شعوب خلف المرآة
مزاين الإبل، شاعر المليون، وسلسلة المجلات والفضائيات الشعبية، كلها تمظهرات ارتكاسية تصيب الثقافة بلوثة التلهيج بذات القدر التي تتسبب فيه بتهتيك النسيج الإجتماعي وتفتيت روح المواطنة، أو تأجيل صناعة الوطن وفق أسس المجتمع المدني بمعنى أدق، مثلها مثل التباهي بطقوس التطبير، وضرب الهامات، وشق الجيوب، لأن كل تلك المتوالية من الممارسات النكوصية تعني في وعيها ولا وعيها الخوف العميق من الحداثة، فهي أعراض موت بطيء، وغياب قصدي أو لا قصدي عن التاريخ، تشبه ما يسميه بورخيس " شعوب المرآة " التي يتم فيها وبموجبها نفي المجتمعات والأمم والثقافات المهزومة إلى ما وراء المرايا، أو ربما تدفع لأن تنفي نفسها بنفسها خارج سياق الحداثة لئلا ترتطم بواقعها المتخلف.
ومن المفارقات التي تضاعف الإحساس المر بالتخلف عندما تجبن القيادات الروحية عن إبداء رأي عقلاني جريء إزاء هذه الكرنفالية البائسة، وعندما تضطلع بعض النخب المثقفة بدور يائس لإعلاء الشكل الأردأ من أشكال الثقافة الشعبية، وتحديث سؤال القبيلة، أو عقلنة الخصوصية المذهبية، بدعوى البحث عن الأصالة وتجذير الوعي بخطوط الدفاع الثقافية لمقاومة التوحش الحداثي، في الوقت الذي يتحول فيه العالم بشكل سريع إلى قبيلة واحدة في عصر العولمة، حيث الانتماءات اللغوية، والقومية، والدينية والثقافية الآخذة بالالتقاء في هوية مركزية واحدة، كما تتمثل في العولمة الكونية، برأي غي سورمان في كتابه الهام " العالم كله قبيلتي " مقابل التحفظ الذي يبديه فيليب بريتون على التمجيد الفارط لحتمية وطهرانية مفهوم " أسطورة القرية الكونية " وذلك في كتابه " يوتوبيا الاتصال " ليعيد الإعتبار إلى ما يسميه بيير لوجندر " الدستور المعياري لما هو إنساني ".
العولمة ظاهرة مغالية في رغبتها لفصل البشر عن انتماءاتهم القبلية و القومية و المذهبية، بغية دمجهم في مناخ اقتصادي أو تكنولوجي وثقافي مشترك، وهي بهذا المعنى الاستحواذي الشرس، تحاول القضاء على الخصوصيات، وذلك بالتحديد هو ما يولد الإنفصام داخل الفرد والجماعات، حيث الرغبة في التجاوب مع الشروط الكونية العولمة، مقابل التعصب للمقومات الدينية والقومية واللغوية، أو ما يعتبره سورمان تأرجحاً بين مكونات القبلية والمذهبية والعولمة، بحثاً عن صيغة تعادلية للمواءمة بين النزعتين المتضادتين، وهذا جوهر الحداثة كما يفترض بالمثقف إن يستوعبها.
ويبدو أن هذه الموجة الكونية لن تسمح بأي مظهر من مظاهر الاستقلال الثقافي، إلا إذا كان هذا المظهر طقسياً أو مشوهاً بحيث يبقي على تلك الجماعات خلف المرآة، ولا يعيق تمدد الحضارة الغالبة بل خادماً لها، أي الاستسلام للأمركة بمعنى أكثر وضوحاً، لكي لا يكون هنالك تضاد بين اللغة والواقع، أو انقطاع للصلة بين اللغة والعالم، حسب الرؤية البورخيسية، وذلك ناتج من قناعة تتحدد بموجبها معايير القوة والسيطرة في المعارف والقوانين والممكنات الاقتصادية والتكنولوجية، وبمعزل عن المكونات الدينية والعرقية، أو هذا ما يفترض أن يكون عليه شكل العالم في ظل العولمة.
هذا يعني أن تلك الطقوس الإرتكاسية إذ لا تدفع باتجاه شروط حقيقية وناجعة لإنتاج المثقف، لا تشكل أي خطر على الامبراطورية التي تتخذ من العولمة مطيتّها ووسيلتها للسيطرة، وقد تُدرجها تحت عناوين ثقافية مضللة كإطلاق حرية التعبير للممارسات الدينية، وإقرار التنوع، وإحترام معتقدات الآخر، حيث سمح المحتل الأمريكي في العراق - مثلاً - بالتعبير عن أكثر صور التشوه المذهبي والعرقي والعشائري في طقوس نفي خارجة من توجه يدعى القابلية للخطأ، أو كما يسميها روبرت شولز " صناعة الخرافة ". وذلك بالرهان على التحالف مع مفاعيل السيطرة المذهبية والعشائرية والقبلية ومشتبهات الليبرالية، وإحياء الرموز الماضوية بكل ما ترمز إليه من سكونية ورجعية، لإنتاج شكل مزوّر من أشكال الحداثة السياسية والإجتماعية.
تلك هي صورة من صور مرآة النفي التي تعكس مزايا القارئ، حيث تضع المثقف على حافة حادة ما بين رغبته في التمسك بخدعة هويته المنبعثة من شكلانية الطقس، ووساوسه الدائمة بضرورة الإنقطاع عن حركة العولمة الكونية. وعندما يعجز عن التعايش مع ذلك التناقض ينساق دون مقاومة إلى صرامة القوانين الإقتصادية للعولمة، دون قدرة على التشارك فيها كمنتج، فيما يقوم بمناهضة إسمية لوحشيتها من خلال الإيغال في الطقسية، لأنه لا يعي جوهرها ولا أساسها، فهو إذ لا يقيم تلك العلاقة الناقدة مع تراثه، يمارس صورة من صور تشويه الحداثة بالتأكيد على ماضويتها ولو بادعاء الأصالة والتعافي الثقافي، لأنه يقيم خلف المرآة.
يمكن للكائن أن ينتمي اليوم إلى هويات متعددة، لأن العولمة بقدر ما تستلب منه خصوصياته، تهبه فرصة العيش داخل شروط ورحابات الكوننة الثقافية. وبمقدوره، إذا ما أحدث تماسه الواعي مع جوهر الحداثة، والتخفف من رهاب اقترافها، أن يحضر لحظته وينتمي إلى القبيلة الكونية الواحدة المعولمة، مع الحفاظ على احتياطاته الروحية، أي عندما يقيم علاقة نقدية، صراعية بالضرورة، مع ماضيه وموروثاته الثقافية لتأسيس مستقبله، بمعنى مقاربة الحضارة عبر وسائلها المادية والتكسب من إنجازاتها، دون إغفال لجانبها الثقافي، لئلا تتهافت قصته الرمزية كلما أوغل في الطقوس والخيالات.
إذاً، المعرفة ليست في الحداثة فقط، والأصالة لا يستأثر بها الماضي، ولكن الخطر في الاستيهامات التي يصعّدها الكائن إلى مرتبة المفاهيم والمبادئ والاعتقادات ليمدد إقامته قدر الإمكان خلف المرآة، وعليه يفترض التأسي وليس الفرح على ما أفردته الصحافة الغربية من مساحات لطقس قتل الأب العاشورائي قبل عامين، وتهافت سفاراتها على " المزاين " فيما يشبه الفرجة التراجيكوميدية، فكل الإحتلالات شجعت " الكتاتيب " واحتفت بفلكلوريات البؤس الإجتماعي، بل اختلقت مرويات كبرى مضادة لتزوير التاريخ، من منطلق وعيها وتفعيلها الماكر لمقولة وِل ديورانت بأنه لا يمكن إحتلال إي شعب أو تدمير ثقافة، إلا عندما يتفانى ناسها بتهديمها من الداخل، وهذه هي الوظيفة التقويضية للطقوس اللا واعية.
التعليقات (0)