كثيرا ما يتردّد اتّهام الشعوب العربيّة بقصورها عن تغيير ما بنفسها واستسلامها لقدرها البائس.وواقع الحال أنّ ذلك الاتّهام لا يخلو من جوْر وقسوة في حقّ شعوب أثبتت تفوّقا في المقاومة والاحتجاج ضدّ أعدائها في الدّاخل والخارج.غير أنّ الشّعوب العربيّة تبقى في النّهاية كسائر الشّعوب الأخرى فيما تُبديه من مظاهر القبول بالأمر الواقع ومراكمة الحرمان... الضّغط المعيشي الذي ينقضّ عليها انقضاضا يشغلها،غالبا،عما تفكّر به وتنشده من كرامة وعدل وتفوّق.
يدّعي البعض أنّ الشعوب –المتخلّفة منها بالخصوص- تُفكّر بمعدتها،وأغلب الظّنّ أنّ هذا الزّعم له ما يسنده،فالبطون الجائعة لها أحكامها الضّاغطة التي لا تسمح بالانشغال بغير سدّ رمق الجوع الضامن للاستمرار في الحياة.يُمكن أن تتحمّل الشّعوب نكد الدّهر عليها بشتّى صروفه فتصبر وتكظم عن غضبها لكنّها إنْ جاعت فلن تستكين ولن تستسلم للموت إلا مكرهة.وعليه فليس من الغريب أن نعثر على كمّ هائل من الأدلّة في التّراث الإنساني الديني والوضعي الذي يُقبّح الجوع ويُنبّه إلى عواقبه الوخيمة ويدعو إلى مقاومته...إنّ الحروب والفتن الأهليّة والثّورات العنيفة التي عرفها تاريخ البشريّة نادرا ما تقدح شرارتها غير البطون الخاوية حتّى إن تجمّلت تلكم الهزّات بذرائع التنوير والتغيير وتجاهلت حقيقة أنّ الجوع هو سببها منطلقا، وبالتالي هو المنذر بالطوفان الذي يفرض على الأودية والأنهار أن تشتغل بقوّة لتُنتج الكارثة التاريخيّة أو تُمهّد لربيع جميل...
من لا يجد ما يأكل يلق حتفه نتيجة عجزه عن انتزاع الحياة رغيفا.وممّا تُردّده النّوادر الساخرة عن الشعب الصيني أنّ اللقاء بين الأقارب والأحباب لا يبدأ،بعد التّحيّة،بالسّؤال التقليدي المتعارف:" كيف الحال؟ "،بل :" هل أكلت بعد؟ "،يبدأ الحوار بينهم عن الأكل وعن الأفواه التي يتمّ إطعامها قبل الحديث عن حال أصحابها،فالشعوب أفواه تُطعَم قبل أيّ شيء آخر مهما كان سُمُوّه ووقاره...الصّين الحديثة،معجزتها اليوم تكمن،بالأساس، في قدرتها على إطعام أفواه نسلها الكثير،وهو توفّق جعلها تؤثّر بقوّة في الاقتصاد العالمي وتتهيّأ للتّحكّم في نواميسه،غير أنّه لا يُمكن ادّعاء أنّ المواطن الصيني ينعم بالحرّيّة والعدالة والمساواة وما شابه ذلك،كما أنه لا يمكن ادّعاء عزوفه عنها،بحكم انضباطه ،هو متعطّش إليها وينشدها وما تبرح تُداعب حلمه الجميل،لا يشغله افتخاره بمعجزته الاقتصاديّة عنها،رغم صرامة إيديولوجيّة حكمه التي تُحرّم عليه الاهتمام بغير التّفوّق الاقتصادي...
أليس من الحماقة أن يُسأل الجائع عن أحواله؟.. حتى قولنا أننا " نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل " لا يُقلّل في شيء من الحاجة الملحّة إلى الأكل كضرورة حياتيّة لا غنى عنها.الجوع نقيض للحياة،من ذلك نُدرك عمق القولة المأثورة:"عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته،كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه" أو "لو كان الفقر رجلا لقتلته" أو "البطن الفارغ لا يُصغي لأحد" أو "الجوع أقوى من الحبّ".
مع ذلك فلا اعتراضَ على القول بأنّ الشّعوب لا تُختزل رسالتها في بطونها ولا حتى في إشباع حاجتها الجنسية،هذه الحاجة المشبعة بنبل رسالة استمرار النسل فضلا عن المتعة،ولا اعتراضَ على أنّ الشعوب ترتقي في سعيها إلى ما يؤكّد توقها إلى الحرّيّة والكرامة والمعرفة والعدل وغذاء الرّوح.ولذلك فإنّ "محمد حسنين هيكل" محقّ حين نفى عن الشعوب تهمة أنها تفكّر بمعدتها قائلا:"ليس صحيحا أنّ هناك شعبا يُفكّر بمعدته..الشعوب أكبر من أن تكون مجرّد آلات طحين،والإنسان أنبل من أن يتحوّل إلى مجرّد خطّ أنابيب من الأمعاء تمتدّ بين المطبخ والحمّام."
غير أنّ الأرجح،أيضا،أنّ الشعوب،إذ تحوز على الخبز بما تسُدّ به رمق الجوع أو أكثر،لا تُجازف بالتضحيّة بـ"خبزها" وحياتها من أجل طموحاتها التي تؤكّد إنسانيّتها وتُحقّق أشواقها،وهي إذ تخشى على مكاسبها "البطنيّة" تظلّ تتطلّع لإنسانيّتها في أرقى صورها متربّصة باللحظة الفارقة لتقتنصها في الإبّان بحدسها الذي غالبا ما لا يخذلها.وفي انتظارها للوعد الصّادق بنصرة المستضعفين والمقهورين،وحتى تقدر على كبح جماح نزعتها إلى التّمرّد على ما تراه مهينا لكرامتها، تتسلّح بالأمل يملأ حياتها في كلّ بارقة تغيير وفي كلّ نبوءات نخبها ومفكّريها و حتى مشعوذيها ومنجّميها فضلا عن أحلامها التي لا تبرح تحقنها بالتّفاؤل...وكلّما حاصرها اليأس فكّت طوقه عنها بالتّلهّي بأيّ شيء مثل العبادة والفنّ والرّياضة وحتّى الحشيش...نادرا ما يدبّ اليأس في نفوس عامّة الشعوب التي تجد ما تأكل، ذلك أنّ بطن الجوعان يُداوم على إلحاحه معطّلا في الإنسان كلّ رغبة أخرى إلى أن يفيَ بغرضه... اليأس الأسود غالبا ما يكون مقترنا بالجوع، وعندئذ تكون الأبواب مشرّعة على كلّ احتمالات الانتفاضة والاحتجاج والثورة.والفرق بين ثورة جياع وأخرى هو في الظّروف الحافة التي تجعل من هذه الثورة عظيمة ومن الأخرى ذميمة.
ثمّة استثناء لدفع الشعوب على التضحية بالخبز والنفس لا تصوغه غير العقيدة،العقيدة الدينية بالأساس،فهي إن استٌنفرت ووُظّفت من أجل الرّفض هانت حياة الناس دفاعا عن جنّتهم التي لا يستبدلونها بخبز ولا بحياة. حتّى الثورات التي حقنتها العقيدة وألهبتها، غالبا ما تكون مقترنة باحتجاج على رداءة الحياة الدنيا حين عجزها عن توفير الخبز لأغلبية مستضعفة.ولذلك نجد الدين الإسلامي قد نزّل الزّكاة والصدقة وإطعام الجائع مرتبة رفيعة في العبادة.
رغم كلّ الادّعاء فيما قطعته الحضارة من مدنية وتطوّر جديرين بالإشادة والتنويه والزّهو فإنّها ظلّت-وأغلب الظّنّ أنّها ستظلّ كذلك- قاصرة على أن تُغيّب حاجة الإنسان للرّغيف والمطالبة به بشراسة ووحشيّة متى فقده،وهو في هذه الحالة يطلب" لقمة لا حكمة"...
إذا توفّر الخبز كان الأمل متاحا لتغيير هادئ تصنعه حكمة النّخب.،فالشّعوب تتجاوب مع حماس نخبها الصّادق غير المكْلف. وهي إذ يستعصي عليها التّغيير وتضلّ طريقه تنكفئ على نفسها وتقنع بالخبز والأمل وقد تُصغي إلى الحكمة.
أليس هذا حال الشعوب العربية؟..
التعليقات (0)