نصف قرن يُحكم شعبنا بزائف الشعارات. شعارات لتبرير اغتصاب السلطة بالانقلابات العسكرية. شعارات يراد بها فرض شرعية. شعارات لتبرير القمع واضطهاد وقتل الإنسان وإلغاء حرياته. شعارات أردوا بها وحدها تحرير فلسطين و الجولان. وبها "ناضلوا" لتحقيق الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج. نصف قرن هتافات ومسرحيات وغناء: "بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ــ ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان" شعارات لبناء "امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة". أمة تعلو البشرية ولا يُعلى عليها. شعارات شوفينية. شعارات غارقة في الديماغوجية. ( هل سمع أحد على امتداد هذه الفترة الزمنية شعارات تنادي بالعدالة, أو المساواة, أو الكرامة, أو الإخوة, أو التضامن الاجتماعي, أو الديمقراطية, أو التعددية, أو المداولة, أو التآخي بين الشعوب والقوميات, أو احترام القانون و حقوق الإنسان, أو الحريات العامة والفردية, أو الانفتاح عن الإنسانية ..؟).
كم بُحّت حناجر أجيال وأجيال بالنداء على الوحدة والحرية والاشتراكية. وكم سال المداد, وتفتقت أذهان المنظرين وعباقرة المؤلفين والمفكرين, ودهاة السياسيين, لرسم معالم وأسس هذه "الوحدة "وهذه "الحرية" و"الاشتراكية" وكم سالت الدماء واكتظت السجون بالمعتقلين ممن شككوا بقدرة الحزب على فعلها وحيدا. وعليه ولأجله, تنطعوا لقيادة الدولة والمجتمع ما يقرب من نصف قرن. ونصف قرن تفردوا بالمسؤولية. وعلى المرتابين مراجعة الشعارات البعثية النصف قرنية.
ومع ذلك وبعد نصف قرن من "النضال" بالشعارات, بدأنا الدعاء لله ــ في غياب أمكانية أي احتجاج أو شكوى لأية مرجعية زمنية ــ أن يعيننا على استرجاع الأجزاء السليبة والمحتلة من هذا الوطن ــ الذي أردناه كبيرا فصغروه, وعزيزا فأذلوه ــ وأن يحفظ لنا وحدته من التفكك, وأن يساعد إنسانه على التحمل والتماسك, وعلى الحصول على لقمة عيش كريمة. وخاصة بعد أن أصبح للجيش مهام أخرى تختلف عن حماية الوطن, وهي حماية النظام وملاحقة المواطنين المنادين بالحرية, وإحكام الحصار على حركاتهم وسكناتهم, للتفرغ بعدها في نصف القرن القادم للوصول للتوازن الاستراتيجي مع العدو, لتطبيق ما تبقى معلقا من الشعارات بفعل المؤامرات الدولية.
الشعارات الكبيرة, التي لا تتناسب مع ضآلة حامليها والمبشرين بها, تنافس عليها "اليسار التقدمي" في الحزب نفسه ــ المُنسحب تدريجيا من تحرير إلى مقاومة إلى تصد (ليس كصدأ الحديد) إلى ممانعة ــ, و"اليمين" في الحزب نفسه, الموصوف بالعمالة الرجعية والتعفن !!, وبعد السقوط المدوي لهذا اليمين والانتصار الباهر لذاك اليسار, أخذت الشعارات, في ظل الاحتكار, تصغر وتصغر وتتقلص مع طبيعة المرحلة و تغير أشكال "النضال", ليكبر ويكبر الزعيم فيصبح أوحدا يفتدى دون الوطن, ويستأثر بالهتاف دون الوطن: بالروح بالدم نفديك "ياسيادته", وتُحجز له مكانة بعد الله مباشرة في الهتافات والدعاء والصلوات.
تطور هذا النضال "الشعاراتي" ماديا من الهتافات والصراخ والكتابات على الجدران واللافتات, ليتجسد في نُصب وتماثيل برونزيه وحجرية لشخص رمز لوطن وروحه وحاضره ومستقبله, في الشوارع, حتى أضيقها, وفي الحدائق العامة والساحات, وفي صور تتزين بها مدنا كاملة من الباب إلى المحراب, وتدخل حتى المخادع والاستراحات. (وطن مُجسّد في زعيم !!. وطن و شعب في خدمة الزعيم!!, والكل يفدي بالروح والدم. لتُنقع كل الدساتير العالمية المحددة لمفهوم ووظائف الدولة وسلطاتها وممثليها, وليشرب فقهاء العالم ماءها. فلنا دولة زعيمنا ولنا مفاهيمنا وفقهاؤنا. كاذب شعاراتنا فوق كل القواعد الدستورية والاعتبارات الإنسانية والحركة الفكرية).
الشعارات الكبيرة والدفاع عنها والسعي الدائب لتحقيقها, (ومنها بشكل خاص تحرير فلسطين كل فلسطين. والوحدة العربية )عرّضت حامليها وحماتها من الزعماء لمؤامرات منذ نصف قرن, ولاستهدافهم طيلة نصف هذا القرن. مؤامرات غير منقطعة حاكها و يُحيكها الشرق والغرب, أو الشمال (باستثناء الجنوب فهو "غلبان" في كل الأحوال). ورغم الحدة والشدة ودقة الحبكة, ورغم هذا الزمن الطويل وعوامله وتداعياته, لم يسقط بفعلها مُستهدف واحد منهم, ولم تمس شعرة واحدة من رؤوسهم الفوق بشرية (ألم تصرح الدوائر الغربية علنا و في أكثر من مرة, ومن أعلى المستويات, بأنها كانت وما زالت تفضل, في الدول العربية, الاستقرار في ظل الدكتاتورية على الديمقراطية وحقوق الإنسان !!, هل هذا تآمر على الحكام أم على المحكومين وعلى الإنسان, وعلى القيم التي تعلنها وتنافق بها الديمقراطيات الغربية!!؟), وكان على المتآمرين الفاشلين التعامل مع المتآمر عليهم بعد فشل كل مؤامرة, صاغرين, وطلب ودهم, لان الله حاميهم أولا, ولأنهم يملكوا حكمة لقمان وفلسفة فلاسفة اليونان, وسياسة وبلاغة الرومان. كما يملكوا من الصفات ما لم يكن قد خطر ببال مكيافيلي ليضيفها لصفات أميره في كتابه الشهير, وأخير, من يدري, قد تكون محبة شعوبهم أيضا عامل حماية مساعد وان كان غير حاسم, فأين إمكانيات الشعب من إمكانيات ومواهب الزعيم.
قد يقول قائل إننا امة تطرب للشعر وتحب منه أكذبه, ومنه طربها للشعارات, و استساغتها لكاذب تلك الشعارات, ولان الشعارات اقتربت كثيرا من الشعر في الوزن واللحن والقافية والخيال, أصبحت مقبولة ومحفوظة تردد عن ظهر قلب, دون تأمل في المحتوى والنوايا والمقاصد. قد يكون في بعض هذا بعض الصحة, ولكن كذب الشاعر وخياله لا ضرر فيه ولا ضرار, لا يدمر وطنا, ولا يزهق أرواحا إن تعددت قراءاته وتأويلاته أو تم الجهر بكذبه وخداعه.
في الجاهلية كان لكل قبيلة شاعرها المدافع عنها والمشيد بفضائلها, يدخل في مناظرات شعرية مع شعراء القبائل الأخرى. في الجاهلية السياسة لحكامنا, لكل زعيم الآلاف من الشعراء والأدباء والمثقفين والمحللين, وتحت تصرفه وتصرفهم آلاف أسواق عكاظ والمهرجانات والمسرحيات, والمسلسلات, وكل ابتكارات أجهزة الأعلام للإشادة به والتغني بخصاله ومنجزاته. ومع ذلك لا يدخلون في مناظرات مع أحد, ولا تعنيهم في شيء آراء أحد, ولا مصلحة لهم في ذلك, تناظر عنهم قوى الأمن بكل وسائل حفظ الأمن, فقولهم هو القول, وغيرهم إن قال يقول خيانة وتآمر على الوطن وسيده.
ولأنه لا يمكن الاستمرار في الخداع إلى الأبد, ولان الأمزجة و الأذواق متغيرة ولان المصالح متحولة, ولأن العالم حولنا متحرك, ولأن الخداع لا يحمي الأوطان, والشعارات لا تفي باحتياجات الإنسان, ولأنها ليست من بنات الواقع ولا من معطياته ولا يمكنها أن تخرج من دائرة الأقوال والخيال إلى عالم الواقع والأفعال, ولأن قطاعات من الشعوب تنافق زعمائها بها ــ لتحقيق منفعة, أو لتحاشي مهلكة ــ, ولأنه, حتى ولو شُقت الحناجر ونودي به من أعالي المنابر, مآل الكاذب وشعاراته السقوط, ولو آجالا, سقوطا حرا مدويا.
نصف قرن تتلاعب بالوطن بحاضره ومستقبله, وبالشعب وكرامته ووسائل معيشته, أنظمة الاستبداد, وتُبقيه في مؤخرة الأوطان, خارج التصنيف الدولي في النمو والتطور والتقدم. وفي صدارة قوائم انتهاك الحريات, والفساد, والتخلف الاقتصادي والعلمي والثقافي, وتفشي البطالة و الأمية.
تطلّب سقوط تلك الشعارات نصف قرن ــ يا لغرابة صمودها نصف قرن !!!. ــ وتطلّب احتجاجات وانتفاضات وثورات الشعوب العربية. سقوط كلف المحتجين والمنتفضين والثوار سقوط آلاف الشهداء والجرحى من الرجال والأطفال والنساء, والآلاف المعتقلين والمهجرين.
المؤامرات المزعومة النصف قرنية, أعاقت الزعماء عن تنفيذ ما جاء في شعاراتهم, وأعاقتهم عن الالتفاف إلى الشعب ومصالحه, وإلى الإنسان وحقوقه وكرامته, وعن "الإصلاحات" وورشها , وعن التفكير بان الشعب هو السيد وبأنه مصدر السلطات, وعن العمل لمحاربة الفساد, وعن التنبه لسرقة الثروات وتحويلها إلى كل الجهات. وعن الانتباه لمضار وانعكاسات الطغيان والاستبداد. وعن فساد القضاء. وعن التذكر بوجود أراض سليبة و محتلة, وعن تدهور مكانة الدولة بين الدول. وعن العودة للضمير. وعن النزول من القدسية والعظمة المفتعلة إلى مرتبة المواطن المسؤول.
وحدها المؤامرات الداخلية ذكرتهم بها, المؤامرات التي تطالب بالحرية, بقيادة مندسين ورجال عصابات, يقتلون العباد من بني جلدتهم, وينشرون في الأرض الأهوال والفساد. مؤامرات أين منها حضارة المؤامرات الخارجية التي تهدد ولا تطيح, لم تطح بحاكم واحد, وعلى العكس كانت سنده في الشدائد. تعيد إليه التوازن في حالة اختلاله, وتطلب منه فقط تعديل سلوكه وأفعاله. وتقبل منه إعلان الحرب عليها بالشعارات, والتصدي لها بعنيف بالكلمات. إنما اللعنة "المكبرتة" هي الغضبة غير المتوقعة للداخل, الانتفاضة, الثورة والصراخ في الشوارع بشعارات مدوية لإسقاط النظام. شعارات لا تحتاج لفلسفة صياغة أو فن بلاغة.
أمام الاحتجاجات والانتفاضات والثورات تنازلت السلطات عن كل شعاراتها, بعد انكشاف زيفها, باستثناء شعار واحد عزيز عليها تقترن القدسية فيه بالعبودية: الله الزعيم وبس (ذكر الله هنا ليس للتعبير عن الإيمان, وإنما لتحديد مكانة الزعيم في سلم المقدسات), شعار ترافقه الصور والأعلام. صور بعدد المُسيرين في مسيراتهم, وأعلام بأطوال تبلغ كيلومترات, وكلما طالت وعرضت كلما كان حب الزعيم أكثر طولا وعرضا وعمقا في قلوب المحبين والمعجبين. أعلام تُرفع, حتى على الدبابات في مطاردة شباب الحرية. (منذ الأزل كان ومازال السيف والعصا والسياط والمسدس والبندقية والدبابة أدوات لقهر الحرية) أو تُبسط على طول الشوارع وعرضها لإعلان المبايعة المتجددة والولاء المطلق!!. انه سبق في مجال الحب و التأييد, لم يشهده بلد من البلدان أو عهد من العهود.
ترفع الشعوب الأعلام في سائر الأوطان زهوا وفخرا واعتزازا, فتلوح بها وتنشد لها في الانتصارات الكبرى على الأعداء, وفي المناسبات القومية والوطنية, وتخليدا لذكرى التحرير والاستقلال, وحتى في الانتصارات الرياضية.
وتُنكّسها, حدادا, في الهزائم والملمات والكوارث الطبيعية, وفقدان العظماء, و حزنا على أرواح شهداء الوطن, فكيف إذا كان هؤلاء الشهداء استشهدوا من اجل الحرية والكرامة الإنسانية بسلاح أبناء جلدتهم من رجال الأمن وحماة الوطن, و بإسم الوطن !!!.
التعليقات (0)