الحياة الحب والحب الحياة
رحلة شاعر عربي عبر التاريخ والشعر
بقلم : حنان بكير
ألحياة الحب والحب الحياة .. هذا ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي على لسان أنطونيو وهو يناجي الحبيبة التي تخلى من أجلها عن عرشه ،وقد اختار الشاعر حسن توفيق هذه المقولة الرقيقة ليجعلها عنوانا رئيسيا لأحدث كتاب يصدر له ، أما العنوان الفرعي فهو عنوان ساخر يشي - ربما - بمضمون الكتاب وهو : شعراء جبناء ونساء لهن عضلات ، وقد صدر هذا الكتاب في مصر عن المجلس الأعلى للثقافة .
يطرح الكتاب، كما يشير الشاعر في مقدمته قضايا أدبية وإنسانية ليست جديدة، لكنها تتجدد باستمرار، كما يؤكد أنه ابتعد عن تعقيدات المصطلحات الأدبية والنقدية وصرامة النقد.
ما درج على تسميته السرقات "ألسرقات الأدبية"، هي أولى القضايا التي يطرحها الكتاب، ومنها تتفرع سائر القضايا الإنسانية والاجتماعية ، التي تعرّض لها الكاتب بالنقد، بأسلوب طريف متميز.. يبدأ الكتاب باعتقال الشرطة للشاعر عمر بن أبي ربيعة ومحاكمته، بتهمة سرقة ما سبق أن ردده امرؤ القيس .. وفيما بعد يلتقي الشاعر عمر بن أبي ربيعة، بالشاعر نزار قباني، ويهدده بالسيف، مطالبا إياه بأن يعتذر له عما أقدم غليه من كتابة قصائد عديدة، تبدو كأنها مسروقة من شعره.
لكن للكاتب/الشاعر حسن توفيق وجهة نظر أخرى إذ يقول:" .. قد يقع شاعر عربي في إسار تجربة مرّ بها شاعر سبقه إلى الوجود بسنوات، بل بقرون من الزمان، وهنا يتسرع المراقبون قائلين، إن الشاعر اللاحق قد سرق من الشاعر السابق . والحقيقة أن طبيعة حياة الشاعرين، هي التي جعلت تجربة الشاعر الثاني، تبدو تكرارا لتجربة الأول... كما أن طبيعة التجارب من حيث التماثل والتشابه هي التي تجعلنا نتصور أننا أمام جرائم سرقة"!
يرصد الكاتب مطاردات الشعراء الذين يحركون قضاياهم في المحاكم ، ضد شعراء آخرين بتهمة السرقات الأدبية.. ولا يفوت الكاتب ذكر المناسبة التي قيل فيها الشعر، للتأكيد على تشابه الظرف، ألذي قيل فيه . مثال ذلك..في عام 1919، وخلال الثورة الشعبية في مصر ضد الاحتلال البريطاني، شاهد الشاعر حافظ إبراهيم تظاهرة نسائية. فكتب:
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
وحين أطل عام 1960، كتب محمد مهدي الجواهري ،بعد أن حضر حفلا نسائيا، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، قصيدة اختار لها نفس الوزن والقافية..
حييتهن بعيدهنه من بيضهن وسودهنه
وحمدت شعري أن يروح قلائدا لعقودهنه
لم تكن عملية رصد هذا التماثل في الشعر، وظروف كتابته بالأمر اليسير، لأنها تتطلب من الشاعر الارتحال بين مختلف العصور والأزمان، ابتداء من العصر الجاهلي، وانتهاء بيومنا هذا، باحثا ومنقبا، بحسّ الشاعر المتذوق وبعقل الدارس المتمرّس .
ويورد الكاتب تجربة متشابهة، حدّ التطابق بين الشاعرين بدر شاكر السيّاب، وإبراهيم طوقان.. حيث قاما بتدوين تجربتيهما شعرا متشابها، يخاله، غير المطلع على تجربتيهما، أنه جريمة سرقة.
وكذلك تجربة الشاعر أحمد فتحي والكاتب المهجري ميخائيل نعيمه، الذي شارك في الحرب العالمية الأولى، باعتباره جنديا" أمريكيا" ضمن القوات الأمريكية، التي قاتلت في فرنسا خلال تلك الحرب، وبعد عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كتب قصيدة مؤثرة عن مآسي الحروب، وأشار فيها إلى ما يتعرض له العرب من هوان وإذلال .
وقد كرر الشاعر أحمد فتحي، وهو بالمناسبة، مبدع قصيدة "الكرنك" التي غنّاها محمد عبد الوهاب، وقصيدة "قصة الأمس" التي شدت بها أم كلثوم. كرر هذا الشاعر تجربة ميخائيل نعيمه، حين التحق بالقوات البريطانية التي كان يقودها مونتغمري ، في الصحراء الغربية لمصر، وكانت في مواجهة روميل - ثعلب الصحراء الألماني . وسرعان ما غادر الشاعر إلى لندن، وكتب انطباعاته عن المجتمع الغربي..
وإذا كان موضوع الكتاب، يدور حول التماثل بين تجارب الشعراء، و ما أوجده من تشابه في الشعر، ولا نقول سرقة حتى لا نغضب الكاتب/الشاعر.. إلا أن الدعوة للحب والحياة ، تفرد جناحيها فوق صفحات الكتاب كله.
ولا يفوتنا، ذكاء الشاعر في نقد العديد من القيم السائدة، التي لا تتماشى مع ثقافة العصر ومع القيم الإنسانية، إنما بطريقة كوميدية ساخرة .. ويتجلى هذا، كمثال، في طريقة إلقاء القبض على الشاعر عمر بن أبي ربيعة واقتياده موقوفا إلى المخفر.. حيث تحول المخفر إلى محكمة أيضا .. .قيّد رجال الشرطة عمر، وساقوه أمامهم إلى المخفر، ثم وضعوا على الباب لافتة كبيرة، كتب عليها كلمة واحدة : محكمة !!
وبسرعة يتحول العسكري إلى قاض "... رأى الجميع جنرالا عابس الوجه، وهو يغير ملابسه العسكرية، ويستبدلها بثياب مدنية، ثم ارتدى روبا أسود اللون، واعتدل إلى أن جلس، وأمامه لافتة تقول إنه القاضي" !
وفي مجال الفساد، يقول امرؤ القيس للقاضي"... والآن يا حضرة القاضي من الأفضل أن تعود إلى بيتك بسيارتك التي يبدو أنك أيضا سرقتها"..
ورغم الفارق الزمني بين الشاعرين عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني،إلا أن حال الأمة لم يتغير. فقد وافق الشاعران على المشاركة في التظاهرة التي تدعو" نعم للحب ... لا للحرب"، شرط أن يتأكدا من أن الشرطة لن تتعرض لهما بالهراوات أو بالغازات المسيلة للدموع!
هل يتغير دور المثقف العربي بتغيّر الأزمان والأمكنة؟ وما هو الدور المطلوب من المثقف أن يلعبه؟ "... يا سيّد عمر يمكنك أن تمتطي حصانك وتخرج آمنا من أحد أبواب الحديقة، وأنت يا سيّد نزار، باستطاعتك أن تعود لكازينو الأخطل الصغير، لتشرب وتطرب، إلى أن تكتب قصيدة ثورية، تندد فيها ما تتعرض له أمتك العربية من الكوارث والمآسي والأخطار.. المهم أن تبقى أنت شخصيا بعيدا عن خط النار .."
ولا يشذ عن هذا الوضع، حال السجون في يومنا هذا".. يا ولادة بنت المستكفي، لن أسمح لك بقيادة مظاهرة حتى لو كانت سلميّة، فالسجون قاسية والجلاّدون لا يرحمون"..
وفي تماثل أوضاع الحروب والخلافات الداخلية، جعل من كل امرأة " خنساء" مكلومة حيث تقول"..إني حقا حزينة منذ أن التهمت الحروب القديمة أجساد الذين أحببتهم، لكن الحزن لم يبرح قلبي حتى الآن. فهناك كثيرون تقتلهم الحروب العدوانية كل يوم في هذا الزمان، هناك أبناء فلسطين وأبناء العراق، وكل هؤلاء أبنائي وأحفادي"..
ولا يفوت الكاتب أن يعرّج على ذكر "قطار فلسطين"، في سياق حديثه عن التشابه بين ثلاث قصائد لثلاثة شعراء، وقد كتبت تلك القصائد في زمن نكبة فلسطين وإحداها قصيدة الشاعر علي محمود طه،" أخي جاوز الظالمون المدى".. يأتي الكاتب على ذكر القطار والأمكنة التي كان يمر بها ، العريش ، اللد ، وحيفا في نوع من الألفة والحميمية، ليذكّر بأمكنة لم تعرف الحدود والحواجز، أمكنة فقدناها، وتحولت إلى مجرد ذكرى..
والحق أن الشاعر والكاتب حسن توفيق لم يبتعد بأسلوبه عن تعقيدات المصطلحات النقدية فحسب ، بل إنه عمد إلى سلاسة السرد، مع عفوية وطبيعية في استعمال السجع، الذي يبدي ميلا لاستعماله بدون تكلف. ولا غرابة في ذلك حين يكتب الشاعر نثرا. وإذ عمد الكاتب إلى أسلوب كوميدي في نقده، إلا أن السخرية المرّة ترخي بظلالها على النص.. وأخيرا إذا كان معيار اختيار القصائد هو التشابه فيما بينها ، كنتيجة لتماثل التجارب، إلا أن تلك القصائد ذاتها من أعذب الشعر وأجمله . ويبقى أن نتذكر أن الكتاب يحمل عنوانا ثانيا طريفا وهو : شعراء جبناء ونساء لهن عضلات .
التعليقات (0)