مواضيع اليوم

شعراء ضدّ الحرب

محمد احمد

2009-01-23 21:33:24

0

ضدّ الحرب

كتّاب وشعراء عرب يتحدثون عن صور الموت في غزة وحقيقة الدم الناصعة وجدوى الكلام أمام آلة الحرب

 

 

 

 

 


عبداللّطيف الوراري
 

   في أيّامٍ عصيبة، تأتينا من غزّة مشاهد الحرب الهمجيّة عليها.لا تحصد الحرب، التي أفزعت النّاس وذكّرتْهم بقذارة الحربين الكبرييْن، إلّا أرواح الأبرياء العُزّل ممّن وجدوا أنفسهم مُلْقى بهم في أتون الحرب تعبث بأحلامهم وآمالهم للغد آلتها القذرة، بلا رحمة. تحوّلت الحرب،غير المرغوب فيها أصلاً، من لعبةٍ تُفيد معنى الحيلة والخداع واحتساب التوقّعات بين ندّيْن، إلى لعبٍ إفتراضيّ مُهوّى داخل غرفة العمليّات الطائرة، يقتنص من هم في عمر الزهور وأرذله من الرضّع والأطفال والنساء والمسنّين، ويلهث وراء الأرقام بدم بارد، كأنّا بجيش الكيان الصهيوني يتخيّل نفسه أمام جهاز بلاي ستيشن. جاز لهم أن يفعلوا ما شاؤوا في عصرهم البربري، وفي ظلّ خزي النظام العربي وتردّيه السياسي والأخلاقي، وتواطؤ المجتمع الدولي، وصمت المثقّفين واستخذائهم. لقد حلّ بيننا البرابرة مدجّجين بالنار والحديد والدّجل والأساطير، وسط التشريعات والرُّتب و الألقاب والثياب الجديدة، ولا حلّ يرفّ له جفْنٌ للحياة، ولا أبهرته دعة الأشياء.

بهذا المعنى، لم تكن الحرب على غزّة فحسب، كانت أيضاً حربً ـ بلا هوادة ـ على الأخلاق ونداء والحقّ والضمير الإنساني. لقد وقفنا مشدوهين أمام هذه الإنسانية التي تُهدر في كلّ لحظة أمام آلة الحرب البربريّة التي لم تدع الأخضر ولا اليابس إلا مرّت عليه وحصدته، غير عابئة بكلّ الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.

يكفينا نحن ـ من نحن؟ ـ أن نتلقّف صور الحرب ومشاهدها الّتي تؤذينا، وأن نقرأ شريط الإعلان الصغير، المتحرّك، الذي تبثُّه محطات التلفزيون، لندرك كم هي حربٌ بربريّة بالفعل.

أمام ذلك كله، نلجأ في أغلب الأحيان إلى الكلمات رغم هشاشتها الظاهرة، لكنّها تشير وتفضح وتتّهم بمجازها الصّارخ. لذلك كانت حاجتنا إلى كتّاب وشعراء بوصفهم مثقّفين يحرصون على قول الحقيقة، لأن يعبرّوا عن بعض مشاعرهم إزاء ما شاهدوه من هول المأساة التي آذت الجميع، خارج الكلمات الّتي لم نسمعها في مظاهرات التعاطف الحاشدة الّتي أدّت حقّاً واجباً، ولا الّتي تنعي الواجب على الأفواه المتخشّبة. وقد استعادت الكلمات في هذه المعمعة المظلمة محمود درويش الذي لم ييأس من أمل الكلمات مهما احلولكت الظّلمة، بقدرما أوحت بنبوءته الّتي انتهت إلى حقيقة أنّ الفلسطينيّين هم وحدهم في المعركة.

رجاء بكريّة:

حبر أشدّ قتامة من آثار الدّم اليابس

أمام فداحة المشاهد الّتي تابعتها، لم تكن الكاتبة الفلسطينيّة رجاء بكريّة متأكّدة من حقّها في التّعليق على ما كان يجري في غزّة، ولا وجدت ذريعة لوجود اللّغة كي تعلّق على وجوه الأطفال الذّاهبة رغماً عنها إلى نوْم أبديّ، إلّا استدركت بقولها: "أجد ذريعة ملحّة لوجود لغة تدين فعل الموت هذا الّذي لا يرحم طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً. أجد مبرّراً لإحالة اللّغة إلى فعل جاهز لتعريف هويّة القاتل. قاتل لا يعترف بقدسيّة الحياة، ولا بضميرها. هذا القاتل أعاد سيناريوهاته من قبل في غزّة نفسها وفي كلّ زاوية حضر فيها الوجه الفلسطيني"، وزادت بتحديد أكبر "لقد خاض اليهود حرباً شرسة وخبيثة لتحقيق دولتهم على أرض فلسطين، جنّدوا فيها ما استطاعوا من حروبات التّضليل والإرهاب ضدّ المدنيّين العزّل في القرى الفلسطينيّة في أل 48. هكذا دخلوا إلى فلسطين وهكذا استقرّوا فيها، فكيف يقاومون الآن مقاومة الشّعوب على حقّها في العيش على أرضها. وفي خوض مجابهة مستميتة للبقاء. لا يمكن لصاحب حق أن ينسى مغتصب حقّه، والحقّ الفلسطيني في العيش على أرضه يجب ألا تحميه المقاومة الفلسطينيّة وحدها إنّما على حكومات الدّول العربيّة جميعها ودون استثناء أن تكون طرفا في هذه المعادلة، دم فلسطيني= مقاومة عربيّة، حتّى ولو بذريعة عدم توريط المنطقة في حرب لا تحمد عقباها، هنالك استراتيجيّات وتكتيكات يمكنها أن تلجأ إليها في هذه الظّروف المصيريّة لمقاومة الشّعب الفلسطيني.إنّ إسرائيل تجيز لنفسها ما لا تقبله بحقّ أطفالها ومواطنيها، فهل استنتجت من تخاذل الأنظمة في اتّخاذ ردّ فعل مباشر على ما حدث أنّ الشّعب الفلسطيني لا يزال على قائمة انتظار الأنظمة ولذلك يجوز تقتيله وتركيعه. ومحوه إن استطاعت من خارطة الفعل الإنساني؟ ".

ولاحظت الكاتبة المقيمة في حيفا أنّ المشاهد الّتي هزّت ضمائر العالم لم تحرّك في شعب إسرائيل ضميراً، وأنّ نسبة تأييد القتل في غزّة في الشّارع اليهودي كانت فوق المتوقّع، وهو ما بعث في نفسها ما سمّته "الرّعب الحقيقي من حقيقة التكوين النّفسي لشعب يقتصّ من قاتله دون شبع"، ورأت أنّ "معتقلات الإبادة الّتي تقضّ مضاجع اليهود إلى الآن يعيدون مشاهدها على أرض شعب لا علاقة له بسيناريوهاتهم السّوداء، وعلى هذا الحلم المرعب، من واجب  المقاومة العربيّة أن تردّ بحلم يضاهي الحلم اليهودي فعلا. على الحكومات العربيّة أن تعلن مقاطعة فوريّة لهذا الكيان الّذي لا يعترف بالقيم الإنسانيّة خارج جغرافيّته". ولم يفتْها أن تطالب بعدم المهادنة عند الحديث عن حرب على قيم الشّرعيّة الدوليّة، قائلة "يمكننا أن نتحدث بلا نهاية عن الحرب ومشاهد القتل وعدم أخلاقيّة القاتل، لكنّني لست متأكّدة من شرعيّة الحديث. هل يكفي أن نسمع أنفسنا؟ هل سنتحدّث كي نفرغ شحنات الألم؟ إذا كان الحديث يستمدّ شرعيتّه من فعل التّفريغ فعذراً لا أجد مبرّراً لوجوده، لكنّني أؤمن أنّ الكتابة في هذه الظّروف تستدعي أقلاما حادّة وحبراً أشدّ قتامة من آثار الدّم اليابس الّذي يلوّن كلّ بقعة لم تجرف على أرض غزّة كي تهتزّ الضّمائر"، ومتسائلة :"لماذا على الفلسطيني أن يدفع ثمن الهواء الّذي يتنفّسه دماً؟ أيتّها الشّعوب الحرّة عليك أن تصيري معولا يقلب معادلة الصّمت كي لا يندم الحبر لأنّه نزف من أصابعنا رملا ذات قتل!"

عقل العويط :

أيّ كلمةٍ تستطيع أن تستعيد الدم المراق في أزقة فلسطين، أو أن تؤاسيه!

في خضمّ الحرب، كان الشاعر اللبناني عقل العويط يسأل نفسه: "ماذا أكتب؟"، وقد داخله شعورٌ داهمٌ بخجل الكتابة من نفسها، وبلا جدواها، وخصوصاً في لحظات حاسمة، كهذه اللحظات، حين يكون الحدث أقوى من كل كلمة: "أسائل نفسي وأنا أسهر ليلاً، متفكراً في مأساتنا الجديدة القديمة: أأكتب عن العدوّ الصهيوني، آكل لحوم الشعب الفلسطيني، فأسبّه وأهجوه وأدعو باللغة الفارغة الى إزالته من وجودنا الجغرافي (هذا على كل حال ما أتمنى أن يتحقق، في استمرار غياب السلام العادل الشامل والحقيقي)؟"، وأضاف "أم أكتب عن الفلسطينيين أنفسهم بين غزة والضفة والشتات، وبينهم وبين "أهل الاعتدال" من جهة و"أهل الصمود والتصدي"، من جهة أخرى، أعرباً كانوا أم عجماً أم سوى هؤلاء وأولئك؟.أم أكتب عن احتمالات الجنوب اللبناني، وبنود القرار 1701 ومندرجاته، والصواريخ المجهولة المعلومة، والجهات القادرة في كل لحظة على إشعال الوضع وتفجيره، إسرائيلية، لبنانية، فلسطينية، سورية، عربية، إيرانية، وسواها، بدون أن يتمكن أحد من لجم محرّكيها ومأجوريها، أو ضبط حساباتها، أو وأد أخطارها، أو منع شرّها، أو إزالة السلاح من يدها؟"

ورأى صاحب "إنجيل شخصيّ" أنه لا يجيد في هذه اللحظة سوى طرح الأسئلة عساها تحفّزه، وتحفّز سواه، على التفكير والنقد وإعادة النظر في المسلّمات الوجودية والكيانية والثقافية، والتي بدونها لن يستطيع لبنان أن يصير دولة، ولا فلسطين ولا العرب أجمعون، مؤكّداً أنّ "مشكلتنا الأسياسية هي مشكلة ثقافية. أي مشكلة أسئلة نتفادى أن نطرحها، ونستفزّ بها أنفسنا، ووجودنا، ليس لغاية في نفس يعقوب، وإنما فقط بحثاً عن طريق يفتح أمامنا كوّة، وإن صغيرة، نحو المستقبل المسدود في وجوهنا ووجوه أولادنا وبلداننا العربية، وخصوصاً في فلسطين ولبنان والعراق. بل في كل البلدان العربية بدون استثناء". قبل أن يستدرك "لكنْ، أتراني أناقض نفسي بنفسي إذ أستعين ها هنا بالكلمات، وكنتُ في أول أسئلة هذا المقال أكاد أنعت الكتابة باللا جدوى؟ لا. كلا. ليس من تناقض. إنما أقول فقط إن ما يسري على الكيان الصهيوني من أوصاف الشاعر الفلسطيني الراحل، لا بدّ أن يسري على العرب والعجم، الذين منهم مَن يملك ورقة تين واهمة، والذين منهم مَن لا يملك حتى هذه الورقة، بأنهم جميعاً "عابرون في كلام عابر"، في الكينونة والوجود والمستقبل والمصير... والثقافة".

رشا عمران :

لكن التاريخ لن ينس ، ولن تصمت أعضاء أطفال فلسطين عما حدث!

 ممّا أثار انتباه الشاعرة السورية رشا عمران، في بدء الحرب الهمجية، تلك الدعابة السمجة التي ألقاها "كوشنير" وزير خارجية فرنسا "الحرة" على هامش اجتماع مجلس الأمن لاستصدار قرار يلزم إسرائيل بوقف اعتدائها على غزة، حين قال مقهقهاً بوقاحة فجّة أمام الملايين في العالم، وغير عابئ بدماء الفلسطينيين و أشلاء أطفالهم: "أعطوني الورقة ولكنني مصر على التصويت ولن أخبركم النتائج"، واعتبرت أنّ تلك السماجة لا تختلف كثيراً "عن المؤتمرات الصحفية و الأحاديث التاريخية التي يقدمها بعض المسئولين ووزراء الخارجية العرب المعتقدين بأن مجرد ظهورهم على شاشات الفضائيات كافياً لكي ترتدع إسرائيل ويرتدّ كيدها إلى نحرها"، ولا "عن تلك التبريرات، الفكاهية، التي يحاول بعضهم بها تحسين صورة مرؤوسيهم !!"، ولا "عن تلك الطلة الكاريكاتورية لأحد الزعماء العرب و هو يعلن من قلب عاصمته العربية أنّ " للاحتلال  قانون وعلينا أن تحترم قوانين الاحتلال بما يخص المعابر "!!"، ولا "عن فجاجة أحد مفتي الإسلام العرب الذي أفتى بضرورة إيقاف فوري لكافة المظاهرات والاحتجاجات ضد إسرائيل ووحشيتها كون التظاهر تقليد للغرب الفاسق والكافر"، ولا "عن وقاحة بعض الفضائيات العربية التي تسمي شهداء غزة ب "القتلى" تماماً كما تسمي من تسقطهم صواريخ المقاومة من الإسرائيليين ؟!"، واستطردت: "وهل تختلف هذه الوقاحة عن الفجور العربي المطالب بوقف صواريخ المقاومة كشرط أولي لتوقف إسرائيل حربها الجوية و البرية والبحرية والفوسفورية والجرثومية ضد المدنيين و الأطفال و النساء في غزة !! على الأقل كوشنير ليس عربيا، وإن كان الموقف إنسانياً و ليس قومياً أو دينياً، فكيف بمن هم عرب و مسلمون؟!"

 وتابعت ابنة الشاعر محمد عمران حديثها بنبرةٍ يخنقها الحنق والحزن، من غير أن تعوزها شجاعة الرأي: "لن يتكلم الشهداء يوماً عما حصل لهم، ولن يتمكن أطفال غزة، الذين فقدوا حياتهم قبل أن تبدأ ،من محاكمة من تواطأ على طفولتهم وعلى ضحكاتهم وعلى شغبهم يوماً ما، لكن التاريخ لن ينس، ولن تصمت أعضاء أطفال فلسطين الناقصة والمبتورة والمشوهة عمّا حدث، ولن تسامح أعين الأمهات وحناجرهنّ هذا التحالف العربي الرسمي الفاجر مع الإجرام الإسرائيلي وقذارته، وما حدث لكل الطغاة في العالم سينتقل قريباً إلى أولئك المستريحين فوق أسرّتهم، المشيحين بأبصارهم عما ارتكبوه بأيديهم، والمغلقين آذانهم بالدولارات بعيداً عن بكاء الأيتام و نشيج الثكالى ونحيب الأرامل و الحزانى".

سيف الرحبي:

الصمت المدلهمّ أحياناً يكون خيراً من المشاركة في هذه الوليمة.

من جهته، يتحسّر الشاعر العماني سيف الرحبي على هذه الأوقات المتفجرة التي وصل فيها الدم المسفوك ذروةَ غزارته ووبراءته، مصحوباً بسيل جارف من التهريج السياسي في مستواه العربي خاصةً، بشكل أضحى نمطيّاً جاهزاً في بيانات الشجب والاستنكار والتذاكي، حيث "يختلط فيه الحابل بالنابل لتغطي ظلال جعجعته اللفظية وبلاغته الكاذبة، ساحة المجزرة المروّعة وتكاد تنسينا الحدث. ربما من فرط هول المشهد العبثي على قسوته وفظاعته، يكون الصمت المدلهم أحياناً خيراً من المشاركة في هذه الوليمة الباذخة للكلام المجاني المسفوح بموازاة الدم المُراق في كل زاوية ومكان، لكن الخيارات جميعها صعبة ومربكة". وأضاف: "هكذا هي الحال العربيّة، مجزرة تلي أخرى وحروب تتناسل على نحو يفضح أكثر فأكثر، أزمنة الانحطاط الشامل، سواء حروب الأهل، أو مع الأعداء، التي تخوضها غالباً جماعة بعينها مفصولة بالضرورة عن الجسد العربي الممعن في التمزق والانهيار، وان كانت موصولة المشاعر والخراب".

وأكّد صاحب "
سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار" أنّ ما حصل في غزة كان "حرب إبادة يندى لها جبين العرب والبشرية جمعاء، حيث يمعن القتلة الأقوياء بفعل تطور العقل العلمي، في استئصال ما تبقى من مكاسبها الأخلاقية والروحيّة، ليستحيل التاريخ إلى ركام من الهوان والعار والفلتان الوحشي للغرائز.غزة حلقة أخرى، سليلة حتميّة لانحدار التاريخ العربي والفلسطيني الذي وصل منذ زمن إلى أعماق السؤال الأكثر خطورة واحتداماً، سؤال التاريخ الكبير في البقاء الحقيقي الكريم على هذه الارض الثكلى، أو التلاشي والانقراض؟".

في هذا السياق يستذكر سيف الرحبي الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الّذي اعتبر أنّ كل حروب العالم لا تساوي دمعة طفل، "لكنّ طفل سارتر، لم يعد موجوداً كي تدمع عينهُ. لقد استلّه القتلة الصهاينة من أحشاء أمه المذبوحة وقذفوا به في جحيم البركان التكنلوجي"، مثلما يستذكر شاعر الملحمة الفلسطينية النبيلة محمود درويش في قصيدته أحمد الزعتر، قائلاً : "ما أشبه الليلة بالبارحة وإن اختلفت بعض عناصر الاصطفاف في هذا الديكور الوحشي.أقول الديكور، لأن العقل السياسي العربي، يضاف إليه هذه المرة الإيراني الطامح إلى احتلال الواجهة الزعامية والإعلامية أو ما يوحي بذلك، دعكَ من الدولي، لا يريد من الدم الفلسطيني المُراق من الوريدِ الى الوريدِ إلا ورقة لتحسين شروط تفاوضه مع القوى الكبرى الماسكة في نهاية المطاف، بعناصر الهيمنة والقوة والمعرفة".

نبيل منصر:

أقف مشدوهاً عند استعارة محمود درويش: الطائرات تَعضُّني.

 أمّا الكاتب المغربي نبيل منصر فقد أشار بإشارات الشّغر المتحفّزة بحكمتها إلى أنّ "ما يقع على أرض فلسطين شيء لا يُصدَّق. بكل مقاييس الجنون، ما يقع على أرض فلسطين، يتجاوز كل جنون. بكل مقاييس الفضيحة، ما يقع فوق أرض فلسطين، يتجاوز الفضيحة. وبكل مقاييس المحارق، ما يقع تحت سماء فلسطين، يتجاوز المحرقة، يتجاوز التصفية العرقية، يتجاوز الإبادة الوحشية لشعب أعزل، مُجوَّع، محاصَر، مشرّد، مُرمَّل، مُيَتَّم، مبتور الأطراف، محروق العينين، لا يملك غير الإيمان وذلك الهلع الخاص، الذي يجعل الحياة تفر من بين الضلوع، إلى الخلاء بحثاً عن ملجأ في أرض الحجر. الدخان الذي يتصاعد مِن غزة، من رؤوس أطفال غزة، من صدور نساء غزة، من رقاب رجال وشيوخ غزة، من نسوغ أشجار غزة، من أسِرَّة بيوت غزة، من ريش وصوف حيوان غزة ".

 ورأى في الدخان الّذي يتصاعد حقيقةً مُرة، طالما عذَّبتْ محمود درويش، وتناسلتْ في قصائده الملحمية ِوفق استعارات مختلفة: وطني خيمة، إذا احترقت ضاع الوطن. لكنّما "عندنا اليوم خيمتان: واحدة في الضفة وأخرى في غزة. خيمة غزة تحترق الآن فوق سكانها. خيمة من إسمنت غير مسلح، تتلقى قصفا مستمرا، من الجو ومن البحر ومن البر، ثم من البر ومن البحر ومن الجو. العمليات تتواصل على نحو مكرور، يجعل الإنسان الغزّاوي يعيش كابوساً مستمراً، فلا يعرف هل يتشبث بحيطان بيت مهدد بالقصف، أم يتحرك تحت سماء ترصدها أعين طائرات، تلهو طوال الوقت برمي قنابل فوق رؤوس الناس".
ورأى صاحب "أعمال المجهول" في استعارة محمود درويش: الطائرات تَعضُّني، رعباً وغرابةً في التركيب المنبثق من سعة الخيال، واستطرد قائلاً: "اليوم، بعد أن رأيتُ ما رأيتُ في غزة، صرتُ أتصور الطائرة أكثر من وحش، بأكثر من عشرة رؤوس فاغرة، تقذف ناراً مستمرة على الناس والأشجار والبيوت والحيوانات. صرتُ أحس أن الطائرة تعضّ فعلاً، وعضُّها لا يشبه عضّة أي حشرة أو حيوان. عضُّها يخرِّب الحياة، يسفك دماء الجنين، يخطف أبصار الطفل، يكسر جمجمة العجوز، يبتر سيقان الحسناء، يقتلع صدر المرأة المرضعة، ويملأ ثلاجات الموتى بفائض الجثث. عض الطائرة يصنع الموت، ثم يرسل غمامة بيضاء تخفي الجنود المتهيئين لممارسة الذبح والبقر والبتر والرمي بالرصاص". هذه الاستعارة بما تنطوي عليه من رعب أمكنه أن يفكّ شفرتها كالتالي: "الصهاينة لا يأبهون. هم الآن يلعبون، يمارسون ساديتهم بكل وقاحة، وأتصور أن كل طيار من قتلتهم، يتصور نفسه أمام جهاز بلاي ستيشن، يحرك آلة التحكم لقصف الفلسطيني. لعبة يتسلى بها قاضما حبات شيبس، متنافسا مع صديقه الصهيوني الآخر، عن مَن يُنجز السقف المطلوب مِن عدد الجثث والبيوت الفلسطينية، التي يحولها إلى رماد، ليربح اللعبة".
وبخياله الّذي يجاوز الحدث ويستبصر، يقول: "أتصوّر مستقبلاً أن كل لُعبة تمثل طائرة أو ترتبط بها، ستجرح عميقا مشاعرهم. لقد بدأ يتشكل في الوجدان الجماعي ما يُمكن أن أسميه بـ: عقدة الطائرة. عقدة، الله وحده يعلم الوجه الذي يمكن أن تأخذ في المستقبل!".

أسعد الجبوري:

 يا إلهي لمَ فمُ القصيدة بلا ألغام؟

ومن منفاه، كان يرسل إليّ الشاعر العراقي أسعد الجبوري خلال كلّ هذه الأيّام العصيبة شريطاً من الشّعر الّذي يتّهم ويستبصر، وجدت فيه شيئاً من عزاء:

أ.

وقال لي في نفسي

سرير إسرائيل قبْرٌ

وأحلامها كومةُ ذِئابٍ تخوضُ في مرآة حمراء

ب.

مدينةٌ مِحبرةٌ

يخرجُ منها الطوفانُ الأحمرُ

ولا تنكسرُ تحت مخالب اليورانيوم

ج.

ـ الشّاشات أضرحةٌ تتلاطمُ بالأحمر

والأطفالُ

في منتهى الموت يسهرون

د.


 أنا يوسفُ أيها النيلُ
فلا تكن لجسدي بئراً افتراضيا
أدفنُ فيه عظامَ أخوتي في الخلاف
أيها النيلُ
أنا ماؤك الكنعاني في لبّ الأساطير

هـ .

الجماجمُ حقولٌ مفتوحةٌ في غزّة

والأعينُ متاحف للرُّكام

فيما الفرنْجة

يقودون العربَ بالعصا

إلى المقبرة

و.

أيّها القمرُ الشهيُّ

ها هو ذئْبُ إسرائيل

يرسلُ إليْك فمَهُ لمضْغ قطعة لحم

من تلك الأحلام.

ـــــــــــــــــــ




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !