شنوربارت العـظمة
".. القليلون منّا يستطيعون القيام بأشياء عظيمة، لكننا جميعا نستطيع القيام بأشياء صغيرة و نحن نشعر بحبّ عظيم ..".
الأم تيريزا
نعود إلى الأشياء البسيطة في عدّة محطات من حياة الإنسان، نرممها و ننفض عنها بعض الغبار الذي كان قد أخذ له مكانا في زواياها، ثمّ نسلمها للساحر الأمين، فيمضي بها تاركا وراءه الكثير من الألم الحلو، و غير مدرك لما هو آت أبدا.
إنها قصة جميلة يرويها الإنسان لبني الإنسان، حين تغلق الأبواب المعرفية، و حين يحسّ الساحر بالتعب، فالقيمة ليست في النتيجة، و لا هي في المقدمات، و إنما هي في خطوات القيمة في التدرج من العظيم إلى البسيط على نحو يكفل الفرجة و المتعة، إضافة إلى التفجير الكامل للطاقة الفكرية المصاحبة لعمل الأعضاء كافة.
قد لا يفهم الساحر الكثير من الأمور التي يقوم بها، و لكنه يدرك شيئا واحدا و وحيد، إنه هو الذي يحرِك و يحرَك منذ فجر قيام الوجود، إنه هو المدار و الفلك، إنّه هو الشاعر و الشعر و الجمهور الشاعريّ و الشعري، إنه هو في صورته المتيقنة، إنه الساحر.
و في ثانية من ساعة يده اليمنى، تختلط الأمور عليه، فيشد نظره إلى لافتة زيتية موضوعة على الحائط المقابل للنافذة الزجاجية، فيقع في تفكيره الكثير من الألغاز المتناقضة، ألغاز جعلته يبكي كثيرا، و لا يهنأ له بال ما دام التفكير لم يتوقف، فقديما كان للسحر المعنى الذي يضاهي النوويات في عصر أتلفت فيه المعاني كلها، و لم يبقى منها إلاّ الخليج الباكي.
و من خلال هذه العملية العسيرة، تظهر للساحر فكرة لا تقوم بما قام به الكثير، فكرة تنزل إلى أعماق كلّ إنسان، لتصنع من أحلامه موردا للعيش، و الذي لا يبدوا أنه كله جميل، و هذا من أجل الخلطة الشعورية الجامحة، فكلّ إنسان يسموا بنفسه ابتغاء للعظمة و التفرد.
لقد انتبه الساحر لأمر نسيه. نعم !! إنها العـظمة !!!
نعم تذكـر الساحر شيئا أحبه في أحد أوقات حياته، فأحمر وجهه الذي لا يحمر إلاّ عندما يحس الساحر بالحرج، و اصفرت جبهته التي لا تصفر إلاّ عندما يدخل الساحر في دهشة غريبة، و أخذت يداه و قدماه ترتجفان ارتجاف طائر بين أنياب مفترس شرس.
".. إنها فكرة العـظمة اذن .." هكذا همس الساحر في قلبه، و سرت تلك المعلومة في كامل خلاياه على اختلاف أنواعها و أشكالها و وظائفها.
فهذه الفكرة كثيرا ما راودت الساحر أثناء طفولته، و قد زيّنت عقله بكثير من الأماني عندما كان في سنّ يرى العالم كله مكانا جميلا، كجمال العذراء القاتلة، أين بإمكانه أن يكون نبيلا، كما يحدث في روايات الإقطاعيين. و لكن هذا كله لم يحدث حتى الآن، حيث يقف الساحر و يدرك من هذه النقطة عملية التفكير كله. و فجأة تدور عدّة صور في ذهن الساحر العنيد، صور كثيرة هي لأكثر العظماء عظمة في تاريخ البشر، و الصورة الأخيرة هي للساحر نفسه.
في هذه اللحظة بالذات يدق باب البيت السحريّ، يفتح الساحر الباب بخطوات متثاقلة، و إذا بابنته العزيزة جدا على قلبه تستقبله بابتسامة رقيقة، و نداء لطالما أحبه الساحر: " يـا زعيم السحرة، أبي اشتقت إليك و أنا أحبك " و أخذته في أحضانها ببراءة كاملة و قوية تعبّر عن صدق نـادر.
فبينما الساحر يمرّ بفرح عارم من الذي هو فيه، مرّت عليه فكرة العظمة من جديد، و عادت إلى ذهنه مرة ثانية، و لازمته في أثناء استقباله لابنته الغالية، و حتى عندما تناولا بعضا من الحلوى، و شربهما لكؤوس من الشاي، و أيضا لما ودع الفتاة عند نفس الباب، مازالت العظمة فكرة متشبثة بتفكير الساحر.
و هنا أدرك أنّ لا مفرّ من مواجهة هذه الفكرة، و إلاّ ستأخذ منه متعة أهمّ فترات حياته القصيرة. فجلس في غرفته و سأل نفسه: " كيف أكون عظيما؟ "
الآن بدأت المواجهة، فبطرح الساحر لهذا السؤال يكون قد ألغى صفة العظمة، و سلخها عن نفسه التي تحلم بها، و يكون قد وضع لها اشكالية، صاغها لتعبّر عن هدفه الحقيقي حقا و فعلا.
إنها الخطوة الأولى نحو الإجابة، أو الإجابة اليقينية و الغير المتوقعة، لأنها عملية اعتراف داخليّ و صريح بعدم إدراك الذي نسعى لإدراكه، اعتراف بجهلنا له.
بعدها فكّر الساحر حتى تعب، و تصادمت في عقله الكثير من الأفكار، من بينها فكرة الفساد و فكرة الاجرام اضافة إلى أفكار أخرى أكثر ايجابية كـفكرة مساعدة المحتاجين، و فعل أنواع من الخيرات دون انظار أيّ ثواب. لكنه في الأخير تيقّن أنّ كلّ هذه الأفكار الجيّدة و المتكاملة ترتبط فيما بينها برابط وثيق، و معرفة هذه السلسلة الفكرية من معرفة شخصية الساحر الحقيقية.
بعدها انفجر الساحر ضاحكا، و انغمس في قهقهة عجيبة، و حدّث نفسه عن غبائه كثيرا، فهذا الغباء هو الذي أزاغ تفكيره عن أنّه عظيم في ذاته، فلِما يريد كشف عظمته للآخرين؟ إنهم لا يستحقون أن يروه على حقيقته، إنهم أقل شأنا منه ما دام عظيما. و بالتالي العظمة ستلهيه عنهم، و ستجعله يفارق أغلى و أعزّ أناس أحبهم و أحبوه، فالعظيم عظيم على الناس، و هؤلاء يهابونه، مما سيولّد مساحة بينه و بين أحبائه، لخشيتهم منه، و لارتقائه عنهم. هكذا فكّر الساحر، و هكذا وصل إلى الإجابة التي بحث عنها طويلا. و التي تمثلت في أنّ العظمة موجودة في قاع نفس كلّ إنسان، و ما على الفرد إلاّ الاستماع إلى صوتها، فتقوده إلى الإنسانية المتألقة و المتفوّقة في ذاتها قبل ذوات الآخرين المستقلة عنها. فهي عامل تقارب على الرغم من أنها تبدوا سببا للكبر و التكبّر.
لدى في الأخير أحسّ الساحر بهناءة لا توصف، و حمد الله على أنّه ساحر عظيم في عقله و قلبه، و ساحر بسيط في عقول و أعين البشر الذين يعرفهم، و الذين لم يتعرف عليهم بعد.
السيّد: مـــزوار محمد سعيد
التعليقات (0)