معابر.. أم دروب جلجلة؟؟
شكرا للكفار لأنهم اخترعوا لنا ما يخفف الحصار
بقلم : حنان بكير
لا شك أن معاناة الفلسطيني على الحدود والمعابر، حكاية تطول ولا تنتهي فصولها عند معبر رفح وما بعد رفح... إنها معابر علّمت الفلسطيني كيف يدمن الصبر، ويحترف الانتظار، ويجترّ مرارته بصمت.
أمام مشاهد معبر رفح، الذي ترصد الفضائيات العربية والعالمية أخباره وما يجري للفلسطينيين أمامه وخلفه ، يتابع المتفرج- وكلنا متفرجون- سياسة الإذلال العربي الرسمي للإنسان الذي يطالب بأدنى حقوقه في الحياة. وكم تمنيت لو أن قناة الجزيرة وسواه من القنوات الجادة قد وُجٍدت قبل ستين عاما، لتؤرخ وتوثّق تلك السياسة القائمة على الإذلال، والقامعة لكل المشاعر الإنسانية، دون أدنى مبرر لذلك. إنها معابر لا يقتصر دورها على الحصار والسجن،إنما تعدّتهُ إلى محاربة الأطفال بلقمة خبزهم اليومي، وبالقليل من الأوكسجين الذي يتنفسونه. كلنا شاهدنا الطفل الذي يضخّ له أهله الهواء بطريقة بدائية ودون توقف، مما استدعى عملا جماعيا تضامنيا من العائلة والجيران. ليت هذا الطفل يعلم أن أنظمته العربية هي أيضا مثلهُ لا يمكنها الحياة إلا بضخّ الأوكسجين في رئتيها من الذين يقطعون الهواء عنه.
كم من عائلات مزقت وحيل بينها بالأسوار التي تمزق ما بين القلب والقلب.. كيلو مترات قليلة تفصل الأخوة عن بعضهم، والوالدين عن أبنائهم، ولا سبيل إلى اجتياز تلك المسافة، إلا بالأحلام وعبر الانترنت ، كما صرحت امرأة حرمت من أبنائها لسنين طويلة : " كنت ألاقي أولادي كل ليلة على النت ". وبالنيابة عن تلك السيدة نشكر الكفار الذين اخترعوا لنا ما يجعلنا نتخفف من وطأة الحصار، حيث نعبر الحدود و نتجاوز المعابر بدون خوف أو حاجة إلى اقتحام . تلك اللقاءات السابحة في أجواء الأثير لا تمنح الإحساس بفرحة أمسية نلتقي فيها العائلة، لكنها قد تطفيء نار الحنين و تخفف من مشاعر الحرمان. وهي كما قلت حكايات متنوعة كشفتها الجزيرة وسواها، بعد أن كانت جراحا خبيئة لا تعني إلا أصحابها .
مخيمات الفلسطينيين في لبنان
كان ذلك عام 1985. حين وضعت معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تحت الحصار، وكانت هناك أيضا معابر الرعب والذل، تفتح و تغلق بمزاج أصحاب القرار، الذين أطلقوا أيدي المنفذين لممارسة ما يحلو وما يتماشى مع نزعاتهم العنصرية والشيطانية، من ذبح وتجويع ونهب واستباحة أعراض، والسبب، أنك ولدت بهوية لا يُعترف بها هوية.
حكايات تلك المعابر، كانت بالألوان الطبيعية، الأحمر والرمادي والأسود، لون الدم والحرائق. من سمع عن معبر الموت وهو أحد معابر مخيم برج البراجنة ؟ بالطبع لا أحد غير الذين عايشوا تلك المرحلة. فالتسمية جدا محلية. كان المسلحون يفتحون المعابر للنساء فقط، للخروج و التسوق، بعد أن يوقفوا عرباتهم المحملة بالخضار والفاكهة والمؤن، و بعد أ يخفوا بنادقهم في الخزائن الصغيرة في أسفل العربات. تخرج النسوة، يتسوقن ثم يعدن مهرولات من المعبر المحاذي لسينما بالاس، في الشارع الرئيسي لبرج البراجنة والمعروف باسم شارع جمال عبد الناصر، ولا ندري إن كان ما زال يحمل ذات الاسم. فتتراكض النسوة وقد ناءت أجسادهن بثقل ما يحملنه من الأكياس، باتجاه الأفواه الجائعة التي تنتظر بين أنقاض المخيم.. و لكنهن لا يصلن، لأن من كانوا بائعين قبل لحظات قد تحولوا إلى هواة صيد و قنص، ويصطبغ المعبر باللون الأحمر.قضت النسوة بالعشرات على هذا المعبر و دفعن حياتهن ثمنا للقمة لم تصل إلى أفواه أصحابها.
غزة .... .رفح ، العام 1948
أخبرني أحد الذين كنت أدوّن ذاكرتهم، قصة مفجعة، لم أصدقها و جعلتني ألهث خلف من عاصروا تلك المرحلة وكانوا كبارا أو فتيانا لأسمع منهم. وعندما كنت أسردها لأحد ما كنت أطلب تفسيرا لمثل تلك السلوكيات، وبضمنهم طبيب نفسي، قلب شفتيه باستغراب كأنه غير مصدق. حدثني الحاج قائلا...خرجت من مدينة يافا بعد سقوطها عام 1948، ولأن غيبتنا لن تطول أكثر من خمسة عشر يوما، فقد قررت الارتحال باتجاه غزة. جُمعنا في مكان خال، لا أثر للحياة فيه، إلا الخيام التي نصبتها الأمم المتحدة. لا أثر، وحيث لا وجود للماء أو الخضرة فيها. كانت وجبة الغداء الرئيسية تأتينا كل يوم وفي وقت محدد وضمن طقوس معينة، حيث تأتي شاحنة قلاب كبيرة تابعة للجيش المصري، تدور دورات عدة حول الخيام المنصوبة وهي تطلق زمورا بنعيق متواصل، معلنةً وصول الطعام. فنحمل ما تيسّر لدينا من أوعية ندر وجودها، وننتظر توقف الشاحنة. كان الطعام في أغلبه خليطا من بقايا ما تناوله الجيش المرابط هناك. تقلب الشاحنة حمولتها على الأرض، فنتسابق لجمع الطعام الذي اختلط بالرمل، وعندما ننكب لجمعه، ينقض علينا الجنود السودانيون الذين كانوا في قوام قوات الحاكم المصري لقطاع غزة، بسياطهم يلهبون بها ظهورنا. وكنا في كثير من الأحيان نرسل الأطفال لجمع الطعام لأنهم أسرع منا وأقدر على التملص من سياط الجنود!!!!
إنها مجرد أمثلة قليلة من كثير مما تزدحم به الذاكرة، ولا وقت لنبشه لولا أن سياسة الإذلال ما زالت قائمة وتأخذ أشكالا أكثر حدة وقسوة .
albakir8@hotmail.com
التعليقات (0)