محكمة البناء رغم المشاعر المتوثبة
قصائد الشاعر محمد بن خليفة العطية
بقلم: شعبان يوسف
نشر هذا المقال فى ديوان العرب ويسهدنى أن أقدمه لزوار مدونتى
من المرأة، الى الوطن، الى القضايا الاجتماعية، الى التأمل الفلسفي تتجول مخيلة الشاعر العربي محمد بن خليفة العطية، ومن العمودي الى التفعيلي، ومن الخشن الى الرقيق، ومن البسيط الى المركب، تتوزع التقنيات والأساليب المتعددة، وتتشابك الامكانيات لصياغة عوالم تتراوح بين الواقعي المعاش، والمتخيل المحلوم به، هذه الصياغة او الصياغات، هي البصمة الابداعية الخاصة للشاعر، بغض النظر عن الافكار والمقولات والجمل التي تأخذ شكل الحكمة، فالشاعر لا يقاس بعمق الأفكار التي يطرحها في قصائده، بقدر ما يقاس بالصياغة، او الطريقة التي تنطرح بها هذه الافكار، والبناء الذي يتوخاه الشاعر ليقدم لنا قصيدة متماسكة، غير مفرطة في عنصر، ومقصرة في عنصر آخر.
واذ كانت كل هذه العناصر تترامى عبر ديوانين، صدر أولهما وهو «مرآة الروح» عام 1989، والثاني «ذاكرة بلا أبواب» صدر عام 2002، ايضا ستجد هذه العناصر تتكثف - احيانا - في قصيدة واحدة، مع تفاوت مستويات الاستخدام والتواجد لكل عنصر، حسبما تستدعي الحالة الشعورية - كما يقول النقاد - التي يتطلبها الموقف، ويستدعيها البناء الذي ارتأه الشاعر، أو فرض نفسه وشكله على القصيدة، وحسبما توحي اللحظة التي كتبت فيها القصيدة.
في قصيدة «طارق الشعر» يصحبنا الشاعر بجملة تكاد ان تكون اخبارية، ولكنها حاملة المعنى الكلي الذي تشتمل عليه القصيدة، (من دجى النسيان من حُجُب الضبابِ/ جئت بابي/ تكسرُ القُفل الذي قد صدأ/ تخمش الجرح الذي قد بدأ/ في متاهات اغترابي)، هذه الفقرة تنطوي على تصوير لشيء غائب، وإخبار عن عنفوان هذا الشيء الطارق والضارب، فرغم انه جاء من عالم النسيان، ومن خلف ستائر الضباب، إلا أنه يملك قوة أن يكسر قفلاً، ويجتاح هذه الروح التي قد تكلس نبضها، هذا الطارق الذي لم يكن مجهولا، ولا معلوما - ايضا - ينكأ جرحا، ويصر على الدخول الى حضرة الروح، لينهض أحلام الشاعر من جديد، هذه الأحلام السجينة، والتي أثقلت الشاعر بشحنة من الألم، طالما أنها أحلام حبيسة الورق..
وينتقل الشاعر لاستخدام أسلوب المنادي، ليأخذنا الى منعطف مجازي آخر، بعد أن تكون الحالة الشعرية اكتملت وتشبعت، ويأتي النداء كنوع من الصراخ المستغيث:
يا عذابي..
يا عذابي..
كل عام مرَّ من عمري وعمرك
قبل هجرك
كنت استنشق من ظلمة يأسي
ضوع فجرك
وتعتبر هذه المناداة كأنها البوابة التي تعبر منها عدة معانٍ، وتهمل كسببٍ حتمي لتأكيد مشاعر خاصة، تدفع الشاعر طوعاً، ليضم الحزن طفلاً باسماً/ «وشوشته الروح.. من رقة ثغرك».. حتى يصل الحال بالشاعر الى الوقوف على أبواب اغتراب يمتد، ويأتي هذا الطارق ليبكي، ويمد ظله امام باب الروح، بعد أن نسي الشاعر شعره، وبعد أن انفصلت الروح عن معناها، والعين عما تراه، تعود الأشياء الى طبيعتها، والحياة - كما يقولون - الى مجاريها، «بعدما شاب بمصباحي الضياء/ وذوى حسك في أوتار صوتي»..
هكذا نجد الشاعر يتنقل بين أحوال تكاد أن تكون متغايرة، لولا هذا الربط المتسلسل والمتلاحق، والذي يجعل من القصيدة - كلها - كياناً متماسكاً، لا تستطيع ان تنزع منها مفردة من هنا أو هناك، هذا الإحكام الذي يدل على إمكانية فنية راقية، رغم المشاعر المتوثبة، والقلقة والمقلقة التي تنبث في القصيدة من أولها الى آخرها، ورغم التقلبات التي تلاحظها على أحوال الشاعر، من الإخبار الى المناداة، الى التقرير الى الشعور بالاغتراب، حتى يلتقي العائد بمكانه الذي غادره - مجبراً - ويتصل الحالم بالمحلوم، ويتحول المتخيل الى واقع بعد طول غياب.
وسنلاحظ أن الشاعر يتخطى بمخيلته حدود الصورة والكناية والاستعارة الى جملة تقريرية، تكاد تصل الى البيان الصريح، للتعبير عن درجة السخط التي تنتاب الروح، وهذا - بالطبع - مشروع تماماً، فالصورة المركبة تمتثل للغة تصرخ وتشير الى مواطن الضعف او الاستهانة، او العوار الذي يصيب كل الظواهر التي يتحدث عنها الشاعر، او بالأدق يبدع من خلالها، ولذلك تتمكن الصورة الانتقادية الحادة - اذا صح التعبير -، وتتكدس العبارة بروح تهكمية عالية، او قاسية، ولذلك سنجد ان عناوين القصائد تختار أو تؤثر أن تكون واضحة، فهو يسمى قصيدة «أوروبا»، وقصيدة أخرى «العولمة»، وقصيدة ثالثة: «اليوبيل الذهبي»، ساخطاً ومتهكماً على «منظمة الأمم المتحدة».. ففي قصيدة «أوروبا» يقول:
أوروبا تحترم الانسان
والمرأة إما رائدة
أو جسد عارٍ مبتذل
فى سوق الرق المتدافع
أوروبا مأساة كبرى
في هوج الفكر المتصارع
وفي قصيدة «العولمة:
لم يعد للعصر شكل أوسمة
ووجوه الناس تبدو مبهمة
وقلوب الناس سوق مظلمة
فارق الازمان شاسع
بين قتل الأمس أو نسيان واقع.
وفي قصيدة «اليوبيل الذهبي»، وكأنه ينتزع حقيقة ناصعة من بين ضلال جاثم، أو أوهام مكرسة، فلا يسعه إلا أن يصرخ ويبوح، وكأنه يتأهب ليعلن بيانا للناس:
خمسون عام
ملأت حناجرنا هباءً والأنوف من الرغام
باسم الحضارة والتخلف للأمام
يستعبد الانسان طوعاً بالحقوق والاحتكام
يستعبد الانسان كرها بالقيود وباللجام
الإشكالية التي تتبدى في هذا النوع من الكتابة، وتتبدى أيضا من خلالها إمكانيات الشاعر على الحلول الإبداعية الموفقة، والملائمة، هي المسافة التي تنطرح بين المتعين والمتخيل، أو المعلوم مسبقاً، ومحاولة الصياغة المجازية أو الصورية لهذا المتعين المعلوم، خاصة عندما تقف بعض الأفكار الواضحة والصريحة خلف أبواب القصيدة، فكيف تتحول هذه الأفكار الى شعر، وينعقد الأمر أكثر عندما يكون الشاعر مصراً على إيراد هذه الأفكار، ولا يترك قصيدته ومعانيها وألفاظها وتراكيبها تسبح في خيال تلو خيال، فشاعرنا محمد بن خليفة العطية، يؤكد على مدار قصائده كلها أن يبرز الموقف الفكري أو السياسي أو الاجتماعي، ويتراوح هذا التأكيد بين الصياغة المباشرة أحيانا مثل قوله في قصيدة «فالنتين»:
عيدُ حب أم أكاليل دعارة
أصبح الفاسق قديسا وصار
بدعة سنت بأهواء نراها
إذ مضى الداعون في إحيائها
ففالنتين أشاع الورد عارة؟!
الفسق عيدا حينما فض البكارة
وفقت بين حمار وحمارة!
بين جهل وفسوق وتجارة!
وفي قصيدة «الأمنية النائمة» نجد لغة منسابة ورقراقة تتجسد فيها رقة وعذوبة، وتشكيلات صورية بديعة مثل:
ألجمت نفسي بصبر قد تبدده
حتى نظرت وعين الروح هائمة
فما أنست دعاءً كنت ألفه
وما همست بثغر كنت ألمسه
أيدي الزمان وما يجري به القدر
بين الجفون وقد أودى بها السهر
بين العيون التي يدعو بها الحور
همس المجد به الأشواق تستعر
وسنلاحظ ان الشاعر - هنا - لاعب ماهر في مضمار التقديم والتأخير، واللعب في الفن وفي اللغة، هو المجال الحيوي الذي تتنفس فيه قدرات الشاعر، وربما دون اللعب في الفن، لا تقوم له دولة، وتنهض معه متعة، للدرجة التي تجعلنا نغامر ونقول لا يوجد فن دون لعب.. ولا تغيب المتعة عندما تقرأ فقرات مثل: بين «العيون التي يدعو بها الحور» أو «همس المحب به الأشواق تستعر».. او «فالشك يطلب ظني في تيقنه» أو «حتى تماوج وجداني فعاتبني»، ولا يقتصر اللعب على مستوى تركيب الجملة، أو تركيب المعنى - فحسب - بل أيضاً، في اشتقاقات لفظية، تحمل قدراً من كثافة مثلما في اشتقاق.. تهتلر.. وتعنتر، فهنا الشاعر يصطاد المعنى أو الفعل الذي يوحي به اسمان أو علمان لهما صفات تعورف عليها، فيحول الاسم الى فعل، ولا يكتسب الاسم الدلالات التاريخية التي تكونت في الاذهان، بل - ايضا - يأخذ شكلا مستقرا كفعل صحيح.
ويتخذ اللعب شكلا آخر في معكوسات المعاني، او الثنائيات المتضادة، وهي كثيرة، وعلى سبيل المثال:
«إني احتضنت الذكريات مصافحا»
فمن المعروف ان الذكريات هي التي تحتوي الانسان وليس العكس، او يقول:
فما نطقت بشيء غير ذي شجى
وقد طربت وقلبي هزه الوترُ
فالأساس أن الوتر هو الذي يهتز، واهتزاز القلب من المفترض ان يكون تاليا لهزة الوتر..
أو في قصيدة «شكوى» يقول:
وطائر هام في الأجواء منزلقاً
شق السماء وتطوى تحته السحب
فالانزلاق حركة توحي بالهبوط، والانحدار، ولكنه هنا يستخدمه الشاعر في معانٍ أخرى تفضي الى الصعود، والارتقاء في مدارج السماء، حتى يطوي الطائر الهائم والسابح في الفضاء تحت اجنحته السحب الكثيفة..
وتبلغ ذروة اللعب في الاستخدامات المزدوجة مثلما يستخدمها في:
«أمَّنتُهُ الله في أحضان دوحتنا
والدمع هاجمه بالروح ينكسب»
«فدوحتنا» تعني البلاد تارة، وتعني الشجرة الوارفة تارة اخرى، أو:
«هبوا لأقصاكم وما أقصاكم
عنه فقد عدتم به أغرابا»
وبالطبع يقصد هبوا لأقصاكم، المسجد الأقصى، وأيضا استدعاء الشقيق الأبعد، وهذا هو حلم الشاعر في التوحد، ولم الشتات، وله في ذلك معان وقصائد صريحة..
ثم قبل أن نترك امكانيات الشاعر في الاسترسال في لعبه، لا نغفل ما يحاول في مضمار المحارفة أو الاصاته كما يسمونه، وهي ايضا شواهدها كثيرة: «تخطو خطانا»، و«التراجع مرجع»، و«رحلوا وقلبي عامر بهِمُ وهم»، «أصبح الفاسق قديسا»، وغيرها.
والشاعر مرشح أن يكتب في شتى الضروب، كما أسلفنا في مقدمة هذا المقال، المرأة والوطن والقضايا الاجتماعية والسياسية، وتتراوح عناوين قصائده بين المعرف والمنكر.. فالمعرف بأل مثل «الجفاف، والعود، والعولمة.. ولكننا سنجد أن صيغة التنكير في العناوين مستخدمة بشكل اكثر، فهي الصيغة التي تغلب على معظم عناوين الشاعر، مثل «عملاق»، و«معنى»، و«انكسار»، و«حنان»، و«فراغات»، و«استرحام»، و«ثكلى»، و«شكوى»، و«زيف»، و«رحيل»، و«جراح».. وربما بهذه الصيغة التي ارتآها الشاعر في أغلب عناوين قصائده تعطي ايحاء بالديمومة، أو بالعمومية، اكثر منها خصوصية، رغم ان متن القصيدة يأخذ شكل التخصيص، فمثلا في قصيدة «رحيل» يقول:
ها هم أعز الناس قد هجروني
رحلوا وقلبي عامر بهم وهم
أسفي عليهم كلما طرق الهوى
أنفوا الحياة وعندها تركوني
أشباح ذكرى لم تزل بعيوني
أبوابهم وأجبته بحنين
ومن أعذب قصائد الشاعر، وأرقها، وفيها يطلب الشاعر من الله المغفرة، وفيها نصوع شديد الوضوح لروح مُعذَّبة، وضارعة الى الله، طالبة من الله الرضا وهي قصيدة «استرحام» يقول الشاعر:
ربي غفرت من الذنوب عظائما
وهديت من أمم العصاةِ ألوفا
فإلام أمكث في الضلال وأنت لي
نور الحياة وقد ولدت حنيفا
يا مالك العرش العظيم جلالة
بكريم حلمك أنقذ الملهوفا
أمسى فؤادي عند بابك ساجداً
فارحم بعونك من خلقت ضعيفا
ولا يفوتني قبل أن اغلق باب هذا المقام/ المقال، لديوان «ذاكرة بلا أبواب»، أن أشير الى ان تراوح الشاعر بين قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية، ربما يجهد طاقة الشاعر، فهناك شعراء كبار - حقاً - استطاعوا أن يكتبوا النوعين، وأفلحوا تماما، وقدموا نماذج في المستويين ليست تجارب جيدة فحسب، بل تجارب رائعة، مثل الشاعر حسن توفيق، والشاعر الكبير محمود حسن اسماعيل، والشاعر مصطفى بهجت بدوي، وربما أن بعض الشعراء خلطوا بين الشكلين في قصيدٍ واحد، ولكنني أرى أن شعرية بن خليفة العطية مرشحة أكثر لقصيدة التفعيلة، حيث أنه قادر على التخلص من قاموس معجمي يكاد ألا يعبر في بعض القصائد عن المعاني المنبثة في القصيدة.. حتى يجد الشاعر نفسه مجبرا على استخدامات لفظية مفروضة على القصيدة فرضا، وهذا ينسحب - أحيانا - على الاستخدام القافوي الذي يكون - أحيانا - متعسفا، وربما مفرغا لدلالة ما سبقه.
هذه الملاحظات الأخيرة، تدفعنا للقول بأن موهبة الشاعر وامكانياته الجيدة، وتمكنه من اخضاع الإشكاليات لقدرته على حلها، وتضعنا أمام شاعر لديه من الموهبة ما يؤهله لأن يظل شاعرا حقيقيا جميلا، تنطلق قصائده من قطر الى كل أرض عربية .
التعليقات (0)