّ القداسة.. كلما اعتقلنا، كان الوحيد الذي يصمد، ضاربا المثل على صاحب المبادئ الذي لا يهادن.. رغم بشاعة التعذيب الذي كان يتعرّض له في كل مرّة، كان رشيد سلامة يعيد الشتائم الى جلاديه بأقبح ما كان يتلقّاها!

حين قابلت الرفيق السابق توفيق عمّار في مقهى البلدة، ثم تذاكرنا رشيد سلامة و التهمة الملصقة به، علق توفيق عمار وهو ينفث دخان سيجارته:
ــ لا جهاد ولا بطيخ.. كل ما في الأمر أن المغفّل قد أصيب بلوثة دينية طارئة جعلته يرتاد مسجد حيّه.. فكانت زيارته الأولى هي زيارته الأخيرة.

كنت أعلم مدى كراهية توفيق عمار لرشيد سلامة و ذلك لأسباب كثيرة لعل أظهرها أن الأخير لم يكن يفوّت فرصة واحدة دون تعيير توفيق عمّار بجبنه و وصوليته، خصوصا بعد قبوله جائزة الإبداع الأدبي التي رصدها الحزب الحاكم، لكنني لم أجد أي سبب لإستمرار حقده عليه ولمّا يمرّ شهر على وفاته، خصوصا و ان توفيق عمار كان يتزلف إلى الفقيد، و لا يكاد يفارقه في غدوه و رواحه.
سألت توفيق عمار:
ــ متى علمت بوفاته؟
أرجأ توفيق عمار اجابته ريثما طلب قهوتين، سحق عقب سيجارته ثم أجاب:
ـــ كنت شاهد عيان..
إستمر توفيق عمار بعد أن تفرّغ طويلا لمتابعة مؤخرة استثنائية مرّت أمامنا:
ـــ في يوم اعتقال رشيد سلامة قصدت بيته.. كانت معي زجاجة فودكا أصليّة و بعض شرائح السلمون المدخّن كنت تلقيتهما هدية من صهري العائد من أوكرانيا.. أحببت ان أقاسمهما رشيد.. حين فتح لي الباب كان معصوب الرأس دامي الشفة السفلى، بادرته سائلا:
" هل رجعت من حرب العراق؟" ردّ على بصوت واهن" " بل أرجعت من مسجد النور!"
سألته ضاحكا: " تقصد أرجعت من مسجد النورماندي؟"
ردّ علي وهو يوصد باب شقته:
" بل من مسجد النور"
تناول توفيق عمار رشفة من قهوة وضعت في التوّ أمامه، ثم قال موضحا:
ــ ساروي لك كل أقوال رشيد، رغم تحفظي على جملة ما قاله في شأن معتقداته الخاصة.
تناول محدثي رشفة أخرى ثم استمر:
ظننته يمزح الى حين تذكرت انه قد اخبرني قبل أسبوع أنه قد قرّر افتتاح مرحلة جديدة من حياته بعد اكتشافه أخيرا ــ و كما كان يخيّل إليه ــ أن الخلل يكمن في المسلمين لا في الإسلام ذاته.. ساعدته للوصل الى سريره، حين أستوى عليه ممدّدا، بادرني بصوت خافت:
" فور دخولي قاعة الصلاة، وجدت الإمام الإقطاعي الدكتور جلّول مصباح... تعرفه دون شك .. يفتتح درسه قائلا لمن حوله" سنتناول اليوم بالدرس و التحليل و بإذن العليّ الجليل، ما صحّ عن النبيّ في فضل الفقر، وما أعده الله لفقراء أمّته من جزيل الأجر و الثواب"... حينذاك غلت الدماء في عروقي. كان الإمام ــ و كما تعلم جيّدا ــ يملك خمس عمارات، و ثلاثة دكاكين لبيع اللحم بالإضافة الى سوبر ماركت و محلّ حلاقة وقاعة أفراح. كما كان يملك ايضا سجّلا أسودا في ذاكرتي. فقد كان مورّطا في التبليغ عن الكثيرين من بينهم أخى الذي قتل منذ سنتين و جارنا الذي يقضي الآن عقوبة بالسجن المؤبد.. اقتربت من الإمام حتى لمست ركبتاي ركبتيه.. طالعت وجهه المتجهّم لرؤيتي.. دققت النظر في عينيه الضيقتين ثم سألته متحرّشا" و هل لدى فضيلة الدكتور شيئا ممّا ورد في فضل الإيدز و الحمّى القلاعية و أنفلونزا الطيور ؟" ..زاد وجه الإقطاعي تجهما.. سألني هازئا:
" ماذا تعنى يا رفيق سلامة تشوف.. ؟"
قاطعته قائلا:
" ستكون للفقر فضائل في صورة واحدة"
سألني متهكما :
" أفدنا بها يا حكيم الزمان"
" ستوجد للفقر فضائل في صورة وجود حياء لدى مومس و جمال لدى شامبنزي"
أجابني وهو يغلق صحيح بخاري كان بين يديه:
" ما دمت تكذّب كلام صاحب الرسالة عليه السلام، فلم تدخل بيوت .. ". قاطعته زاجرا:
" و ما دمت غافلا عن أهمّ مقاصد" صاحب الرسالة"، فلم تنصّب نفسك متكلما عنه ، ثم ألم يكن "صاحب الرسالة: يستعيذ من الفقر كما كان يستعيذ من الكفر؟ ألم يقل أيضا "كاد الفقر أن يكون كفرا"؟.
حين أعجزته الحجة غادر الإقطاعي الخبيث مقعده ثم شرع يصيح كامرأة من العوامّ:
" يا ناس هذا شيوعي يريد تبديل دينكم"
صحت بأشد من صياحه:
" أنت الذي تريد حجب دين جاء لحرب الإقطاع بأفيون سلفي يكرّس الفساد و يثبت عروش المفسدين.. ثم ما الفائدة في تذكير شعب يعيش تحت خط الفقر بهراء سلفيّ يمجّد الخصاصة ويشرّع للمسكنة؟"
صاح الإمام الخسيس محرضا من كان حوله:
" هذا كلام سياسية و المساجد لم تجعل للحديث في السياسة . ثم ما دخلك بالدين و أنت شيوعي كافر؟"
حين هممت بالردّ عليه وصلني صوت يقول بهدوء و ثقة :
" سيدي الشيخ لا تكن قاسيا مع الرجل"
حين التفت لمحت كهلا كان حديث العهد بالسكني في هذه العمارة.. رغم عدم معرفتي السابقة به، فقد كان ودودا و سبّاقا الى إلقاء التحية كلما التقيت به في بهو العمارة أو خارجها .. واصل الرجل:
" قال الله تعالى(( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر)) ثم متى كان الكفّار يرتادون المساجد!"
صاح الإمام بأشد من صياحه الأوّل:
" أنا أعرف هذا الرجل، انه مشاغب و مجرم و عدوّ الأمن و النظام" ردّ عليه جاري بأكثر هدوء:
" هدئي نفسك يا دكتور، فالرجل ليس ابليس حتى تيأس من صلاحه؟"
ردّ الإمام غاضبا:
ــ هذا ألعن من ابليس"
رد عليه الجار سائلا:
" ثم ألا يمكن للكافر أن يصير مسلما؟"
فغر الإمام فاه.. قبل ان يجيب بادرته :
" ألم تسمع يوما بأبي ذر الغفاري"
صاح الإمام مرائيا" طبعا سمعت.. هو صحابي جليل"
رددت عليه هازئا " سيكون هذا " الصحابي الجليل"، وفق تصوّرك الكهنوتي للدين، أكبر مشاغب وعدوّ للنظام لأنه كان يدعو صراحة الى ثورة شاملة فهو القائل و ليس انا،"عجبت لمن بات جائعا و لم يخرج على الناس بسيفه"!.

رد إمام السّوء و قد اسقط في يده:
" من استشهدت بقوله كان مسلما و لم يكن مشركا مثلك"
تدخل الكهل من جديد:
" يا فضيلة الدكتور... لا تنس ان الفاروق عمر أيضا كان مشركا.
صاح الإمام معترضا:
" أرجوك سي رضوان لا تشبّه الفاروق عمر بحشرة شيو...."
لم أمهل الخسيس ليتمّ شتيمته، وجدت نفسي أركله بكل قوّة بين فخذيه. لم أشعر بعدها بشيء، فقد انهالت علىّ اللطمات من كل جانب وصوب و بكل مقاسات الأحذية.. حين أفقت وجدت نفسي مرميّا في غرفة ملحقة بالمسجد و بجانبي ذلك الكهل يضمّد جراحي.. حين اتم ذلك ناولني شربة ماء.. حاول التخفيف عني...التفت يمينا ثم يسارا قبل ان يقول لي بلهجة مرحة:
" لو حضرت بالأمس درس دكتور الغفلة لرأيت عجبا... فقد انتفخت أوداجه حين شككت في صحّة حديث" موتوا قبل أن تموتوا"! الذي جعله البائس موضوع محاضرة طويلة و باردة كليلة شتاء، دعا فيها طويلا الى الزهد في الدنيا و في جاهها و مناصبها.. حين قلت له ان الإسلام جاء لإحياء الناس لا لإماتتهم و(( لينذر من كان حيّا))، احتجّ التافه بان جميع رجال سند الحديث موضع اعتراضي قد حازت مروياتهم قبول الأمة.. تركت الدكتور يلغو بما شاء له غباؤه، شغلت عنه بمحادثة نفسي " ايتها الأمة المسكينة كم من مخازي علّقت على شمّاعتك. ثم أي مهزلة فرضت على" الأمة الأمة " ، فواجهت قائلها بالتوبيخ و التشنيع؟...ألم تؤمر أمتنا بإطاعة من جلد ظهرها و سلب مالها و استباح مهجها فأطاعت؟!... مسكينة أمتنا انها لا تختلف عن حاوية مفتوحة لكل جيف الأرض و زبالاتها!"
رغم جراحي قلت معلقا:
" لكنني يا سي رضوان لا أشاطرك الرأي في رد حديث "موتوا قبل تموتوا" خصوصا بعد أن اجتهدت امتنا في العمل بموجبه و التمثل به لأكثر من ثلاثة عشر قرنا و نيف!"

احتسى الرفيق توفيق عمار بقية قهوته ، مسح فمه بكفه ثم فاجأني قائلا و على غير عادته :
" لقد تيقنت من صدق تديّن رشيد سلامة حتي رفض تلك الليلة و بإصرار عجيب، دعوتي الى الموت سكرا، لعلنا نلحق بأمّتنا الخالدة الى عالم الأحياء ــ الأموات، فحرام ان نخرج عن الإجماع فنظل نحوم خارج سرب امة رضيت بالموت قبل أن تموت.. أضفت محاجّا" أليس نبيكم هو القائل لا تجتمع أمتي على ضلالة؟.. فعين الضلالة اليوم ألاّ نموت سكرا.. هيّا يا رجل . لتكن هذه خاتمة السكرات قبل أن يتكفل أفيون الدين بتغييبك الى الأبد!
كان رفض رشيد صارما:" كان ذلك بالأمس أم اليوم فلا." علمت فيما بعد ان رشيد صاح قبل يوم واحد وهو يفتتح آخر سكر في خمّارة النورماندي:" فلنشرب جميعا على نخب الملك الضلّيل فاليوم خمر و غدا أمر"...
قطع حديث الرفيق توفيق عمار مرور " صدر أعظم" ــ التعبير لصنع الله إبراهيم" فات جنبنا مخلفا اريجا من عطر باهض الثمن" حالما استعاد جليسي رشده، تابع روايته:
ـــ ما كاد رشيد سلامة يجدّد لي اعتذاره عن سكرة استثنائية واعدة، حتى سمعنا قرعا عنيفا يهزّ أركان شقته... كنت في طريقي لفتح الباب حين عاينته يخلع أمامي مفسحا المجال لما يقارب من خمسة مسلحين و آخرين بثياب مدنيّة.. حين انتزع رشيد سلامة من فراشه، كانت زجاجة الفودكا و قطع السلمون المدخن خير شافع لتبرئتي من كل مؤاخذة... في صباح اليوم التالي أستدعيت والدة رشيد سلامة الى دائرة الأمن، قيل لها بكل أسف أن ولدها قد أختار الموت شنقا في زنزانته، على شنق قريب كان سينفذ فيه لا محالة بعد وجود أكثر من دليل على تورّطه في قيادة خلية إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة بالمغرب العربي!
سالت توفيق عمار:
ــ ما لم أفهمه هو قتل الرجل بتلك السرعة ودون أي دليل.
اقترب مني توفيق عمار ، أدنى اليّ هامته الصلعاء ثم قال لي بما يقرب الهمس:
ــ أثناء التحقيق معه، تمّكن رشيد من اختطاف سلك معدني مما يستعمل لفتح الرسائل كان يستقرّ على مكتب المحقق ــ الذي يبدو انه أهانه ــ، و تمكّن بواسطته من فقء عينه ثم بقر بطن ضابط آخر هرع لنجدة زميله الأعور، و تلك بادرة لم تحدث من قبل.
التفت توفيق عمار يمينا و شمالا دنا مني اكثر ثم اضاف:
ــ أثناء جلسة خمرية خاصة أسرّ لي صهر الضابط المناوب الذي واصل التحقيق مع الفقيد ان صهره قد أقدم على قتل رشيد حميّة لما حدث لزميليه.
ــــــــــ 2 ـــــــــــ
حالما ودعت توفيق عمّار، وردت على خاطري سير أصحاب محمد. و كيف كان الواحد من هؤلاء العظام يسارع بمجرد إسلامه
الى التعبير العملي عن حقده المقدس لأعداء الإنسان.

ــــ 3 ـــ
حين أدركت مقبرة البلدة، لم أحتج الى كبير جهد لتمييز قبر حديث التشييد ترحّمت طويلا على دفينه.. المشوار الإيماني القصير لرشيد سلامة مقارنا بتاريخي الإيماني الطويل أشعرني بالخجل و التقصير.
.. ليرحمك الله يا رشيد .. كنت شنفرى في جاهليتك، حمزة في إسلامك..
" لو كان لك بعض يقيني، لكنت مدفونا على يميني!"()
ليصلني الربّ بناره ، إن لم يكن هذا هو ردّ رشيد سلامة.. لو أتيح له الردّ.
ـــــــــــــــــــــ
() الأصل التراثي" لكنت مصلوبا على يميني"

أوسلو 27 جوان 2009




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !