مصعب الهلالي
الحلقة (6)
إيـْرَادُ وشَرْحُ غـَـزَل المَلِكْ
(سياحة في الدوحة الملكية)
قصيدته في أمّ جُنْدُبْ
جرى التطرق في الحلقة الخامسة إلى شرح البيت الأول من قصيدة الملك في زوجته أم جندب الطائية وتفرع الحديث لتناول خلافه معها ووصفها له بعد أن طلقها بانه ثقيل الصدر ، خفيف العجز ، سريع الإراقة ، بطيء الإفاقة. وجرى كذلك التطرق إلى قصة جده الملك حجر بن عمرو (آكل المرار) ونعت إحدى زوجاته له (وإسمها هند) بذات الصفات.
ونتابع في هذه الحلقة بالشرح والتحليل لباقي ابيات هذه القصيدة :
خَلِيلَيّ مُـرّا بــِي عَـلىَ أمّ جُـنْـدَبِ ....
لِـتُقْضَي لُبَانَاتُ الفُؤادِ المُعَذّبِ
فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانـِي سَاعَةً ....
مِنَ الدّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَىَ أمّ جُنْدَبِ
ألَمْ تَـرََيـَانـِي كُـلّـمَا جـِئـْـتُ طَـارقَــا ً ....
وجَدْتُ بــِهَا طِـيـبـَا ً وإنْ لـَمْ تـَطَـيّـبِ
عَقِيلَةُ أتْرَابٍ لَهـَا لا دَمِيمَةٌ ....
ولا ذَاتُ خَلْق إذا تَأمّلْتَ جَانـِبِ
ألا لَيْتَ شِعْريِ كَيْفَ حَادِثُ وصْلِهَا ....
وكَيْفَ تُرَاعِي وُصْلَةَ المُتْغَـيّبِ
أقَامَتْ عَلىَ مَا بَيـْنَـنَـا مِنْ مَـوَدّةٍ ....
أمَيْمَةُ أمْ صَارَتْ لِقَـوْلِ المُخَبـِّبِ
فَـإنْ تـَنـْأ عَنْهَا حِقْبـَةً لا تـُلاقِهَا ....
فَإنـّكَ مِـمَا أحْدَثـَتْ بالمُجَرّبِ
//////////////////////////////////
فعند قوله:-
فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانـِي سَاعَةً ....
مِنَ الدّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَىَ أمّ جُنْدَبِ
ساعة : تفيد الساعة معنى من معنيين فالساعة هي جزء من أجزاء اليوم نهار وليله أي أنها جزء من أربعة وعشرين جزءاً زمنياً من اليوم . أو ربما قصد بها جزء قليل من الليل أو النهار ..... والشاهد هنا أن امرؤ القيس يقصد المكوث وقتا قليلا مع زوجته بدليل أنه شفعها بقوله ( من الدهر تنفعني لدى ام جندب) والدهر هو الزمان أو الأجل الممدود ..
فإذا كان الأمر كذلك فربما يدفعنا للتساؤل عن طبيعة العلاقة بين الرجل وزوجته هنا وهل يكتفي الزوج الغائب عن زوجته بساعة واحدة بقضيها معها مستاذنا من أصحابه ثم يغادر على عجل ؟؟؟؟ وقد يشتم من هذا التصريح أن امرؤ القيس لم يكن يصبر على إمرأة واحدة أو أنه ملول أو ربما كان يقتصر في علاقته مع النساء على الجانب الجنسي لبس إلاّ على العكس مما رأيناه فيما بعد من شعراء أمثال جميل بثينة وكثير عزّة والمجنون .. بل وحتى عمر بن ابي ربيعة الذي وإن كان (ذوّاقة ً) يتنقل بين أحضان عدة عشيقات إلا أنه لم يغفل الجانب الرومانسي في علاقته بهن . وربما قضى الليلة باكملها يتجاذب حلو الحديث ليس إلاّ ، ثم ينهض عند الفجر متسللا إلى الخارج ..... وله في ذلك طرائف كثيرة سيتم التطرق إليها في محلها عند تناول شعره إنشاء الله.
ولعل هذه النزعة الأنانية لدى أمرؤ القيس هنا إنما تعود لسبب طاري وليس طبيعة فيه .. أو بمعنى أصح انه كان لأم جندب دورٌ مّا جعل هذه العلاقة فاترة باردة . ومن ثم ضاعفت من الخلاف العميق بين أمرؤ القيس وأم جندب والذي أدى فيما بعد إلى سرعة الطلاق خاصة بعد وقوفها إلى جانب متحديه الشاعر "عمرو الفحل" ثم زواجها من هذا الشاعر بعد ذلك..... وعلى كل فالأرواح جنود مجندة ما تآلف منها إئتلف وما تنافر منها اختلف هذا على صعيد الجانب النفسي ......
ولكن وفيما يتعلق بالحياة الجنسية بين الزوج وزوجته ، فكما الرجال أنواع من ناحية طرق إشباع الغريزة . فإنّ النساء أيضا انواع وقد فرق العرب منذ فجر تاريخهم بين عدة أنواع من النساء لجهة الشهوة والغريزة الجنسية فمن النساء من سميت بالشفيرة ومنهن القعيرة ، و السريعة ، والبطيئة ، والهادئة ، والأنـُوفَـة ، والنضّاحة ، والربوخة ولكل واحدة من هؤلاء مزاجها المختلف .... هذا فضلا عن الأمزجة النفسية الأخرى على حسب تفاعل كيميائيات المخ .
ومن ثم فإن إمرأة على نهج (أم جندب) في قوة الشخصية والإرادة الحديدية ما كان لها إلاّ أن لاتقنع سوى بمن يأتي لها على مطلبها الجسدي ومزاجها النفسي . ولأجل ذلك حتما نشب الفتور ثم الخلاف بينها وبين أمرؤالقيس . وأرجح الأقوال تفيد بأنها قد طاب لها فيما بعد معاشرة الشاعر عمرو الفحل بعد زواجها منه.
وبالجملة فهذه أنماط تتوقف عليها السعادة الزوجية من عدمها ولكن ليس معنى ذلك أنها تؤدي إلى الطلاق دائما خاصة وان للنساء حسابات اجتماعية أخرى وقدرة على الصبر .. ولكن برغم ذلك فهناك من لا تستطيع الصبر أو المسايرة والرضا بالمقسوم والنصيب والحظ فتثور وتنشز حتى لو وضع لها زوجها كنوز الذهب تحت أقدامها.
وفي ظل انعدام الشفافية المطلقة بين الجنسين في المجتمعات التقليدية الشديدة التحفظ مثل مجتمعنا العربي . والذي يخجل فيه الذكر والأنثى على حدٍ سواء من فتح باب النقاش في مثل هذه الأمور ..... وبالتالي يبقى (الحـظ) وحده هو الفيصل والمأمول لحصول كل طرف على الشريك المناسب .
لكن وعلى كل حال فعلى الرجل بوجه عام في علاقته العاطفية مع المراة عليه ان يدرك أنه إذا كان أقصر طريق للمرأة في الوصول إلى قلب الرجل هو معدته .. فإن أقصر الطرق للوصول إلى قلب المراة هو أذنها .... .. مما يعني سلوك طريق طويل جداً من التواضع والاهتمام والكلمة الحلوة وتجاذب الغزل وإضفاء البهجة والأجواء الرومانسية على المكان وتحاشي إطلاق الكلمات المأثورة قدر الإمكان وفرض الوصاية وإسداء النصائح لها وكأنه مصلح زمانه و"الفَاهِمُ الأوْحَدْ" ..... وبالجملة أن يجري غرس الانطباع لديها بأنها الأول والآخر في حياته .. وأنه لن يتخلى عنها ولن يطيق فراقها .. فهي إن تملّكها هذا الإحساس تكون قد وصلت في علاقتها به إلى درجة الأمان التي تنشدها هي .. فإن وصلت هي إلى درجة الأمان هذه منحت الرجل حياتها وروحها وجميعها عن طيب خاطر .
....................
وعودة إلى ساحة شاعرنا ؛ فقد نجد العذر لأمريء القيس في نزعته المباشرة للتعامل مع المرأة إذا وضعنا في الاعتبار أنه كان يجد القبول أحيانا كثيرة من نساء أكثر ميلا للغرائز الحسية المباشرة منها إلى الرومانسية وأمثالهن موجودات بطبيعة الحال وإن كنّ بنسبة أقل من عامة النساء فكل النساء لسن على شاكلة واحدة كما هو نفس الحال بالنسبة للرجال. ولكن شعراء الغزل خاصة ذوي الشهرة منهم يكونون علما على راسه نار ومستهدفين عاطفيا وجنسيا لدى النساء والفتيات البوهيميات والعبثيات ..... ذلك انهم عادة ما يتركون لدى نفوس الآخرين إنطباعات محددة فحواها أنهم مولعون بالنساء ولا يكاد يخلو مضجعهم من إمرأة يقضون معها ليلة حمراء عابرة أو من خلال علاقة مؤقتة ...... ولأجل ذلك يشكلون في حياتهم الشخصية محور جذب لنوعيات نسائية ترغب في المتعة الغريزية والصحبة المؤقتة البوهيمية الإطار بعيداً عن قيود الموروث والروتين والشرع والمجتمع.
ولإمرىء القيس قصائد أخرى يأتي مفهومها العام على نحو يؤكد تعرضه لهذه النوعية من النساء ... وكذلك بما يخالف مقولة طليقته أم جندب عنه (وقد كانت واحدة من بين عدة زوجات له) من أنه سريع اراقة بطيء إفاقة على وجه التحديد ..... ومن ذلك قوله : يحدثنا عن ليلة حمراء قضاها مع إحدى عشيقاته من ذوات الحسب والنسب والثراء الوافر فيقول:
إذَا اخَـذَتْـهَا هِـزّةُ الـرّوْعِ أمْسَكَتْ
بمَنْكَبِ مِقْـدَامٍ عَلىَ الْهَـوْلِ أرْوَعَـا
تَصُدُّ عَن المَأثـُور بَيْنَي وبَيْنَهَا
وتُدْنِي عَلىَّ السّابــِري المُضَلعَـا
وهزة الروع هي الاختلاجة أو الرعدة والرجفة المزلزلة لجسد المرأة عندما تصل إلى مرحلة النشوة القصوى خلال الجماع .. والمنكب هنا منكب أمرؤالقيس أي أنها عند تعرضها لهذا الزلزال تمسك بيدها على منكب شريكها من شدة الانفعال .. ثم يتناول البيت الثاني مشهدا اعتدنا على مشاهدته من خلال الأفلام الهوليودية في عصرنا الحاضر ويعتقد الكثيرون للأسف أنه من بنات افكار أهل الغرب ....
وسنأتي لشرح هذه الأبيات في محلها مع التحليل للوسط الاجتماعي والموقف النفسي الذي قيلت فيه ...
أيضا يلفت نظرنا في قوله يخاطب عشيقته "فاطمة" ولقبها "عُـنَيْزَةَ" يحدثها عن عشيقة له أخرى بقوله :
فـَمِثْلُكِ حُبْلَىَ قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٌ
فألْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مِحْوَلِ
والمعنى العام لهذه الأبيات تتحدث عن فحولة الشاعر وأنه يشغل العشيقة عندما يغشاها عن الدنيا مِنْ حولها بل وحتى عن رضيعها الذي لم يبلغ من العمر سوى عام واحد.
وفي قصيدته الشهيرة ( تـَعَـلّقَ قَـلْبي طَفْـلَةً عَـرَبيةً ) التي تـغنت ببعض ابيات منها المطربة "هيام يونس" نجده لايهمل جانب البهجة والملاعبة والحوار الإنساني بل وبما بات ينادي به "مُـنَظِّري الثورة الطلابية" ووقودها في فرنسا خلال عهود الستينيات من تكريس لعلاقة الصداقة بين الرجل والمراة والحرية الجنسية خارج إطار الزواج .... فنرى هذا العربي مابين عامي 500 و 540 ميلادية وعلى رمال الصحراء تحت خيمة أو جوارها وهو مندمج مع صديقته البدوية يلاعبها الشطرنج على شرط القُبـْلَةَ والمُعَانَقَة بين كل "كش ملك" أو قتله لأحدى القطع منها وحيث يقول من ضمن ابيات هذه القصيدة:
ولاعَبْتُها الشِّطْرَنْجَ خَيْـلِي تَرادَفَتْ
ورُخِّي عَليْهَا دَارَ بالشّاهِ بالعَجَلْ
فقَالَتْ وما هَذَا شَطَارَةَ لاعِبٍ
ولكِنّ قـتْـلَ الشّاهِ بالفِيـلِ هُـوَ الأجَلْ
وربما يحتج قائل بأن العشيقة إن كانت من بنات البيوتات الكبيرة والعائلات المعروفة لاتفصح عن مكنونات علاقتها الجنسية بعشيقها بسبب حرصها على السِرِّية عكس تلك التي ليس لديها ما تفقده وبالتالي لا تخشى شيئا .... وكذلك الزوجة الحليلة التي لن يلومها أحد بالطبع في المجال الاجتماعي الشعبي الجاهل بتعاليم الإسلام في هذا الصدد . اللهم إلا ما سيرصد لها في ميزان سيئاتها بسبب إفشائها لأسرار علاقتها بزوجها حتى وإن طلقها .. ولكن الذي يشكك في مقالة أم جندب أن امرؤالقيس قد تزوج أكثر من إمرأة وأنجب إبنته هند ولم نسمع من إحداهن ما يؤيد مقالة أم جندب.
(((((((((((((((((((((((((((((()
المراجع:
مشار إليها في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة.
(يتبع حلقات أخرى إنشاء الله)
التعليقات (0)